قال أيلال : “أن الشيخ البخاري ذو أصل فارسي ، فاللغة العربية ليست لغته الأصلية ، و كل المؤرخين و الحفاظ و المحدثين و المترجمين و كتاب السير ، لم يتحدثوا لنا ضمن أسطةرة البخاري ، عن متى و كيف تعلم اللغة العربية ، بل جملة ما تحدثوا عنه ، هو شروعه في حفظ الحديث و هو صبي لم يتجاوز العشر سنين “ [1]
أولا : إن الإمام البخاري من بلاد بخارى على نهر جيحون من بلاد ما وراء النهر، وبخارى الآن من بلاد جمهورية أوزبكستان في آسيا الوسطي، وقد دخل أهل بخارى الإسلام في أول خلافة يزيد بن معاوية (61هـ)، فتحها سلم بن زياد مع مدن أخرى حولها، وأحب أهلها الإسلام، وبذلوا الكثير في نصرته، وشاع العلم وذاع في هذه البلاد، ونبغ فيها كثير من أئمة الإسلام، تعلموا وعلموا.
ولا شك أن العربية انتشرت سريعا في هذه البلاد المفتوحة بسبب كثرة العرب الذين استقروا بها بعد فتحها، وحاجة أصحاب هذه البلاد إلى معرفة العربية لغة دينهم الجديد، فالعربية لغة وليست عرقا، فكل من نطق بالعربية فهو عربي، والبخاري من مجتمع يتكلم العربية ويعتنق الإسلام ، وكان من البارعين فيها العالمين بمداخلها ومخارجها.
واختلاف الجنسية أو اللغة لا يعوق عن تعلم اللغة العربية، فإن العربية قد برع فيها كثير من غير أهلها، وكذلك الإنجليزية والفرنسية، وعندنا سيبويه الذي يعد أول من ألف في النحو العربي وقعد له فارسي الأصل، وليس عربيا، فقد تعلم العربية وأجاد فيها، فما الإشكال في إجادة البخاري للعربية؟![2]
قال الدكتور كوركيس عواد – وهو نصراني عراقي – قولة حق : لقد أقبل أبناء الشرق و الغرب ، منذ القديم على تعلم العربية ، سعيا وراء الوقوف على ما تحتضنه هذه اللغة من جليل التصانيف و نفيس المباحث . هذا الى تفردها بمأثرة فائقة لا يدانيها فيها غيرها من لغات العالم . تلك هي أنها لغة القرآن الكريم ، الكتاب الأعظم ، و حامي حمى هذه اللغة الكريمة ، و رافع راية العرب في الخافقين .[3]
ثانيا: إن العبرة ليست بالأصل العربي أو الأعجمي، ولكن العبرة بالاجتهاد والعمل. و هذا يتضح في نبوغ كثير من أبناء العجم في العديد من الفنون حتى أصبحوا المرجع فيها و أصبحت أقوالهم قانونا يتبع .
قال ابن خلدون : ” فكان صاحب صناعة النحو سيبويه ، و الفارسي من بعده ، و الزجاج من بعدهما ، و كلهم عجم في أنسابهم ، و إنما ربزا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب ، و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم .
و كذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لإتساع الفن بالعراق . و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما يعرف ، و كذا حملة علم الكلام ، و كذا أكثر المفسرين . و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم ..”[4] و بالتالي أصبح ” حملة الشريعة أو عامتهم من العجم ” [5]
و كان ” أصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم ، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم ، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من اللغة العربية “[6]
ثالثا : ولادته و ترعرعه في جو علمي ، فقد كان أبوها أحد علماء بخارى المحدثين، وهذا يتضح من قول ابن حبان في كتابه “الثقات”: “إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، أبو الحسن، يروي عن مالك وحماد بن زيد، روى عنه العراقيون”.[7]
وذكره البخاري في التاريخ الكبير فقال: “إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي أبو الحسن، رأى حماد بن زيد، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه، وسمع مالكا”[8]
وقال ابن حجر: “روى عن حماد بن زيد وابن المبارك، وروى عنه يحيى بن جعفر البيكندي وغيره، ذكر ولده عنه ما يدل على أنه كان من الصالحين” .[9]
رابعا : لم يدخل البخاري في طلب الحديث إلا بعد إتقان اللغة وفروعها، ومما يدل على ذلك ما روي عنه أنه قال لرجل سأله أن يعلمه الحديث: “يابني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره، فقال له: عرفني حدود ما قصدت له ومقادير ما سألتك عنه، قال: اعلم أن الرجل لا يصير محدثا كاملا في حديثه إلا بعد أن يتيقن من معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو”[10].
