خطورة الشبهات
من أعظم ما ابتليت به الأمّة الإسلامية، كثرة أعدائها وانتشارهم، وامتحان أهل الحق بأهل الباطل وهذه هي سنة الله كما قال تعالى: { أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ } [سورة البقرة:214]، وقال تعالى:{ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ } [سورة العنكبوت:2].
فبين سبحانه أنّه لابد من الفتنة وأن يُبتلى الناس ويُمتحنون ويختبرون ليظهر الصادقون من الكاذبين، ومن جملة هذه الابتلاءات ما يتعرض له الناس من وقوع في الشبهات والتأثر بها، ولذلك كان لزاما التحذير من هذا الخطر والشر.
وقد جاء في القرآن والسنة المنهج القويم في التحذير من الشبهات وبيان خطرها وخطر التعرض لها فمن ذلك: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ} [سورة الأنعام:68].
قال ابن عون: وكان ابن سيرين يرى أن هذه الآية في أصحاب الأهواء([1])
وقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ } [سورة آل عمران:7] جاء عن عائشة -رضي الله عنها – قالت: ” تلا رسول الله ‘ هذه الآية ثم قال «إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» ([2]).
وفي الحديث عن عمران بن حصين، يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمِعَ بالدجّال فَلينَأَ عنه، فوالله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنَه مؤمن فيتبعه، ممَا يبعث به من الشبهات»، أو «لما يبعث به من الشبهات»([3]).
فهذان الحديثان أصل في بيان خطر وعظم الشبهات، وأنّ الواجب الابتعاد عنها والحذر منها.
ولخطورة الشبهات كان السلف يجتنبون سماعها، أو التعرض لها خوفاً على أنفسهم، مالم تقض الحاجة للرد عليها، قال الحافظ الذهبي: “أكثر أئمة السلف على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشبه خطافة”([4]).
ويقول أيضاً: “فالله قطع كل شبهة يتعلق بها المبطلون، فالأحوال المختصة بالنبي كلها متوفرة على صحة رسالته، وعلى نفي الشبهات القريبة والبعيدة، وهذا من رحمة الله بعباده، لأن جمهور الخلق يخشى عليهم من كل شبهة تقال أو توجه إلى دعوة الرسل لعدم بصيرتهم”([5]) .
فانظر -رحمك الله- إلى كلام هذا العالم البصير، الذي يبين حال عامة الناس مع الشبهات، وموقفهم منها، وخطرها عليهم، وشدة وقعها على الناس.
ومن عظم شدتها وخطورتها على القلوب أن من ناقش أصحابها وهو غير متمكن تأثر بهم، ويوشك أن يقول بمقالهم، ولذلك حذر السلف من مجالسة أصحاب البدع أو التكلم بشبهاتهم على من لا يعقلها يقول سفيان الثوري رحمه الله : “من سمع ببدعة، فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم”([6]).
قال السيوطي: “كان طاووس جالساً يوماً وعنده ابنه، فجاء رجل من المعتزلة، فتكلم في شيء، فأدخل طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال: يا بني أدخل إصبعك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف. ثم قال: أي بني أشدد، فما زال يقول أشدد حتى قام الرجل”([7]).
يقول ابن بطة العكبري: “اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواما من السنّة والجماعة، واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين: أحدهما: البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا يغني، ولا يضر العاقل جهله، ولا ينفع المؤمن فهمه. والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته”([8]).
وانظر ما نقله ابن القيم عن شيخه إذ يقول: ” وقال لي شيخ الاسلام ¬ وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمرّ عليها صار مقراً للشبهات” ([9]).
وتتأكد خطورة هذه الشبهات في عصرنا الحاضر الذي تتسارع فيه التقنية بنقل المعلومات، خاصة في شبكات التواصل الاجتماعي، فلامست سمومها كل طبقات المجتمع، سواء الصغير أو الكبير، المتعلم والمثقف، والطالب والأكاديمي، وأصبحت في متناول الجميع بغثها وسمينها، ومن هنا نشط أهل الضلال، أعداء الحق والفضيلة.
ومما يزيد الامر سوءا أن جمهور المتلقين لا يتسم بالبحث والسؤال، بل متلقٍ لكل ما يصله بالتسليم، ومن هنا دخل البلاء على المجتمعات التي هي شبه عارية من التحصين الفكري.
كذلك إذا نظرنا الى المادة المعروضة لأهل الاهواء والشبهات، يلاحظ عليها الإثارة والتشويق، ليتقبلها المجتمع بسهولة وارتياح، ومع وجود الأسلوب الحسن في العرض والتشويق الممتع، نجد في المقابل ضعف في الجانب الآخر، جانب أهل الحق والخير للرد عليهم وتبيين ضلالهم والله المستعان.
([1]) القدر للفريابي (ص:216).
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 33) برقم: (4547) كتاب تفسير القرآن ، باب : منه آيات محكمات ومسلم في صحيحه (8/56) برقم: (2665) كتاب العلم ، باب النهي عَنْ اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عَنْ الاختلاف فِي القرآن.
([3]) أخرجه أبو داود في سننه (4/ 197) برقم: (4319) كتاب الملاحم ، باب خروج الدجال، وأحمد في مسنده (8/ 4581) برقم: (20192) والحاكم في مستدركه (4/ 531) برقم: (8710) كتاب الفتن والملاحم ، من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه، وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.
([4]) سير أعلام النبلاء، 7/261.
([5]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 357).
([6]) سير أعلام النبلاء (7/ 261).
([7]) حقيقه السنّة والبدعة = الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: 79).
([8]) الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 390).
([9]) مفتاح دار السعادة (1/ 140).