التشكيك في عدم عربية الإمام البخاري
26 ديسمبر، 2018
غير مصنف
1,722 زيارة
من أوجه الطعن ضد صاحبي الصحيح ما ادعاه بعض المشككين في السنة من أن الإمام البخاري كان فارسيا ولم يكن متقنا باللغة العربية فأثر هذا الضعف اللغوي في تمكنه في علوم الحديث والعلوم الأخرى فكيف يمكن لمن هو قليل البضاعة في علم الحديث أن يكون أمير المؤمنين في الحديث ويكون كتابه من أصح الكتب بعد كتاب الله.
منشأ الشبهة: من عادة المشككين ومنكري السنة أنهم يبحثون في دواوين السنة وأصحابها أدنى شيء يوافق فكرتهم السيئة ثم يستغلونها لإثارة الشبهة حول السنة عامة والصحيحين خاصة، ومن نسب الإمام البخاري اختطف اسم جده “بردزبة” وادعي أنه اسم فارسي إذًا هو كان فارسيا.
الرد عليه من وجوه:
أولا: هل كان البخاري فارسيا؟
-
إن الإمام البخاري اشتهر بنسبته إلى بلده أكثر من اسمه، ولا يعرفه بمحمد بن إسماعيل إلا قليل من المسلمين، والبخاري نسبة إلى بلدة “بخارا” وهذه المدينة تقع حاليا في أوزبكستان آسيا الوسطى([1]) وتعد من أشهر مدن إقليم ما وراء النهر في بلاد التركستان على مر العصور. وظلَّت بلاد ما وراء النهر تعرف بالترك سكانًا لها،([2]) واسم “بخارى” مشتق من كلمة ” بخار” المغولية التي تعني العلم الكثير، وكانت بخارى تابعة للصينيين حتى تمكن قتيبة بن مسلم الباهلي من فتح بخارى سنة 90هـ / 709 م وعمل على توطيد أقدام المسلمين بها فبنى مسجدا ودعا أهلها إلى الإسلام. ومنذ ذلك الحين أصبحت بخارى تابعة للخلافة الإسلامية وذاع صيت علمائها وأدبائها وفضلائها([3]) وبهذا يظهر ظهور الشمس في رابعة النهار أن الإمام البخاري لم يكن من أصول فارسي كما لا نشك على أنه كان من أصول غير العرب.
-
أما قولهم أن “بردزبة” كلمة فارسية، ذكرها بعض من ترجم له ذلك([4]).
وقال ابن ماكولا: بردزبه، وهو بالبخارية، ومعناه بالعربية: الزراع([5])
ويؤيده هذا ما نجد في الحضارة البخارية قبل الإسلام أن هناك كانت تنطق أكثر من لغة في بلاد ما وراء النهر كالخوزية، والسيريانية، والدرية؛ والدرية هي لغة أهل خراسان، وبلخ بالذات([6]) ولا يلزم من كون اللفظ يوجد في لغة ولا يوجد في لغة أخرى وبمعنى مختلف.
ثانيا: هل أعجميته تقدح في كونه عالما باللغة العربية؟
من أبطل الأباطيل أن يتهم البخاري في لغته العربية لكونه أنه كان من غير العرب لأن هذا الكلام يعارض الواقع عقلا وحسا
أولا: الرد عليها منطقيا
تعلّم اللغة عمل كسبي لا يلد من البشر أحد عالم بلغة ما، بل يتعلمها بالمعايشة بين الأسرة والتعلم من أصحاب اللغة والإمام البخاري رحمه الله تعلم اللغة العربية بكلا الصورتين لأنه نشأ في بيت علم ولو ننظر إلى بداية طلبه للعلم يتبين أن كان يعرف اللغة العربية منذ طفولته حيث قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. قيل: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقَالَ: عشر سنين أو أقل” ([7])
مع هذا النص الثابت منه كيف يعقل أنه بدأ حفظ الحديث وتعلمه وهو أقل من عشر سنين من غير معرفته باللغة؟ وهو الناصح لأحد تلامذته بقوله: “يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره. قال: فقلت له: عرفني حدود ما قصدت له ومقادير ما سألتك عنه. قال: اعلم أن الرجل لا يصير محدثا كاملا … إلا بأربع التي هي: من كسب العبد أعني: معرفة الكتابة، واللغة، والصرف، والنحو([8]).
ثانيا: الردّ عليها من الواقع
إذا نظرنا في مجالات العلم والفن عبر القرون في تاريخنا الإسلامي يعلم أن الأغلب والأعلم ممن حازوا قصب السبق في كثير من هذه العلوم والفنون هم علماء من غير العرب واكتفي هنا بذكر أنموذجين أنموذج من ناحية ما أنجبت من البلدان والأماكن الأعجمية من كبار علماء الفن، وأنموذج من ناحية من تبحر في العلوم والفنون من غير العرب.
