كيفية التعامل مع الشبهات

شروط وآداب في مناقشة الشبهات.

لابد لمن أراد مناقشة شبهة من الشبه الموجهة للإسلام بشكل عام، وللسنة النبوية بشكل خاص جملة من الشروط والآداب والضوابط التي يراعيها ويلتزم بها، وذلك لإظهار الحق والرد على الافتراءات وفضح الأباطيل والأكاذيب والتصدي لأهلها، ومن جملة تلك الشروط والآداب([1]).

أولاً: الإخلاص:

ممّا لابد أن يعلم أنّ الردّ على الافتراءات والشبه الموجهة للسنّة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، أمر تعبدي يفعله المؤمن تقربا الى الله ¸ وطلباً لمرضاته، والأعمال الصالحة لابد أن يصاحبها إخلاصٌ لله تعالى ففي الحديث عن عمر بن الخطاب t قال سمعت رسول الله ‘ يقول ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ([2]).

فتعهد النيّة أمر لابد منه لمن ولج هذا الباب العظيم بأن يجعل همه مرضاة الله، والدفاع عن دينه، وسنة نبيه ‘ وليحذر من مكر الشيطان، وكيده.

ثانياً: الإستعانة بالله تعالى، وتحصين المرء لنفسه:

العبد فقير الى ربه ومولاه، ومهما بلغ من قوة في العلم والحجة والبيان يبقى مفتقراً لمعونة الله تعالى وتثبيته، قال تعالى: وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡـٔٗا قَلِيلًا ٧٤ إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا } [سورة الإسراء:74/75].

قال ابن سعدي- رحمه الله-: “وفي هذه الآيات، دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقًا لربه، أن يثبته على الإيمان، ساعيا في كل سبب موصل إلى ذلك لأن النبي ‘ وهو أكمل الخلق، قال الله له: { وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡـٔٗا قَلِيلًا }فكيف بغيره؟ وفيها تذكير الله لرسوله مِنَتَهُ عليه، وعِصْمَتُه من الشر، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أن يتفطنوا لإنعامه عليهم -عند وجود أسباب الشر – بالعصمة منه، والثبات على الإيمان”([3]).

فالحذر من أن يغتر المرء بنفسه وعلمه وحجته.

والواجب على الإنسان تحصين نفسه بالإيمان والخشية والتعلق بالله، والتعبد والاعتصام بالله يجعل المرء في حصانةٍ من أن تنزعه الشبهات، كذلك لابد من التحصين الفكري لأصول العقيدة الاسلامية، حتى لا يؤتى من جهله وقلة علمه.

ثالثاً: التأصيل العلمي:

لابد لطالب العلم والمتصدّي للشّبهات بشكل أخص من التأصيل العلمي المتين، لأن من أهم مقومات الرد على أهل الأهواء ودحر باطلهم العلم، ومن أهم تلك العلوم: العلم بالكتاب والسنّة الذين هما أساس كل العلوم بفهم صحيح سليم، ولأن الشبهات داء فدواؤها العلم، ولا يمكن لمن بضاعته في العلم ضعيفة أن يحصن نفسه فضلا أن يرد على الشبهات.

ومن العلوم المهمة التي يجب أن يلم بها القران ومعانيه، والسنّة وعلومها، والعقائد، والفقه وأصوله، والسيرة والتاريخ، وغيرها مما له علاقة وارتباط كعلوم العربية.

ولا يشترط أن يكون ملماً بدقائق وتفاصيل كل باب من هذه الابواب، بل يكون لديه أصلا في كل باب مركزي من أبواب الشريعة، وهذا الأصل يأوي اليه كلما أُحْدِثت شبهة جديدة، مثل رد المتشابه الى المحكم، مع تعمقه في الفن الذي يناقش به الشبهات ومعرفة تفاصيله ودقائقه.

رابعاً: الثقة في قوة الحق مع الرغبة في إظهاره:

إن دين الإسلام دين الحق، والحق أبلج واضح، قادر على إزهاق الباطل وإظهار ضعفه، فعلى كل من يتصدى للرد على الشبهات، أن يكون على تمام الثقة من قوة الحق الذي يحمله ويدافع عنه، وليكن على يقين أن دين الاسلام وسنة ولد عدنان لا يمكن أن تشوبه شائبه، أو تلحقه منقصة، لأنه الدين الكامل والنعمة التامة والشرعة المرضية من رب العالمين قال تعالى: { ﭺ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ }  [سورة المائدة:3].

ولذلك فالمناظر المؤمن يكون مصدر قوته الرئيس وسبب انتصاره الأساسي -بعد عون الله- هو الحق ذاته الذي يحمله ويصدر عنه.

