خطبة بعنوان: الإمام البخاري وكتابه ‘الصحيح،
3 أبريل، 2019
خطب في نصرة البخاري
1,287 زيارة
عناصر الخطبة
1/ من أعلام القرن الثالث الهجري (البخاري) 2/ نسبه وبعض صفاته الخَلقِية 3/ تصنيفه للكتب 4/ قوة حفظه (اختبار حفاظ بغداد له حين قدومه إليهم) 5/ رؤيته للنبي الكريم في منامه 6/ عبادته وزهده 7/ من أقوال السلف فيه وعظيم محبتهم له 8/ وفاته 9/ فضل صلاح الأبوين (أم البخاري) 10 /دروس من سيرة الإمام البخاري.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن التاريخ حفظ رجالاً من أهل الإسلام، لا يمكن زوالُ ذكرِهم إلا بزوال الإسلام، ولن يزول الإسلام إلى قيام الساعة، إنهم حمَلَة هذا الدِّين وناقلوه إلى الناس، عبر هذه القرون الطوال.
هذا أحدهم: كان نحيف الجسم، وليس بالطويل ولا القصير، من علماء القرن الثالث الهجري، ذاق اليُتْم كما هي سُنَّة أكثر العظماء، وعاش في كَنَف والدته. وكانت الكتاتيب بوابة بروزه وشهرته وإمامته.
سيرته من أعجب العجب في ذكائه وحفظه وفقهه، في عبادته وزهده وورعه، ذلكم هو أمير المؤمنين في الحديث؛ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجُعْفي مولاهم البخاري -رحمه الله تعالى- ورضيَ عنه.
أُلهم حفظ الحديث وهو في الكُتَّاب وعمره عشر سنوات، وكان يصحِّح للشيخ خطأه في الإسناد وهو ابنُ إحدى عشرة سنة، وحفظ كتب العلماء الكبار وهو ابن ست عشرة سنة، ثم حجَّ مع والدته وجاور بمكة لطلب الحديث.
بدأ تصنيف بعض كتبه وهو ابن ثمان عشرة سنة، والكتب التي كتبها وهو في هذه السنِّ المبكِّرة يقوم على دراستها عشرات من كبار الدارسين في هذا العصر لنَيْل درجات علمية عالية، وما يفونها حقَّها، أليس هذا عجبًا؟! ثم انظروا إلى اهتمامات أبناء الحادية عشرة والسادسة عشرة وأبناء العشرين!!
وأعجب من ذلك: أنه كان يصاحب أقرانه إلى المشايخ لأخذ الحديث، وهم يكتبون وهو لا يكتب، ويأمرونه بالكتابة فلا يكتب، فلما ألحُّوا عليه؛ قرأ عليهم ما كتبوه عن ظهر قلب، فزاد على خمسة عشر ألف حديث! ثم قال لهم: “أترون أني أختلف هَدْرًا وأضيِّع أيامي”
لقد كان أهلُ المعرفة من البصريين يَعْدُون خلفه في طلب الحديث وهو شابٌّ، حتى يغلبوه على نفسه، ويُجلِسوه في بعض الطريق؛ فيجتمع عليه ألوفٌ، أكثرهم ممَّن يُكْتَبُ عنه، وكان شابًّا لم يخرج شَعْرُ وجهه بعد!
قدم بغداد، وقد كان أئمة الحديث فيها يسمعون عن قوَّة حفظه، فأرادوا امتحانه، فعمدوا إلى عشرة من حفَّاظهم، مع كلِّ واحدٍ عشرةُ أحاديث قلَّبوا أسانيدها وخلَّطوها، فأخذوا يلقونها على البخاري حديثًا حديثًا، وهو يقول: لا أعرف هذا الحديث؛ حتى أنهوا المائة حديث، ثم أعاد عليهم المائة حديث بخطئهم، ثم أعادها مرة أخرى مصحَّحة؛ فأقرُّوا له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل. قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: “هنا يُخْضَعُ للبخاري، فما العجب من ردِّه الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظًا؛ بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرَّةٍ واحدةٍ”.
قال أبو بكر الكَلْواذاني: “ما رأيتُ مثل محمد بن إسماعيل؛ كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطِّلاعَةً، فيحفظ عامَّة أطراف الأحاديث من مرَّة واحدة[8].
انضمَّ إلى هذا الحفظ العجيب اهتمامٌ بالغ بالحديث يشغله عن النوم كثيرًا؛ قال محمد بن يوسف: “كنتُ مع البخاري بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلةٍ ثماني عشرة مرة”!.
وكان ثمرةُ هذا الحرص وتلك الحافظة رصيدًا كثيرًا من الأحاديث، بلغ أكثر من ستمائة ألف حديث، بين مقبول ومردود، يختزنها البخاري في ذاكرته، بأسانيدها وفوائدها وعللها.