و قال في معرض نقده لشبه بعض المعترضين في مسألة أفعال العباد : ” فإن إعترض جاهل لا يرتفع بقوله .. فإن لم يعلم هذا المعترض اللغة فليسأل أهل العلم من أصناف الناس كما قال الله يهدي الى الرشد إن فقه و فهم . فما يحملنا على كثرة الإيضاح و الشرح إلا معرفتنا بعجمة كثير من الناس ، و لا قوة إلا بالله . قال الحسن البصري : إنما أهلكتهم العجمة .[11]
خامسا : كثرة رحلات البخاري في الأقطار الإسلامية العربية ، و تلقيه العلم عن المشايخ في العواصم الإسلامية ، سبب في استحكام ملكاته العلمية و اتقانه للعلوم و الفنون . قال ابن خلدون : أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم ، و السبب في ذلك أن البشر ياخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفصائل تارة علما و تعليما و إلقاء ، وتارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة ، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا ، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها ..”[12]
إن أخذ الحديث من أفواه المشايخ جهابذة الرواية و أرباب الفصاحة و البيان ، و كثرة مذاكرة كتب الفنون و منها كتب اللغة ، كل ذلك ساهم في تقوية ملكات البخاري اللغوية و تنوع أساليبه البلاغية .
سادسا: اعتراف العلماء باتقانه للعربية
قال ابن حجر : ” و كان صاحب فنون و معرفة باللغة العربية و التصريف ” [13]
قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق : ” كان أديبا بالمعنى الأعم عند المتقدمين ، و هو من أدرك أسرار العربية ، و عرف الأساليب البلاغية ، و ألم بأهم القواعد النحوية ، و وقف على بعض خطب العرب و أمثالهم ، و حفظ شيئا من منثورهم و منظومهم ، سواء أزاول كتابة الرسائل و نظم الشعر ، أم لا ” [14]
و قال ابن حجر – أيضا -: ” و كتابه الجامع يشهد له بالتقدم في استنباط المسائل الدقيقة ، و بالإطلاع على اللغة و التوسع في ذلك ، و باتقان العربية و الصرف ، و بما يعجز عنه الواصف ، و من تأمل اختياراته الفقهية في جامعه علم أنه كان مجتهدا ، و إن كان كثير الموافقة للشافعي ..”[15]
قال محمد بن أحمد البلخي : ” و مع ما اشتمل عليه من الحفظ الغزير و ما يعجز عنه الواصف من معرفة الفن القاضي بأنه ليس له فيه نظير ، فكتابه يشهد له بالتقدم – أيضا – في استنباط المسائل الدقيقة ، و إزاحة الإشكالات بالكلمات اليسيرة الأنيقة ، كقوله : باب قول النبي ( يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته ، و قوله : باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه .”[16]
قال السخاوي : ” كل هذا مع الإطلاع على اللغة و التوسع فيها ، و إتقان العربية و الصرف إيضاحا و توجيها ..”[17]
قال الشيخ عبد السلام المباركفوري : ” لم يكن البخاري شاعرا ، و لكنه كان يتلذذ أحيانا بالكلام الموزون ، و يصدر منه كلام موزونفي النصائح و الآداب ..”[18]
قال الشيخ الدكتور عبد الغني عبد الخالق : : لم يكن البخاري من الكتاب المترسلين و لا فحول الشعراء المكثرين ، و ليس ذلك لنقص في قدرته ، أو ضعف في ملكاته ، فمواهبه جمة و ملكاته باهرة ، و قدراته نادرة ، و إنما السبب نشأته الحديثية الصرفة ، فكان يرى – كما يرى كثيرون غيره من الفقهاء و المحدثين – أن الإشتغال بالحديث و الفقه أولى و أفضل ، و أجدر بالتقديم ، و أعظم فائدة ، و أسلم عاقبة ، و كل ميسر لما خلق له “[19]
قال الشيخ عبد الستار الشيخ : ” كان الإمام البخاري صافي القريحة ، متوقد الذهن ، زكي الجنان ، فصيح اللسان ، رفيع البيان ، صحيح العبارة ، دقيق الإشارة ، كما يدل على ذلك تصانيفه البديعة ، و تعبيراته المختارة ، و حسن ترصيفه للكلام ، و ما أثر عنه من كلمات مأثورة ، و أقوال مشهورة ، و كما يستلزمه حفظه لكتاب الله الكريم ، و حديث النبي صلى اله عليه وسلم ، و أقوال الصحابة و التابعين و خطبهم و مأثوراتهم العقلية ، حفظا مطبوعا ، إنظم إليه جودة الغوص على الأغراض و المقاصد ، و إظهار الكنوز و اللألئ بفهم صحيح و تذوق سليم ” [20]
سابعا : أمثلة على إمتلاك البخاري لناصية اللغة ، و إتقانه لها ، و أنه مهر و تفنن فيها .
