عامر حسن صبري
أُستاذ الحديث النبوي وعلومه، بجامعة الإمارات العربية المتحدة
-
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من رحمة الله عز وجل بخلقه أن أرسل سيدنا محمداً r بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن دستوراً ونوراً للأمة ومنهاجاً يضيء طريقها، وجعل رسولَهُ r في مقام الشارح للكتاب والمبيِّن له. ولقد قام رسول الله r بذلك خير قيام، فتولى تفصيل مجمله وتقييد مطلقه وتخصيص عامه، وربما ذهب في البيان إلى ما لم يتناولْهُ كتاب الله عز وجل مما يدخل في نطاق مهمته الربانية رسولاً يوجه الأمة إلى الخير، سبيله في ذلك عليه الصلاة والسلام قول يخاطب به الصحابة معبرِّاً فيه عن قصده، أو فعل يوضح لهم به مراده، أو موقف بدا منه على الرضا عن قول أو فعل صدر من أصحابه أو بلغه عنهم فيقرهم عليه برضاه عن ذلك القول أو الفعل وسكوته عليه، فهذه الممارسات الثلاث من رسول الله r هي التي يُعبرَّ عنها بالسنة أو بالحديث النبوي([1]).
ومن هنا تتحدد طبيعة العلاقةِ القائمة بين الكتاب والسنة؛فالسنة النبوية تفصِّل مجمل القرآن، وتقيِّد مطلقه، وتخصص عامَّه، وتشرح وتبين ما يحتاج منه إلى بيان، وذلك مصداقاً لقول الله عز وجل: * 5 6 7 8 9 : ; < ) [ النحل: 44 ].
والله عز وجل اختار نبيه عليه الصلاة والسلام للرسالة وحمله الأمانة وعصمه من الزلل فيما بلغه عن ربه من قرآن، وفيما نطق به من قول، أو صدر عنه من فعل، أو أَقَرَّ عليه أصحابه مما يدخل في مجال التشريع؛ لأن كل ذلك من عند الله: * + , – . / 0 1 2 3 4 ) [النجم: 3،4]. ولذلك أوجب طاعته وقرنها تعالى بطاعته، فقال عز وجل: * Ç È É Ê Ë Ì Í Î Ï ÑÐ Ò Ó Ô Õ Ö × Ø Ù Ú Û Ü Ý Þ àß á â ã ä ) [النساء: 59].
وقال تعالى: * ! ” # $ &% ‘ ( ) * + , – . 0/ 1 2 43 5 6 7 8 9 : ) [ النور: 54 ].
ورتب على طاعته الجزاء الوفير فقال سبحانه: * ¦ § ¨ © ª « ¬ ® ) [الأحزاب: 71]. وحذر الله من مغبة المخـالفة لنبيه r بقوله: * ] ^ _ ` a b c d e f g h ) [ النور: 63 ].
وتوعد على معصيته وأخبر بعقوبة من عصاه فقال: * ½ ¾ ¿ À Á Â Ã Ä Å Æ Ç È É ) [النساء: 14]. وقال: * E F G H I J K L M N O ) [الأحزاب: 66].
ونبه عباده أن يكونوا عند أمر الرسول ونهيه فقال: * p q r s t u v w ) [ الحشر: 7 ].
وأقسم الله لرسوله r ألا يكون المؤمنون مؤمنين حقاً حتى يرتضوه حكمـاً فيما بينهم، وأن يتلقـوا حكمه بغاية الإذعان الذي لا تكلف فيه ولا تصنع، وإنما هو نابـع عما انعقد عليه القلب من ولاء وتسليم، فقـال عز وجل: * ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ´ µ ¶ ¸ ¹ º » ¼ ½ ¾ ¿ À )
[النساء:65]. وقد أجمع العلماء على أن هذا التحاكم يكون بعده إلى سنته. فمن هذا المنطلق وبهذا الاعتبار نقرر أن السنة النبوية الصحيحة مع القرآن الكريم في مرتبة واحدة من حيث الاحتجاج بهما في الأحكام الشرعية، فإنها وحي مثله، فيجب القول بعدم تأخرها عنه في الاعتبار([2]).
وقد قام الأئمة بخدمة حديث رسول الله e خير قيام، وأولوه الرعاية والعناية، وبذلوا أقصى ما في الوسع الإنساني احتياطاً لدينهم وشريعتهم أن يدخل فيها ما ليس منها، وكان من نتاج ذلك وضع قواعد مصطلح الحديث، وقواعد علم الجرح والتعديل؛ تلك القواعد التي كفلت لهم التمييز بين الصحيح وغيره، وهذه القواعد نجدها مبثوثة في كتب أصول الرواية وعلوم الحديث وتاريخ الرجال.