ومهما كثرت الافتراءات واستعصى بعضها عليه في لحظات، فلا ينبغي أن يفت ذلك في عضده أو يؤثر في ثقته في الحق الذي يحمله أبداً، بل عليه أن يستحضر دوماً تقصيره وضعفه، وفي نفس الوقت يقينه بالحق الذي يدافع عنه.

ولابد من أن يكون هدف المناظر أو المحاور هو ظهور الحق وبيانه ووصوله للناس، وإزهاق الباطل والقضاء عليه، سواء أَتَمَّ الله ذلك على يده أو على يد غيره، وسواء نطق بهذا الحق لسانه، أو جاء على لسان غيره.

قال الشافعي: “وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي حرف منه” وقال: “ما ناظرت أحداً قط على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه” وقال: “ما كلمت أحداً قط إلا وددت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ”([4]).

وإن اتضح للمناظر أنه قد وقع في خطأ أو جانب الصواب، فيجب عليه أن يسارع بالرجوع عنه، ويقبل الحق حيث كان ومن أي شخص صدر منه، ولا يستحي أن يعتذر عن خطأه ورجوعه عنه، فإن الرجوع إلى الحق فضيلة.

خامساً: الثبات على الحق وعدم التنازل عن جزء منه:

من أهداف المفترين على الإسلام إصابة المسلمين بهزيمة نفسية وإلجائهم للتنازل عن بعض ثوابتهم ومبادئهم، وإشعارهم بأنها منقصة يجب التبرؤ منها.

وقد يقع البعض في هذا الشَّرَكِ، وقد يكون بحسن نية، وهو لا يدري، فيفسد من حيث أراد الإصلاح، ويتنازل عن بعض الحق راغباً تحقيق انتصار جزئي، والحقيقة أنها الهزيمة بعينها، لأن هذا ما يريده أعداء الدين، الانسلاخ من الدين تدريجياً وترك مبادئه واحداً تلو الآخر، ثم إن من تنازل عن جزئية ثابتة من الدين ورأى أنه يمكن أن ينكرها، فإنه لا شك سيترك غيرها إن تسنَّى له الأمر في موقف آخر، وهكذا يمشي الأمر معه حتى لا ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.

سادساً: العدل والانصاف مع الخصم وإن تعدى:

الإسلام دين يدعوا للعدل والإنصاف مع الجميع، ولا يحل ظلم أحد من الناس مهما تعدى وظلم، ومهما كنا له مبغضين كارهين، قال تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ } [سورة المائدة:8].

ومن العدل والإنصاف، عدم تحميل الخصم مالم يقله، أو يأخذه بجريرة غيره، ما لم يكن متسبب أو راض بها، ولا يعتدي عليه بغير حق.

فالمؤمن يرد الباطل بالحق، ويدفع الظلم والبهتان بإقامة العدل والإنصاف، ولا يتعدى حدود الله بكذب أو ظلم أو افتراء أو طعن بغير بينة أو دليل.

سابعاً: الرفق والتلطف مع الخصم المنصف المهذّب:

الأصل في التعامل مع المخالف أن يكون بالرفق واللين، وأن تتم دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يمكن تجريده من التعصب والرغبة في الإنتصار للنفس، وسد ذرائع العناد والكبر التي قد تدفعه للإصرار على الباطل ورفض الحق.

قال تعالى: { ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ } [سورة النحل:125].

وفي الحديث عن عائشة ~ أنّ النبي r قال: ((إنّ الرفق لا يكون في شيء إلا زَانَهُ وَلاَ ينزع من شيء إلا شانه))([5]).

ثامناً: الحزم والشدة مع المكابر المعاند الذي يسيء الأدب:

إذا كان الخصم من النوع المكابر المعاند الذي يسيء الأدب ويستهزئ بالمقدسات ولا يحفظ حرمة الدين أو الخلق ولا يجدي معه اللين والرفق، فلا بأس من استخدام الشدة معه والإغلاظ عليه، وإظهار البأس والقوة له، فكثيراً ما تكون الشدة زاجراً لأمثاله، ودافعة لهم لالتزام شيء من حسن الخلق، وقدر من التأدب والانضباط.

ويجب أن يكون الرادّ ذا شخصية قويةحازمة، فلا يسمح بمقاطعته قبل أن يتم كلامه ويوصل فكرته كاملة، ولا يخضع لأي محاولة تبتغي تشتيته، أو استفزازه أو إخراجه عن تركيزه، ولا يسكت على أي تطاول أو خروج عن حدود الأدب والخلق، بل يواجه كل ذلك بصرامة وحزم، يلقي المهابة في قلب الخصم.