أ: أنموذج من الناحية ما أنجبت من البلدان والأماكن من العلماء:
إقليم بخارا نفسه والأقاليم المجاورة لها أخرجت عشرات من كبار أهل الفن أحرزوا قصب السبق في فنونهم
قال المؤرخ الأديب محمد قاسم أمين التركستاني في محاضرة له: إن تركستان الكبرى في خراسان ومرو وترمذ وبخارى وسمرقند …وغيرها أنجبت نجوما زاخرة فى الحديث والفقه فى العقيدة والفتيا والطب والملك وجغرافيا والأدب واللغة والفلسفة والصرف والنحو وعلم البيان والتاريخ وعلم الاجتماع، وأصح كتاب بعد القرآن لمحمد بن اسماعيل البخاري والخمس الباقون مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة أبو داود السجستانى أصبحوا أساطين علم الحديث في الشرق والغرب وهناك الزمخشري والطبري.. وإمام الحرمين الجويني وأبو حامد الغزالي…([9])
ب: أنموذج من الناحية من تبحر في علم من العلوم من غير العرب
إمام النحو سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر البصري قال أبو البركات الأنباري: وكان من أهل فارس، من البيضاء؛ ومنشؤه بالبصرة، وكان يطلب الآثار والفقه ومرة أخطأ عند شيخه حماد بن سلمة وقال له حماد: لحنت. فقال سيبويه: لا جرم! لأطلبن علماً لا تلحنني فيه أبداً، وطلب النحو([10])
قال نصر بن علي: وبرز من أصحاب الخليل أربعة: عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المعروف بسيبويه، والنضر بن شميل، وعلي بن نصر [الجهضمي] ، ومؤرج السدوسي، وكان أبرعهم في النحو سيبويه، وغلب على النضر بن شميل اللغة، وعلى مؤرج الشعر واللغة، وعلى علي بن نصر الجهضمي الحديث ([11])
ثالثا: مدى تمكن البخاري من علم اللغة
ولما تكرر أن البخاري لم يكن فارسي الأصل ولا تتعارض أعجميته من معرفته وتبحره في علم اللغة ألقى الضوء على مدى تمكنه بهذا العلم
فوصولا إلى الحقيقة يلزم على الباحث المنصف في هذا الأمر أن يكون عارفا بطبيعة البلد الذي كان ينتمي إليه البخاري لأن الناشيء يتأثر مما حوله علميا وثقافيا وتؤثر هذا في بناء الشخصية أو هدمها
1: البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأ فيه البخاري:
لما فُتحت بلاد الأعاجم وانتشر الإسلام بينهم عاش عدد كبير من الفاتحين في تلك البلدان لنشر تعاليم الدين الحنيف، وترسيخ قواعد الدين فيها وانتشرت معها اللغة العربية لعوامل عديدة
ا- أنها كانت لغة رسمية للدولة الإسلامية آنذاك فكان الناس في أمس الحاجة إليها للتعامل مع أمور حياتهم.
ب- أنها كانت لغة الفاتحين والدعاة العائشين في هذه البلاد والمغلوب بطبعه يقتدي بالغالب كما نشاهد هذا أيضا في عصرنا.
ج- حرص الدولة والدعاة إلى نشر الإسلام في الآفاق ألزمتهم بذل قصارى جهدهم على تعليم أبناء هذه المناطق اللغة العربية حتى يستغنون عنهم.
د- رغبة الناس في تعلم أحكام دينهم أجبرتهم أن يتعلموا لغة هذا الدين حتى يسهل عليهم التفقه فيه
وهذه العوامل وغيرها كانت وراء انتشار اللغة العربية في بلاد غير العربية وإضافة على ما تقدم، يعلم أن الإسلام دخل في “بخارا” في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأصبح في عصر الوليد بن عبد الملك هذا البلد وما حولها ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية ([12]) يعني قبل أكثر من قرن من ولادة الإمام البخاري وهذه الفترة الطويلة ترسخت الثقافة الإسلامية فيها وتأنس الناس منها، وبدأت تعم الصبغة العربية على ثقافة البلد ونسب الإمام البخاري رحمه الله أكبر دليل على هذا بحيث غير الجدّ اسمه بعد دخوله في الإسلام باسم عربي المغيرة وسمى ولده بإبراهيم وهو سمى ولده بإسماعيل
كما بدأت بل ظهرت مشاركات أهل هذا البلد في مجال العلم والتقدم، وخير دليل عليها إسماعيل بن إبراهيم أبو الإمام البخاري قال عنه ابن حبان في ” إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي أبو الحسن يروي عن مالك وحماد بن زيد روى عنه العراقيون([13])
2: نشأة الإمام البخاري العلمية وذكائه المفرط دالّة على معرفته باللغة وتقدمه فيها
اتفق جميع مؤرخي سيرة الإمام البخاري رحمه الله على أمرين
الأول: أن الإمام البخاري نشأ وترعرع في بيت علم وتقوى كان والده من علماء الحديث ومن أهل الصلاح ومحبي الخير روى عنه العراقييون -كما تقدم- إلا أنه توفي والبخاري كان في حجر أمه ثم قامت أمه بتربيته أحسن قيام واتجهت به إلى حلقات العلم وهو صغير و ظهرت بوادر نبوغه العلمي في صغره حيث ألهم حفظ الحديث وهو في العاشرة من عمره قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب قَالَ: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقَالَ: عشر سنين أو أقل”([14])