وكان من أهم موضوعات علم مصطلح الحديث: تقسيم الحديث من حيث طرق وصوله إلينا إلى قسمين رئيسين، هما: المتواتر والآحاد. وسنتكلم على هذين القسمين وأنواعهما، وحجية كل نوع. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أولاً: المتواتر
وهو: ما رواه جمع تحيل العادة تواطؤَهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، وشروط التواتر ما يلي:
-
عدد كثير تحيل العادة اجتماعهم على الكذب.
-
أن تكون هذه الكثرة في جميع طبقات السند.
-
أن يكون مستند خبرهم الحس، كقوله سمعنا أو أخبرنا، أما إذا كان مستندهم العقل كحدوث العالم مثلا، فلا.
فإذا اختل شرط من شروط التواتر، في أي طبقة من طبقات السند فلا يسمى متواتراً، وإنما هو آحاد.
والمتواتر قسمان:
-
لفظي، وهو: ما تواتر لفظه ومعناه. ومن أمثلته:
حديث ((»من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) فقد رواه نحو مائة من الصحابة كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري([3])، ونقله عنه السخاوي في فتح المغيث([4]). وقد جمع طرقه ابن الجوزي في مقدمة كتابه «الموضوعات» فجاوز تسعين طريقاً.
-
معنوي، وهو: ما تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه.ومن أمثلته:
أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه e أكثرُ من خمسين حديثاً فيه رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك منها – وهو الرفع عند الدعاء – تواتر باعتبار المجموع، وقد جمع طرقها الإمام السيوطي في كتاب سماه ( فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء ).
ما يفيده المتواتر:
اتفقت كلمة العلماء على أنه يفيد العلم القطعي الضروري لا النظري، لذا لا يصح إنكاره ولا البحث عن استدلاله لأنه ثابت قطعاً.
قال الإمام الغزالي في المستصفى: ((أما إثبات كون المتواتر مفيداً للعلم فهو ظاهر، خلافاً للسُّمنِيَّة([5])حيث حصروا العلم في الحواس وأنكروا هذا. وحصرهم باطل… أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري، فإنا نقول: النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال، فيعلمه بعض الناس دون بعض… ونحن لا نجد أنفسنا شاكّين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله…))([6]) الخ كلامه. وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: ((وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري؟ فذهب الجمهور إلى أنه ضروري، وقال الكعبي وأبو الحسين البصري: إنه نظري… والحق قول الجمهور…))([7]) إلى آخر كلامه.
قلت: والكعبي وأبو الحسين البصري هما من المعتزلة.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: ((المتواتر، وهو المفيد للعلم اليقيني… واليقين: هو الاعتقاد الجازم المطابق، وهذا هو المعتمد: أن الخبرَ المتواتر يفيدُ العلم الضروري، وهو الذي يضطر الإنسان إليه، بحيث لا يمكنه دفعه، وقيل: لا يفيد العلم إلا نظرياً؛ وليس بشيء؛ لأن العلم المتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي، إذ النظر: ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون، وليس في العامي أهلية ذلك، فلو كان نظرياً لما حصل لهم، ولاح بهذا التقرير الفرق بين العلم الضروري والعلم النظري، إذ الضروري يفيد العلم بلا استدلال، والنظري يفيده ولكن مع الاستدلال على الإفادة، وأن الضروري يحصل لكل سامع، والنظري لا يحصل إلا لمن فيه أهلية النظر…))([8]) إلى آخر كلامه.
وبهذا يتبين أن المتواتر يفيد العلم الضروري اليقيني عند عامة المسلمين خلافاً لبعض المعتزلة، وبعض الفرق الضالة، وهذه الإفادة اتفق عليها علماء الحديث والفقه والأصول والعقيدة وغيرهم.
ثانياً: الآحاد
وهو: ما لم يجمع شروط المتواتر المتقدمة أو أحدها، سواء كان رواته واحداً أو عدداً.
وينقسم الآحاد باعتبار عدد طرقه ورواياته إلى ثلاثة أقسام:
-
الغريب، وهو: ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، وقد يعبر علماء الحديث عنه بالفرد.
ومثاله: حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) فقد تفرد به عمر رضي الله عنه عن النبي e، ولا يرويه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يرويه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر الحديث.
-
العزيز، وهو: ما يرويه اثنان عن اثنين في كل طبقة، ولو كان ذلك في طبقة واحدة، ولا مانع من أن يزيد في بعض طبقاته، فالمدار تحقق التثنية في طبقة ما.
ومثاله ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، والشيخان من حديث أنس أن النبي e قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) فقد رواه من الصحابة أنس وأبوهريرة، ورواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادة اثنان: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز اثنان: إسماعيل ابن عُلية وعبد الوارث، ثم رواه عن كل منهما جماعة.
-
المشهور، وسماه جماعة من الفقهاء: المستفيض، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر.