تاسعاً: وفرة المعلومات:

يجب أن يكون الراد على الشبهات قارئاً مطلعاً، في كل باب من أبواب المحاور التي يناقش فيها مثل، لأن النقاش يتشعب الى أمور اخرى غير المسائل التي يتكلم فيها، وهذا شرط كمال، فكلما كانت المعلومات أكثر وفرة كنت أكثر تميزاً.

عاشراً: الإلمام بأصول الشبهات وتاريخها ورموزها:

لابد من معرفة تاريخ الشبهة ومنشأها وأبرز المنطلقات التي ينطلقون منها في نشر شبهاتهم، والتشابه بين الشبهات والتمييز بين الشبهات ومآخذها ومنازعها، وهذا مما يسهل الرد على صاحبها، وبه تبطل الشبهة، وتدحض أدلتها.

مع التنبيه على معرفة شخصية المحاور، ومعرفة طرائقه، وأساليبه.

الحادي عشر: إتقان مهارات الجدل والحوار:

من الأمور المهمة والضرورية للمناقش والمحاور لأصحاب الشبهات، تعلم مهارات البحث والجدل والمحاورة، وأهم هذه المهارات:

البحثية:

  وهذه من أهم الأمور التي يجب على المحاور العلم بها، معرفة المصادر والمراجع التي تنقد هذه الشبهات، ومعرفة الكتب الخادمة، وسرعة الوصول لهذه المعلومة التي يريدها المناقش.

النقدية:

حتى يتسنى له اكتشاف الخطأ في الاستدلال ومعرفة مثارات الغلط، وكلما كان عند المناقش حس نقدي، كلما كان عنده قدر على اكتشاف الخطأ لدى الخصم، مثل قضية المغالطات المنطقية والاطلاع عليها.

المهارات الإقناعية الجدلية:

وهي ليست منفكة عن النقدية، النقد ثم الإثبات، والمقصود هنا هي التي تجعل الإنسان يستدل بشكل صحيح، موافق للسياق، مع معرفة تركيب الدليل بشكل صحيح، ومناسبة الدليل للشخص المقابل.

الثاني عشر: خبرة تنمية الملكات لديه:

الخبرة من الأمور المهمة، خاصة لمناقش أصحاب الشبهات، حتى يستطيع أن يتعامل مع الأشخاص والمواقف والنصوص بما تقتضيه المصلحة، والخبرة من الأمور التي لا تتحصل بالقراءة المجردة فقط، فلا بد من الممارسة، للمناقشة والرد والعيش مع أساليب المحاورة، كذلك المزاملة لمن له خبرة في هذا المجال.

الثالث عشر: عدم الجلوس في مجالس الشتَّامين والمستهْزئين:

لا يجوز للمسلم أن يقعُد في مجلس يُسبُّ فيه الله ورسولُه r أو يُكفر فيه ويُستهزأ بآيات الله، أو يُطعن في أعراض أمَّهات المؤمنين ويُقدح في صحابة الرَّسول r فإنَّ وجود المسلم في مثل هذه المجالس منكرٌ عظيم وشرٌّ مستطير قال الله تعالى: { وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا
فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ
ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } [سورة الأنعام:68]. وقال: { وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [سورة النساء:140].

وممَّا يؤسف له أنَّنا كثيرًا ما نجد بعض المسلمين يقْعدون في مثل هذه المجالس بحجَّة أنَّهم يردُّون على الافتِراءات ويدافعون عن مقدَّسات الدين.

والحقُّ أنَّ عملهم هذا ما زادهم إلاَّ ذلَّة وخزيًا؛ لأنَّ رضوان الله لا يطلب بمعصيته، ونُصرة الدين لا تكون إلاَّ بالانقياد والتَّسليم لأوامر الله، فلو أنصفوا أنفُسَهم واتَّقوا ربَّهم ما دخلوا تحت قوله تعالى: {  إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ ﰀ }[سورة النساء:140].

فهل يظن هؤلاء أنَّهم أغير على الدِّين من رب العالمين؟! وهل يظنُّون أنَّهم أكثر قدرة على نصرة الدين من رسول الله r الذي نهاه الله تعالى عن حضور هذه المجالس فأطاع ربَّه، وانقاد لأمره وهو أقدر النَّاس على الرَّدِّ، وأجدرهم بالدفاع عن الدين؟!

الرابع عشر: عدم مجاراة المفترين في سوء أخلاقهم

:إذا أساء المفترون أدبَهم وتفحَّشوا في القول، فهذا ليس مبرِّرًا لمجاراتهم في سوء الأدب، وليس مسوغًا لمبادلتهم التفحُّش والسباب، فهم ليسوا قدوةً لنا حتَّى نتابعهم فيما يفعلون.

إنَّ قدوة المسلم وأسوته هو الرَّسول الكريم محمَّد rالذي قال الله تعالى فيه: { لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا } [سورة الأحزاب:21].