-
معرفة أصول الكلمة و تصريفها :
و من الأمثلة :
قال في قوله تعالى إني براء مما يعبدون ( الزخرف 26) : ” العرب تقول نحن منك البراء و الخلاء ، و الواحد و الإثنان و الجميع من المذكر و المؤنث ، يقال فيه براء لأنه مصدر ، و لو قال : بريء لقيل في الأنثى برئيان و الجميع برئيون ، و قرأ عبد الله إني برئ .[21]
قال تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه و ما استطاعوا له نقبا ( الكهف 97) .قال البخاري : ( اسطاع : استفعل من طعت له ، فلذلك فتح اسطاع يسطيع و قال بعضهم استطاع يستطيع ) .[22]
قال تعالى : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ( التوبة 87) . قال البخاري : الخوالف الذي خلفني فقعد بعدي ، و منه يخلفه في الغابرين، و يجوز أن يكون النساء من الخالفة ، و إن كان جمع الذكور ، فإنه لم يوجد على تقدير جمعه إلا حرفان : فارس و فوارس و هالك وهوالك .[23]
قال تعالى : عربا أترابا لأصحاب اليمين ( الواقعة 37) . قال البخاري : عربا مثقلة و أحدها عروب مثل صبور و صبر ، يسميها أهل مكة : العربة ، و أهل المدينة : الغنمة ، و أهل العراق : الشكلة ، و العرب المحجبات الى أزواجهن .[24]
-
الغوص في المعاني اللغوية و الدلالية
من الأمثلة :
قوله تعالى : هل أتى على الإنسان قال البخاري : يقال معناه : أتى على الإنسان و ( هل ) تكون جحدا و تكون خبرا ، و هذا في الخبر يقول كان شيئا لم يكن مذكورا ، و ذلك حين خلقه من طين الى أن ينفخ فيه الروح . ( أمشاج ) : الأخلاط ، ماء المرأة و ماء الرجل ، الدم و العلقة ، و يقال إذا خلط : مشيج كقولك خليط و ممشوط مخلوط . ( القطرير ) الشديد يوم قمطرير ، و يوم قماطر و العبوس ، و القمطرير و القماطر و العصيب أشد ما يكون من الأيام في البلاء .[25]
قوله تعالى عظاما نخرة ( النازعات11) . قال البخاري : يقال الناخرة و النخرة سواء مثل الطامع و الطمع و الباخل و البخل . قال بعضهم : و النخرة البالية و الناخرة العظم المجوف الذي تمر فيه الريح فبنخر .[26]
” المهارة اللغوية شرط أساسي لأي تفسير أصيل ، و لا تكاد تجد تفسيرا معتبرا إلا إذا كان مؤصلا تأصيلا لغويا قويا . و البخاري إمام متفنن و الجانب اللغوي في الجامع قد جاء محكم البيان غاية في افتقان ، شأنه في ذلك شأن بقية الفنون كالحديث و التفسير و الفقه ، و قد كان مجاز القرآن لأبي عبيدة و معاني القرآن للفراء متغلغلين في حافظة الإمام البخاري ، فأفرغ منهما في صحيحه كمية كافية ، و تكاد تكون الجوانب اللغوية التفسيرية في الجامع هي مادة الكتابين ، غير أن البخاري هذب كلاهما و اختصره إختصارا . بيد أنه غلبت عليه افستقلالية العلمية و النزعة الإجتهادية ..” [27]
-
تبويبات البخاري دليل على امساكه زمام العربية :