وقد جعل الحنفية المشهور قسيم المتواتر والآحاد، وعرَّفوه بأنه ما كان آحاداً في القرن الأول، ثم تواتر بعد ذلك وكثرت رواته في القرن الثاني والثالث([9]).
ومثاله: حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الشيخان: ((أن النبيe قنت شهراً يدعو على رِعْل وذكوان))، فقد رواه عن أنس: قتادة وعاصم وأبو مِجْلَز: لاحق بن حُميد، وأنس بن سيرين، ورواه عن كل واحد جماعة.
ما يفيده خبر الآحاد:
ذهب العلماء في مجال الأخذ به مذاهب مختلفة، وإليك بيانها مع ذكر حُجج كل مذهب:
المذهب الأول: أن خبر الواحد الثقة يفيد العلم اليقيني مطلقاً.
وهذا مذهب داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي، ونقل عن الإمام أحمد في رواية، وحكاه ابن خويزمنداد عن الإمام مالك، وجزم به الإمام الشافعي في كتاب اختلاف مالك([10]).وقد أطال ابن حزم النَفَس في إيراد الأدلة على صحة هذا المذهب والرد على مخالفيه في الإحكام، فقال بعد سرد مقدمات: ((وإذا صح هذا فقد ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مثله مُبَلَّغا إلى رسول الله e حقٌّ مقطوعٌ به، موجب للعلم والعمل معا))([11]) وقال عبد العزيز البخاري في شرح أصول البزدوي: ((ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجبُ علمَ اليقين بطريق الضرورة، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل))([12]).
واختاره من المتأخرين العلامة صديق حسن خان فقال في كتابه “الدين الخالص”: ((والضرب الآخر من السنة خبر الآحاد يرويه الثقات الأثبات بالسند المتصل والصحيح والحسن، فهذا يوجب العمل عند جماعة من علماء الأمة وسلفها الذين هم القدوة في الدين والحجة الأسوة في الشرع المُبِين، ومنهم من قال: يوجب العلم والعمل جميعاً، وهو الحق وعليه درج سلف هذه الأمة وأئمتها، لأن المتواترات – على حساب اصطلاح القوم – قليل جداً، وغالب السنة الشريفة آحاد، والعمل بها واجب حتم))([13]) واختار هذا القول من المعاصرين الأستاذ العلامة أحمد شاكر فقال في الباعث الحثيث بعد أن ذكر أقوال العلماء في إفادته: ((والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله، من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، لا يتحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل… وهذا العلم اليقيني النظري يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأن قلبه إليها…))([14]). وممن قال هذا الرأي أيضـاً الدكتور صبحي الصـالح في كتابه علوم الحديث حيث قال: ((ورأي ابن حزم أولى بالاتباع؛ إذ لا معنى لتخصيص أحاديث الصحيح بإفادة القطع، لأن ما ثبت صحته في غيرهما ينبغي أن يحكم عليه بما حكم عليه فيها… كما أنه لا معنى للقول بظنية حديث الآحاد بعد ثبوت صحته، لأنَّ ما اشْـتُرط فيه لقبول صحته يُزيل كل معاني الظن ويستوجب وقوعَ العلم اليقيني به))([15]).
قلت: وهذا الحق الذي لا يعول على غيره، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.وسأذكر تفصيل ذلك بعد سرد المذاهب الأخرى.
المذهب الثاني: أنه يفيد العلم اليقيني إذا احتفت به قرائن.
وهذا مذهب عامة أهل الحديث وكثير من محققي الفقه والأصول والكلام من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنواع الخبر المحتف بالقرائن فقال في نزهة النظر: ((والخـبر المحتـف بالقرائن أنواع: منهـا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن:
-
منها جلالتهما في هذا الشأن.
-
وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
-
وتلقي العلماء كتابيهما بالقبول.
وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.
وماعدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته… وممن صرح بإفادة ما أخرجه الشيخان العلم النظري: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ومن أئمة الحديث: أبو عبد الله الحميدي وأبو الفضل ابن طاهر وغيرهما)).
قلت: ويضاف إلى ذلك أيضاً: وجود المستخرجات الكثيرة على هذين الكتابين، بحيث لا يوجد حديث فيه علة إلا وجاء في المستخرجات في كثير من الأحيان سليماً، مما يفيد تعدد طرق حديث الصحيحين ويزيدها قوة على قوة.
وقال الحافظ: ((ومنها المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر بن فُوَرك وغيرهما.
ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريباً؛ كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكاً مثلاً لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة وبَعُدَ عما يُخشى عليه من السهو))([16]).
وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث: ((وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه: أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة؛ منهم القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد وأبو يعلى بن الفراء وأبو الخطاب وابن الزاغوني و أمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السَّرخسي من الحنفية، قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم؛ كأبي إسحاق الإسفراييني وابن فُـوَرك، قـال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة))([17]).