ورسول الله  r هو أكمل النَّاس خلُقًا وأتمُّهم أدبًا وخيرهم هدْيًا، وحسْبُنا في ذلك قول الله تعالى له: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} [سورة القلم:4].

وعن عبدالله بن عمرو ƒ قال: لم يكن النبي r فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقا)) ([6]).

ولذلك؛ فإنَّ من الواجب على من يتصدَّى للرَّدِّ على افتراءات الشتَّامين، وغيرهم من أعداء الدين، ألاَّ يجاريهم في سوء أدبِهم ويشابههم في انحِطاط أخلاقهم، فلا يبادلُهم السبابَ بالسباب والشَّتم بالشَّتم، ولا يردُّ عليهم الفحش بمثله؛ لأنَّه إن فعل ذلك خالفَ هدْيَ نبيِّه – ‘ – وساوى نفسَه بأولئك الشتَّامين، وصدق الشَّاعر إذ يقول:

إِذَا جَارَيْتَ فِي خُلُقٍ دَنِيئًا ♦♦♦ فَأَنْتَ وَمَنْ تُجَارِيهِ سَوَاءُ([7]).

عن عائشة  ((أن يهود أتوا النبي r فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم، قال: “مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش” قالت: أو لم تسمع ما قالوا قال: “أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في)) ([8]).

وفي لفظ أنَّ رسول الله rقال: ((مهْ يا عائشة، فإنَّ الله لا يحبُّ الفحش والتفحُّش))([9]).

مع التنبيه هنا إلى أنَّ أبلغ الرُّدود على إساءات هؤلاء هو الردُّ العلمي على إفتراءاتهم، وإظهار تهافُتها وجهْل وكذب قائليها، مع بيان ما في معتقداتِهم من عوار، وما في مذاهبهم من مثالب وسوءات يندَى لها الجبين، بأسلوب علمي يبعد عن الإسفاف والتفحُّش.

الخامس عشر: حب هدايته وإظهار ذلك له.

السادس عشر: دعاء الله للنفس وللخصم :

قال الله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [سورة غافر:60] فمن جَميل الخُلق أن يحرص كلُّ مَن يتصدَّى للرَّدِّ على فرية أن يدعو الله دومًا أن يوفِّقه ويسدده، وأن يلهمه الصَّواب، ويعصمه من الزَّلل، وأن يؤتِيَه الحجَّة البالغة والبرهان السَّاطع، وأن يرزقه حسن البيان والبلاغة في الخِطاب، وأن ييسِّر له أمرَه ويشرح له صدره، ويغفِر له خطأه، ويرزُقَه الإخلاص، ويجعل عملَه مقبولاً مأجورًا، ويجعله من الهداة المهتدين.

وله في موسى r أسوة حين قال: { قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي ٢٥ وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي ٢٦ وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي ٢٧ يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي ٢٨ } [سورة طه:25-28].

كما يحسن منه أن يدْعو لخصمه أن يهدِيَه الله إلى الصَّواب، ويشرح صدرَه للحق، وأن يقِيَه شرور الشَّياطين ومكايدهم؛ فإنَّ المؤمن يحب الهداية للنَّاس جميعًا ويرجو لهم الخير، وهداية رجُل واحد على يديْه أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها.

ففي الحديث عن النبي r قال ((فوالله لأن يُهدَي بِكَ رجلٌ واحدٌ خير لك من حُمْرِ النَّعَم)) ([10]).

([1]) انظر: أصول الجدل والمناظرة في الكتاب والسنة، حمد العثمان: ص 522.

([2]) أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 6) برقم (1)كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ‘.

([3])  تيسير الكريم الرحمن (ص: 464)

([4])   انظر هذه الآثار في المجموع شرح المهذب، للنووي (1/ 28).

([5]) أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 22) برقم: (2594) كتاب البر والصلة والآداب ، باب فضل الرفق.

([6]) أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 189) برقم: (3559) كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم،ومسلم في صحيحه (7 / 78) برقم: (2321) كتاب الفضائل ، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم.

([7])  البيت لأبي تمام  الطائي، انظر، جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، للهاشمي: 2/454.

([8])  أخرجه البخاري في صحيحه (4 / 44) برقم: (2935) كتاب الجهاد والسير ، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم في صحيحه (7/ 4) برقم: (2165) كتاب السلام ، باب النهي عَنْ ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم

([9]) أخرجه مسلم في صحيحه (7/4) برقم: (2165) كتاب السلام ، باب النهي عَنْ ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم

([10])  أخرجه البخاري في صحيحه (4 / 47) برقم: (2942) كتاب الجهاد والسير ، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام ، ومسلم في صحيحه (7/ 121) برقم: (2406) كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.