النجاة من الشبهات
إن التعلق بالله – تعالى -، والانطراح بين يديه، والافتقار إلى الله في جميع الأحول، يحفظ العبد من بريق الشبهات وتزويقها.. فكم من عبد مُخْبِت قد سدّد الله شأنه، وأنار بصيرته، وإن كان متوسط الذكاء، أو دون ذلك، وكم من ذكي رقيق الديانة قد حُرِم برد اليقين، فهو في لجج الشبهات ليس بخارج منها.
يقول ابن تيمية – في هذا المقام -: «وقد يكون الرجل من أذكياء الناس، وأحدِّهم نظراً، ويعميه الله عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس، وأضعفهم نظراً، ويهديه لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.
فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خُذِل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما يدعو ربَّه: «يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك..»[1].
قال الله – تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 112 وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112-113].
قال الشنقيطي: «وقوله: {وَلِتَصْغَى إلَيْهِ}، أي تميل إلى ذلك القول المزخرف المزين الباطل؛ ليكون سبباً للضلال، فتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ لأن المؤمنين يعرفون زخارف الشيطان ووسوسته، فيتباعدون منه ويجتنبونه..»[2].
والحاصل أن التعلق بالله والدار الآخرة يحفظ العبد من شراك الشبهات وزخرفها، «والاستقراء يدلُّ على أنه إذا خلص الإيمان إلى القلب لم يرجع عنه..»[3].
ولا بُّد من العبادة والإيمان، من العلم والرسوخ في الشرع، والتفقه في دين الله، فهما أمران متلازمان: العلم بالله وخشيته، والعلم بأحكام الله وشرائعه، وبهما يتحقق الثبات على دين الله، والسلامة من الشبهات.. كما حرره ابن تيمية بقوله: «فإن الإنسان قد يؤتى إيماناً مع نقص علمه، فمثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره، وأما من أوتي العلم مع الإيمان فهذا لا يرفع من صدره، ومثل هذا لا يرتد عن الإسلام قط، بخلاف مجرد القرآن أو مجرد الإيمان، فإن هذا قد يرتفع، فهذا هو الواقع»[4].
فعلى المحاضن التربوية أن ترسِّخ العلم الشرعي في الأجيال، وتحقق البُلغة من التفقه في دين الله، كما أن عليها أن تسعى إلى ترويض نفوس الناشئة بالتعبّد المشروع والسمت النبوي، وإعداد برامج علمية وعملية في تزكية النفوس.. فالقلوب الخاوية من روح الإيمان، ونور البصيرة، والعقول الفارغة من علوم الشريعة هي المرتع الفسيح للشهوات والشبهات.
علينا أن نشرع ابتداءً في تقرير المسائل الدينية بدلائلها النقلية والعقلية والفطرية، ويكون الردُّ على الشبهات تبعاً لتلك التقريرات، وهذا ما ألمح إليه ابن تيمية بقوله: «ونحن نذكر ما يُستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع ما يستفاد من كلام الله، فَيصلُ المؤمن إلى ذلك [مسائل الإيمان والإسلام] من نفس كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو المقصود، فلا نذكر اختلاف الناس ابتداءً، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله..»[5].
وقال – في موطن آخر -: «وإنما يذكر [القرآنُ] الحقَ والأدلةَ الموصلةَ إليه لذوي الفطر السليمة، ثم إذا اتفق معاند أو جاهل كان من يخاطبه من المسلمين مخاطباً له بحسب ما تقتضيه المصلحة»[6].
الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلا بُّد من توصيف الواقع الحاضر بعلم وعدل، وما يكتنفه من الشبهات، ومدى ظهورها، بلا تهويل ولا تهوين.. ثم ينظر في الشبهات التي هي أكثر ظهوراً وتأثيراً، وأما تتبع جميع الشبهات، وملاحقة الاعتراضات فليس مشروعاً ولا مقدوراً..
يبيّن ابن تيمية ذلك بقوله: «ومعلوم أن الباطل ليس له حدّ محدود، فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل، وأن يردّوه، فإن هذا لا نهاية له..»[7].
ثم إن لزوم الشرع، والاعتصام بالسنة يحتاج إلى رؤية وتؤدة، بخلاف الشبهات فإنّ لها وثْبةٌ وخِفَّة، فلا يستخفنَّك الذين لا يوقنون.
وهذا ما أشار إليه ابن عقيل الحنبلي قائلاً: «الفقهاء والمحدِّثون يقصِّرون عن إزالة الشبه؛ لأنهم عن النقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقلِّلون، فهم حال الأجوبة عنها ينظرون في العاقبة، والمبتدعة يتهجمون، فعلومهم فرح ساعة، ليس لعلومهم ثبات..»[8].
فما أكثرَ ركامَ الشبهات، وزخمَ الاعتراضات! ومع ذاك المكر الكُبَّار فالدين منصور، وحججه ظاهرة، والإقبال عليه يفوق الوصف، فالعاقبة للمتقين.
ينبغي أن تراعى أحوال النفس وكمائنها في الجواب عن الشبهات، فهناك نفوس تعزف عن الأجوبة الظاهرة الجلية، وتؤثر الأجوبة الدقيقة الخفية، لما فيها من حبّ التفرّد والتمايز على سائر النفوس..
وهذا ما اكتشفه ابن تيمية قائلاً: «الأدلة التي فيها دقة وخفاء، ينتفع بها من تعوّدت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، أحبّ إليه من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور.. لما في النفوس من حبّ الرياسة»[9].
وفي المقابل فإن لدد النقاش مع صاحب الشبهات، قد يدفعه إلى العناد ومزيد من الإصرار.. فأهواء النفوس لا حدّ لها.
وهذا ما أشار إليه أبو حامد الغزالي.. لما تحدّث عن آفات علم الكلام وما فيه من خصومة وجدال.. فقال: «فيه مضرّة من إثارة الشبهات، وتأكيد اعتقاد المبتدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل»[10].
فاللهم إنَّا نسألك الثبات على الدين، وبرد اليقين، اللهم ارزقنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه.
كتبه/ عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف.
__________________________
[1] درء تعارض العقل والنقل 9/34.
[2]العذاب النمير 2/584 = باختصار يسير.
[3]مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 562.
[4]مجموعة تفسير ابن تيمية ص 149.
[5]كتاب الإيمان ص 1.
[6]تعارض العقل والنقل 8/88.
[7]تعارض العقل والنقل 7/76، وانظر: الدرء 3/162، 5/320.
[8]تعارض العقل والنقل 8/64.
[9]تعارض العقل والنقل 8/86 = باختصار يسير.
[10]الإحياء 1/167.