وقال ابن تيمية: ((ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول، فعملوا به… فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة؛ فلو كان في نفس الأمر كذباً لكانت الأمـة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل به وهذا لا يجوز عليها)).
ثم قال: ((ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور أحاديث البخاري ومسلم؛ فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهـور أحـاديث الكتابين، وسائر الناس تبـع لهـم في معرفـة الحديث…))([18]).
وقال الإمام الصنعاني: ((قد عُلم أن خبر الواحد يفيد الظن، فإذا حفته القرائن أفاد العلم كما قال الحافظ في النخبة وشرحها: وقد يقع فيها – أي أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب، وهي أقسام الآحاد – ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار))([19]).
المذهب الثالث: أن خبر الواحد الثقة يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، ولكنه حُجة من حُجج الشرع يلزم العمل به سواء أكان في العقائد أم غيرها. وممن قال بهذا المذهب الإمام ابن عبد البر القرطبي، فهو يقول عن حديث الآحاد: ((إنه يوجب العمل دون العلم))([20]).
وقال في أول كتاب التمهيد ما نصه: ((أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار – فيما علمت – على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافاً. وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله))([21]) وقد أفرد أبو عمر بن عبد البر لهذه المسألة كتاباً مستقلاً سماه ((الشواهد في إثبات خبر الواحد)) ذكره في مقدمة التمهيد.
ومن القائلين بهذا المذهب أيضاً: النووي ووافقه الإمام العز بن عبدالسلام، فقال النووي في كتاب التقريب: ((وذكر الشيخ تقي الدين
– يعني ابن الصلاح – أن ما روياه – يعني في الصحيحين – أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر))([22]).
وممن قال بهذا الرأي أيضاً: الإمام أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة ((جامع الأصول))، حيث قـال: ((وخبر الواحد لا يفيد العلم، ولكنا مُتَعبدون به))([23]).
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بجواز الخطأ والنسيان على الثقة عقلاً، ومع هذا الجواز العقلي لا يمكن ادعاء القطع، وتلقي الأمة الحديث بالقبول إنما أفاد وجوب العمل به.
قلت: أرى الخلاف بين هؤلاء وبين الذين يقولون إنها تفيد العلم خلافاً نظرياً ليس له أثر في الواقع، فالجميع يوجبون العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول.
هذا، وإننا لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكننا نقول بالجزم والتصديق عند ظهور علامات تؤيد ذلك، ويقول الإمام ابن القيم: ((إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلابد أن يقوم دليل على ذلك، ولابد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته، ولا تلتبس بما ليس منها))([24]).
وينبغي أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يكلف الله عز وجل بأمر – ولم يثبت هذا التكليف من طريق التواتر – ثم يعمل المسلم ذلك التكليف وهو يعتقد أن هذا الذي يفعله أمر ظني أو احتمالي والعلم بصحته غير واجب شرعاً، وقد سُئل الإمام أحمد عن إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، فعاب ذلك وقال: ما أدري ما هو؟!([25]).
المذهب الرابع: أن خبر الآحاد يفيد الظن، ولذلك لا يصح الاعتماد عليه في العقيدة وفي الغيبيات، أما ما سوى ذلك في الأحكام العملية وغيرها فإنه يجب العمل به، وممن قال بهذا المذهب: بعض علماء الكلام، وقال به جمع من المتأخرين والمعاصرين، منهم الشيخ عبد الوهاب النجار؛ فقد قال في كتاب قصص الأنبياء مانصه: ((الخبر إذا كان رواته آحادا فلا يصلح أن يكون دليلاً على ثبوت الأمور الاعتقادية الغرض منها القطع، والخبر الظني الثبوت أو الدلالة لا يفيد القطع))([26]).
ومنهم أيضاً: الشيخ محمود شلتوت، فقد قال في الفتاوى – بعد أن ذكر وفاة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه لا يَنْزل في آخر الزمان – ما نصه: ((وإذا صح هذا الحديث – يعني حديث أبي هريرة في نزول عيسى – فهو حديث آحاد، وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيَّبات))([27]).
ويستدل هؤلاء على هذا القول بأن العقائد قطعية فلا يجوز أن يحتج عليها إلا بقطعي، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع الظن فى العقائد فقال تعالى:* ²± [³ ´ µ ¶ ¸ ¹ º » ¼ ½ ¿¾ À Á Â Ã Ä Å Ç Æ È É Ê Ë Ì )[النجم: 23].
وقال تعالى: * + , – . 0/ 1 2 3 54 6 7 8 9 : ; < ) [النجم: 28 ].
وقال عز وجل: * P Q R S T U V W X Y Z [ \ ] ^ _ ` a b c d e f g h i j k l )
[ الأعراف: 33 ].