وهذا يدل على أنه بدأ حياته العلمية منذ طفولته ويؤكد هذا من شهادة شيوخه على سعة اطلاعه وهو صغير قال سليم بن مجاهد: ” كنت عند محمد بن سلام البيكندي (ت225هـ) فقال لي لو جئت قبل قليل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث. قال فخرجت في طلبه حتى لقيته، فقلت أنت الذي تقول أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ فقال: نعم وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظ ذلك عن كتاب الله وسنة رسوله”([15])
الثاني: أنه رحمه الله كان واسع الحفظ، قوي الذاكرة، بعيد النسيان وبذكائه المفرط كان يحتار أصحابه وزملائه به، فأيام تعلمه للحديث والعلم كان لا يكتب ما يدرس فألح بعض زملائه عليه فقال ” إنكما أكثرتما علي وألححتما فأعرضوا علي ما كتبتم فأخرجنا ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه ثم قال: أترون أني اختلف هدراً وأضيع ايامي؟ فعرفوا أنه لا يتقدمه أحد([16])
وقصته المشهورة مع البغداديين خير دليل على سعة اطلاعه وانتقاش علمه الغزير على صفحة ذهنه وقلبه([17])
لا يخفى على المتأمل المنصف في نصوص سالفة الذكر مدى عظمة شخصية الإمام البخاري العلمية وتبحره في علوم الآلة، وخاصة في علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعجبا لإمري كيف يتصور فيمن كان حاله هذا من غزارة علم، وسعة إطلاع، وسيلان ذهن، ونفاذة بصيرة، أنه كان فارسيا وبتعبير آخر أنه كان لا يعرف اللغة العربية عندما نرى أن الاعجمي في عصرنا لا يعيش في بيئة عربية فترة من الزمن إلا وهو يتقن اللغة تكلما وكتابة،
3: كلام الأئمة على مكانته العلمية
وتأييدا على ما أثبتت سابقا أنقل هنا كلام أئمة عصره فيه الذين هم أعرف الناس به حتى يعرف مدى مكانته العلمية عندهم
وقال قتيبة بن سعيد: “جالست الفقهاء والزهاد والعباد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل وهو في زمانه كعمر في الصحابة”([18])
وسئل قتيبة عن طلاق السكران، فدخل محمد بن إسماعيل فقال قتيبة للسائل: “هذا أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني قد ساقهم الله إليك” وأشار إلى البخاري([19])
وقال البخاري: “دخلت على الحميدي وأنا بن ثمان عشرة سنة يعني أول سنة حج فإذا بينه وبين آخر اختلاف في حديث فلما بصر بي، قال: “جاء من يفصل بيننا فعرضا علي الخصومة فقضيت للحميدي وكان الحق معه” ([20])
وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: “قد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل وقال أيضا: هو أعلمنا وأفقهنا وأكثرنا طلبا”([21])
وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: “ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل”([22])
قال الحافظ ابن حجر بعد نقل ثناء الأئمة عليه: “ولو قلت أني لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة لفعلت ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفنى القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له وإنما ذكرت كلام بن عقدة وأبي أحمد عنوانا لذلك وبعد ما تقدم من ثناء كبار مشايخه عليه لا يحتاج إلى حكاية من تأخر لأن أولئك إنما أثنوا بما شاهدوا ووصفوا ما علموا بخلاف من بعدهم فإن ثناءهم ووصفهم مبني على الاعتماد على ما نقل إليهم وبين المقامين فرق ظاهر وليس العيان كالخبر” ا. هـ ([23])
هذه نبذة يسيرة من ثناء الأئمة عليه من شيوخه الكبار وأقرانه من الأئمة ومن جاء بعدهم من ذوي الفضل ولا يشك بعد هذا الإيضاح في تمكنه في العلوم الإسلامية عامة وعلم الحديث خاصة إلا من كان في قلبه مرض حول هذا الإمام المبجل أو زيغ عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
([4]) هدي الساري (1/477)
([5]) الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب (1/ 258)
([7]) انظر: تاريخ بغداد ت بشار (2/ 324) و طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 252)
([8]) انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (24/ 462)
([9]) تركستان الكبرى ماضيها وحاضرها http://golanturkmanlare.ahlamountada.com/t1201-topic
([10]) نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص: 54)
([11]) المصدر نفسه
([12]) البلدان لليعقوبي (1/123) وآكام المرجان فى ذكر المدائن المشهورة فى كل مكان (ص: 83)
معاوية
([13]) الثقات (8/ 98)
([14]) انظر: تاريخ بغداد (2/ 324)
([15]) انظر: تاريخ بغداد (2/ 345)
([16]) انظر: تاريخ بغداد (2/ 334)
([17]) المصدر نفسه
([18]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 431)و هدئ الساري (1/ 482).
([19]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 418) و هدي الساري (1/ 483).
([20]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 401) و هدي الساري (1/ 483)
([21]) انظر: تاريخ بغداد (2/ 350) وهدي الساري (1/ 484)
([22]) انظر: تاريخ بغداد (2/ 348) و التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد (ص: 32)
([23]) هدي الساري (1/ 485)