وقولهم هذا ضعيف؛ لأن كل ما ورد عن الرسول r فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبراً كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، للنصوص الكثيرة التي ذكرنا بعضها فيما سبق والتي تأمر بطاعة الرسول مطلقاً من غير تقييد، وأما الآيات الناهية عن اتباع الظن فإنها تعني الظن المذموم الذي لا يقوم عليه دليل وليس له أسس ثابتة، بل هو قائم على الهوى والغرض المخالف للشرع، مثل إثبات الألوهية لغير الله عز وجل كما هو الحال فى ظن المشركين فى معبوداتهم، وهذا الظن يختلف تماماً عن الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد فهو ظن راجح ملحق بالقطعي فى وجوب الاعتقاد والعمل به، فلا ارتباط بينه وبين النوع الأول من الظن المشار إليه بالنسبة لمعتقدات المشـركين، ((فإطلاق كلمة الظن على أحاديث الآحاد
– وهي في حقيقتها أكثر السنة النبوية – وربطها بالمعنى الوارد عند بعضهم فى عبارة: إن الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، وأن الظن لايغني عن الحق شيئاً، خطأ مبين؛ حيث أورد للظن معنى واحداً حصره فى المفهوم الذي اتبعه المشركون فى مواجهة حقائق القرآن الكريم))([28]).
وقد ألف العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى كتاباً سماه ( وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام) وذكر عشرين وجهاً تدل على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها، ورد على هذا المذهب القائل بأنه لا يُحتجُّ بهذه الآحاد فى العقيدة لأنها لا تفيد اليقين، وذكر أن القول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة قول مبتدع محدث لا أصل له فى الشريعة، ولم يقل به أحد من الصحابة وسلف هذه الأمة، ومن المعلوم أن كُلَّ أمر مُبتَدع في أمر من أمور الدين باطل مردود، كما أن هذا القول يستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي r لمجرد كونها في العقيدة، وقال أيضاً: ((إن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية، وإيجاب الأخذ بحديث الآحاد في هذه دون تلك إنما بُني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل)). ثم قال: ((ومما يوضح لك أنه لابد من اقتران العقيدة في العمليات أيضاً أو الأحكام: أنه لو افترض أن رجلاً يغتسل أو يتوضأ للنظافة أو يصلي مرتبطاً، أو يصوم تطبباً، أو يحج سياحة، لا يفعل ذلك معتقداً أن الله تبارك وتعالى أوجبه عليه وتعبده به لما أفاده شيئاً، كما لا يفيده معرفة القلب إذا لم تقترن بعمل القلب الذي هو التصديق. فإذن كل حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة ولابد ترجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أنه أُخبرنا به في سنة نبيه r لما وجب التصديق والعمل به)).
ومما قاله أيضاً: ((إن قولهم يستلزم تعطيل العمل بحديث الآحاد في الأحكام العملية أيضاً، وهذا باطل لايقولون هم أيضاً به، وما لزم منه باطل فهو باطل، وبيانه: أن كثيراً من الأحاديث العملية تتضمن أموراً اعتقادية، فهذا رسول الله r يقول لنا: إذا جلس أحدكم فى التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. رواه الشيخان…)) إلى آخر كلامه.
المذهب الخامس: وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء لا يحتجون بأحاديث الآحاد لا في العقائد ولا في الأحكام.
وحجة هؤلاء هي نفس حجة المذهب السابق الذكر، أي أن هذه الأحاديث لا تفيد إلا الظن ولا تفيد علماً مقطوعاً به لما فيها من احتمال الخطأ والوهم والكذب.
قلت: وهذا القول باطل؛ لأن من لوازمه الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم، وعلى الأحاديث المتواترة، والتي لا يصل عددها إلى مائتي حديث. وكأن هؤلاء هم الذين عناهم الرسول r فيما صح عنه من حديث المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله r ((ألا هل عسى رجل يبلُغُهُ الحديث عنّي، وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللْناهُ، وما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه، وإن ماحرم رسول الله كما حرم الله))([29]) وقال الإمام القرطبي في تفسيره: ((وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به؛ تحكُّماً فى الدين ودعوى في المعقول، وليس فى ذلك أصل يعوَّل عليه…))([30]).
القول الحق في قبول خبر الآحاد
وبعد أن سردنا المذاهب فى الاحتجاج بخبر الآحاد نقول: إن الحق الذي لا يعول على غيره: أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً، إذا توافرت فيه شروط القبول، ولم يطعن فيه أحد من العلماء المعتبرين، سواء أكان في الصحيحين أم في غيرهما. وإليك الأدلة التي تفيد ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
أولاً: الكتاب:
-
قول الله عز وجل: * ¹ º » ¼ ¾½ ¿ À Á Â Ã Ä Å Æ Ç È É Ê Ë Ì Í Î Ï ) [التوبة: 122] فالفرقة في الآية يراد بها الثلاثة فأكثر، والطائفة تصدق على الواحد والاثنين فهي جزء من الفرقة، ومن ذلك أن الله أمر بتشكيل واحد أو اثنين للخروج من كل فرقة تضم ثلاثة أفراد من أجل التفقه فى الدين ومن أجل الإنذار بعد العودة، فدل ذلك على صحة أخذ العلم عن خبر الآحاد ودل بالتالي على وجوب العمل به([31]).
-
وقوله تعالى: * / 0 1 2 3 4 5 6 ) [الحجرات: 6].
-
وفى قراءة لحمزة والكسائي وخلف: * فتثبَّتوا ) .
ذكر الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي فى أضواء البيان: أنَّ أهل الأصول استدلّوا بالآية على ((قبول خبر العدل؛ لأن قوله تعالى: * 2 3 4 5 6 ) يدل بدليل خطابه – أعني مفهوم مخالفته – أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلا لايلزم التبين فى نبئه على قراءة: فتبينوا. ولا التثبيت على قراءة: فتثبتوا. وهو كذلك))([32]).
-
وقال تعالى: * ] ^ _ ` a b c d e f g h ) [النور: 63] قال ابن القيم: ((وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره r إلى يوم القيامة، ولو كان ما بلغه لم يفده علماً لما كان متعرضاً بمخالفة مالا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر))([33]).
-
وقال الله عز وجل: * Ç È É Ê Ë Ì Í Î Ï ÑÐ Ò Ó Ô Õ Ö × Ø Ù Ú Û Ü Ý Þ ß ) [ النساء: 59 ].
قال ابن القيم: ((ووجه الاستدلال: أنه أمر أن يُرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سننه بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النّزاع لم يكن في الرد إليه فائدة، إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى مالا يفيد علماً ألبتة؟ ولا يدري حق هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع بحمد الله))([34]).
-
وقال تعالى: * ª « ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ´ µ ¶ ¸ ¹ º » ¼ ¾½ ¿ À Á Â Ã Ä Å Æ Ç ÉÈ Ê Ë Ì Í Î Ï Ð Ñ ÓÒ Ô Õ Ö × Ø Ù Ú ) [المائدة: 49-50].
قال ابن القيم: ((وجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله r فهو مما أنزل الله، وهو ذكر من الله أنزله على رسوله، وقد تكفل سبحانه بحفظه، فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة، ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه، وهذا من أعظم الباطل))([35]).
وقال الحافظ ابن حجر: ((واحتج بعض الأئمة لقوله تعالى: * J K L M N O P Q ) [المائدة:67]مع أنه كان رسولاً إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الآحاد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة، لتعذر خطاب جميع الناس شفاهاً، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم)). قال الحافظ: ((وهو مسلك جيد))([36]).
-
وقـال الإمـام أبو محمد بن حـزم: ((قـال الله عز وجل عن نبيه * + , – . / 0 1 2 3 4 ) [النجم:3-4]وقال تعالى آمراً نبيه r أن يقول: * ~ ¡ ¢ £ ¤ ) [الأنعام:50]وقال تعالى: * g h i j k l m )[الحجر:9]
وقال تعالى: * 8 9 : ; < ) . [النحل:44]فصح أن كلام رسول الله r كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لاشك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر مُنَزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه وأن لا يُحَرف منه شيء أبدًا تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه؛ إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعال كذباً وضمانه خائساً، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد r محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا، قال تعالى: * 2 3 4 5 ) . [الأنعام:19]
فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله r في الدين، ولا سبيل ألبتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عن أحد من الناس بيقين؛ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى: * g h i j k l m ) كذباً ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلم))([37]).
ثانياً: السنة:
-
ثبت أن النبي r كان يرسل رسله إلى الملوك فى مختلف الأمصار لدعوتهم إلى دين الإسلام، كما كان يبعث برسله إلى الآفاق لنشر الدعوة الإسلامية وبيان أحكام هذا الدين، فقاموا بذلك وهم فرادى([38]).
قال الشافعي: ((وبعث رسول الله r عماله واحداً واحداً ورسله واحدًا واحداً، وإنما بعث عماله ليخبروا الناس بما أخبرهم به رسول الله r من شرائع دينهم، ويأخذوا منهم ما أوجب الله عليهم، ويعطوهم مالهم، ويقيموا عليهم الحدود، وينفذوا فيهم الأحكام.. ولو لم تقم الحجة عليهم بهم إذ كانوا في كل ناحية وجههم إليها أهل صدق عندهم ما بعثهم))([39]) فمن ذلك:
-
عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: ((خرج رسول الله r فقال: إن الله بعثني رحمة للناس كافة، فأدوا عني رحمكم الله… فبعث ابن حذافة إلى كسرى، وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى صاحب هَجَر، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجُلندي ملكي عمان، وبعث دحية الكلبي إلى قيصر، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فرجعوا جميعاً قبل وفاة رسول الله r غير العلاء بن الحضرمي، فإن رسول الله r توفي وهو بالبحرين))([40]) فالحديث يدل على أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل معاً.
وقال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني فى كتاب الانتصار: ((لو لم يقع العلم بخبر الواحد فى أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من الصحابة فى هذا الأمر))([41]).
-
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))([42]).
قال الحافظ ابن حجر: ((وفي الحديث قبول خبر الواحد ووجوب العمل به))([43]).
-
مارواه الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن أبيه، أن رسول الله r قال: ((نَضَر الله عبداً سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها، فَرُبَّ حامِل فقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه))([44]).ووجه دلالته أنه أمر كل عبد يسمع مقالته أن يبلغها، مع إمكان كونه غير فقيه، والعبد حقيقة للشخص الواحد، ولا يأمره إلا وخبره مما تقوم الحجة به.
وقال الإمام الشافعي: ((فلما ندب رسـول اللهr إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها، والمرء واحد، دلَّ على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدى عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وحدّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا، ودلَّ على أنه قد يحمل الفقهَ غيرُ الفقيهِ يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً))([45]).
-
حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه الآنف الذكر: ((ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته…)) الحديث. ووجه الاستدلال كما قال ابن القيم: ((أن هذا نهي عام لكل من بلغه حديث صحيح عن رسول الله r أن يخالفه أو يقول: لا أقبل إلا القرآن، بل هو أمر لازم، وفرض حتم بقبول أخباره وسننه، وإعلام منه r أنها من الله أوحاها إليه، فلو لم تفد علماً لقال من بلغته: إنها آحاد لا تفيد علماً فلا يلزمني قبول مالا علم لي بصحته، والله تعالى لم يكلفني العمل بما لم أعلم صحته ولا اعتقاده، بل هذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله r أمته ونهاهم عنه، ولما علم أن في هذه الأمة من يقوله حذرهم منه، فإن القائل إن أخباره لاتفيد العلم هكذا يقول سواه لا ندري ما هذه الأحاديث، وكان سَلَفُ هؤلاء يقولون: بيننا وبينكم القرآن، وخَلَفُهُم يقولون: بيننا وبينكم أدلة العقول، وقد صَرَّحوا بذلك وقالوا: نقدم العقول على هذه الأحاديث، آحادها ومتواترها ونقدم الأقيسة عليها))([46]).
-
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي r قال: ((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتي يؤذن ابنُ أمِّ مكتوم))([47]).
ودلالة هذا الحديث فى الأمر بتصديق المؤذن وهو واحد والعمل بخبره فى فعل الصلاة، والعلم بدخول وقت الصلاة، وأول وقت الإفطار والإمساك، مع أن هذه من العبادات التي تختل بتغير وقتها، ولم يزل المسلمون فى كل وقت ومكان يقلدون المؤذنين، ويعملون بأذانهم في أوقات مثل هذه العبادات، وإن هذا لأوضح دليل على وجوب العمل بخبر الآحاد.
-
ما ثبت عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهني رضي الله عنهما في قصة العسيف، وفيه قول النبي r: ((اغد يا أُنيس – لرجل من أسلم – إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)) فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله r فرجمت.([48])
ووجه الاستدلال فيه أن النبي اعتمد خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد وقتل نفس مسلمة. وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح: ((فيه دليل على أن الحكم المبني على الظن ينقضي بما يفيد القطع))([49]).
ثالثاً: الإجماع([50]):
1- قال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني في كتاب الانتصار: ((أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموجودين من المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وفي فضائل النبي r ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين وأخبار الرقاق وغيرها مما يكثر ذكره، وهذه الأشياء علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولاينفعه، ويصير كأنهم قد دوَّنوا في أمور الدين مالا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه)). ثم قال: ((وربما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا، فإنَّ النبي r أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من الصحابة، وهذا الواحد يؤديه إلى الأمة وينقله عنه، فإذا لم يُقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدِّي، نعوذ بالله من هذا القول البشع والاعتقاد القبيح))([51]).
2- ما ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ((كنت ساقي القوم في منْزِل أبي طلحة، فكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأتاهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها…)) الحديث([52]). وهذا فيه دليل على أنهم اعتمدوا خبر هذا الشخص، وأن العمل بخبر الواحد كان معروفاً عندهم.
3- وقال الإمام القرطبي فى تفسير قول الله تعالى: * e f g h i j k ml n o p q r s ) [البقرة: من الآية150] مانصه: ((في الآية دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعاً به من الشريعة عندهم، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي، وأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون))([53]).
-
وقال ابن القيم: ((إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم والإباحة والفروض ويُجْعَلُ ذلك ديناً يدان به في الأرض إلى آخر الدهر، فهذا الصدّيق رضي الله عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدَّة وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مَسلمة والمغيرة بن شعبة فقط، وجعل حكم ذلك الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نص القرآن في إثبات فرض الأم، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد، وأثبت عمر بن الخطاب بخبر حمل بن مالك دية الجنين وجعلها فرضاً لازماً للأمة، وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده، وصار ذلك شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة، وأثبت شريعة عامة في حق المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده، وأثبت عثمان بن عفان شريعة عامة في سكنى المتوفى عنها بخبر فريعة بنت مالك وحدها، وهذا أكثر من أن يذكر، بل هو إجماع معلوم منهم، و لا يقال على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد في الظنيات ونحن لاننكر ذلك لأنا قد قدمنا أنهم أجمعوا على قبوله والعمل بموجبه، ولو جاز أن يكون كذباً أو غلطاً في نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة عل قبول الخطـأ والعمل به، وهـذا قـدح فى الدين والأمة))([54]).
وبعد: فهذه بعض الأدلة التي تشير إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً إذا كان صحيحاً وقبله علماء الحديث من غير نكير منهم عليه أو طعن فيه، وأنه حجة قاطعة فى الدين سواء أكان فى العقائد أم في غيرها، وأن الادعاء بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن أو لايعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن والسنة وعمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان، بل أفادت هذه الأدلة مجتمعة أن الحديث إذا صحت نسبته إلى النبي r وسَلِمَ من القوادح الخارجية والداخلية وجب العمل به فى جميع أمور الدين، وأما ما نجده من تردد بعض الأئمة فى العمل به فى بعض الأحوال، فإنَّ ذلك كان لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد، من ريبة فى الصحة أو تهمة للراوي، كالذي حدث من سيدنا عمر رضي الله عنه فى عدم قبوله لخبر فاطمة بنت قيس، فإنَّ عدم القبول لم يكن لأنه خبر آحاد، ولكن لأن عمر لم يثق برواية فاطمة بدليل قوله: ((لا ندري حفظت أم نسيت))([55]).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مراجع البحث:
-
الإحكام فى أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي، القاهرة.
-
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1358هـ.
-
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، طبعة المدني بالقاهرة.
-
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، للأستاذ أحمد شاكر، دار الكتب العلمية فى بيروت.
-
التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر 1984 م.
-
تفسير القرطبي، المسمى: الجامع لأحكام القرآن، مطبعة دار الكتب المصرية.
-
التقريب، للإمام النووي، مطبعة محمد علي صبيح بالقاهرة سنة 1388هـ.
-
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبدالبر، وزارة الأوقاف المغربية 1967 م.
-
توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار، للإمام الصنعاني، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، مطبعة السعادة بالقاهرة 1366 هـ.
-
تيسير التحرير، لأمير بادشاه الحنفي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1350 هـ.
-
جامع الأصول في أحاديث الرسول، لابن الأثير الجزري، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط. دمشق 1389 هـ.
-
حجية السنة النبوية، للدكتور عبدالغني عبدالخالق.
-
الدين الخالص، لصديق حسن خان، طبع فى القاهرة.
-
السنة المفترى عليها، للأستاذ سالم البهنساوي، دار البحوث العلمية الكويت 1401 هـ.
-
صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط، للإمام ابن الصلاح: تحقيق الدكتور موفق عبدالله، طبع فى دار الغرب.
-
علوم الحديث، لابن الصلاح، تحقيق الدكتورة عائشة عبدالرحمن 1984 م.
-
علوم الحديث، للدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت 1988 م.
-
الفتاوى، لابن تيمية، دار المعرفة بيروت.
-
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر. مكتبة الرياض الحديثة.
-
فتح المغيث شرح ألفية الحديث، للسخاوي، دار الكتب العلمية في بيروت 1403 هـ.
-
الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، نشر زكريا علي يوسف بالقاهرة.
-
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، للعلامة عبد العلي محمد بن نظام الدين، مطبوع بهامش المستصفى.
-
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز البخاري، طبع في استنبول سنة 1308 هـ.
-
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي.
-
مختصر الصواعق المرسلة، لابن قيم الجوزية اختصار الموصلي، مكتبة المتنبي بالقاهرة.
-
مختصر علوم الحديث لابن كثير، طبع مع الباعث الحثيث.
-
المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، المطبعة الأميرية، ببولاق سنة 1322 هـ.
-
المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1384 هـ.
-
نزهة النظر شرح نخبة الفكر، لابن حجر العسقلاني،المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
-
وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام للشيخ محمد ناصر الدين الألباني.