ولقد رآه غير واحد في المنام يمشي خلف النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – كلما رفع النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم– قدمه؛ وضع أبو عبدالله قدمه في ذلك الموضع؛ وتلك كرامةٌ في التأسِّي والاقتفاء، بل إن البخاري رأى النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في المنام؛ قال يصف تلك الرؤيا: “وكأنني واقفٌ بين يَدَيْه، وبيدي مروحة أذبُّ بها عنه، فسألتُ بعض المعبِّرين؛ فقال لي: أنت تذبُّ عنه الكذب؛ فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح”.
وقال: “كنا عند إسحاق بن رَاهَوَيْه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنَّة رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم! قال: فوقع ذلك في قلبي؛ فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح”.
كانت رؤياه وقولُ شيخه حافزًا على جَمْعِه “الصحيح”، الذي لا يوجد على وجه الأرض كتابٌ أصحُّ منه إلا كتابُ الله تعالى. وما كان ذلك إلا توفيقًا من الله تعالى، وكَرَمًا منه لهذا الإمام العظيم، ثم تحرِّي هذا الإمام ودقَّته، وكثرة استخارته؛ حتى خرج كتابه على أحسن وجه. يقول – رحمه الله تعالى -: “ما وضعتُ في كتاب “الصحيح” حديثًا إلاَّ اغتسلت قبل ذلك وصليتُ ركعتين”!. ويقول: “صنَّفْتُ “الجامع” من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حُجَّةٌ فيما بيني وبين الله”.
ابتدأ تصنيفه وترتيبه وتبويبه في المسجد الحرام، وحوَّل تراجمه في الرَّوضة الشريفة في مسجد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتَيْن، ويدلُّ هذا على تعظيمه لحديث رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأنه كان يرى أن الاشتغال بالحديث من أعظم ما يقرِّب إلى الله تعالى، حتى كأنَّ المشتغِل بالحديث مُجالس لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصَحْبه الكرام.
قال تلميذه الفِرَبْرِيُّ: “أملى يومًا عليَّ حديثًا كثيرًا، فخاف مَلالي؛ فقال: طِبْ نفسًا؛ فإن أهل الملاهي في ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه”.
بعلمه وعمله، وإتباعه للسُّنة وإخلاصه بلغ صِيتُه آلافاق، وأثنى عليه العلماء؛ حتى قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: “ولو فتحتُ بابَ ثناء الأئمة عليه، ممَّن تأخَّر عن عصره؛ لفني القِرْطاس، ونفدت الأنفاس؛ فذاك بحرٌ لا ساحل له”[18].
ونقل عن قتيبة بن سعيد قوله: “جالستُ الفقهاءَ والزهَّاد والعبَّاد، فما رأيتُ منذ عقلتُ مثلَ محمدٍ بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة”[19]، وقال: “لو كان محمد في الصحابة لكان آية”[20].
وبلغ من محبَّتهم للبخاري ما قاله يحيى بنُ جعفرٍ البِيكَنْدِي: “لو قدرتُ أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت؛ فإن موتي يكون موت رجلٍ واحدٍ، وموته ذهابُ العلم”
ومع علمه وحفظه كان آيةً في العبادة، لم يشغله الحديث عن القرآن؛ إذ كان يختم في كل يوم من رمضان ختمة، ويصلي في آخر الليل ثلاث عشرة ركعة
وكان فيه خشوعٌ عجيبٌ؛ قام يصلِّي يومًا، فلسعه زنبورٌ سبع عشرة مرة، حتى تورَّم جسدُه، ولم يقطع صلاته حتى أتمها! فقالوا له في ذلك؛ فقال: “كنتُ في سورةٍ، فأحببت أن أُتِمَّها”[24].
وكان فيه من الورع والتقوى ما يدعو للدهشة والإعجاب، ويكفي في ذلك قوله: “إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدًا”
ومن دقيق محاسبته لنفسه في ذلك، أنه قال يومًا لأبي معشر الضرير: “اجعلني في حلٍّ يا أبا معشر. فقال: من أيِّ شيءٍ؟ قال: رويتُ يومًا حديثًا، فنظرت إليكَ وقد أعجبتَ به، وأنت تحرِّك رأسَك ويدَك؛ فتبسَّمتُ من ذلك. قال: أنت في حلٍّ، رحمك الله يا أبا عبدالله”.
وبلغ من شدَّة وَرَعِه، أن ابنه أرسل إليه بضاعةً، فطلبها بعض التجار بربح خمسة آلاف درهم؛ فقال: “انصرفوا الليلة؛ فجاءه من الغد تجارٌ آخَرون، وطلبوها بربح عشرة آلاف؛ فقال: إني نويتُ أن أبيعها للذين أتوا البارحة، ولا أحبُّ أن أغيِّر نيَّتي” .
وقد ورث من أبيه مالاً جليلاً، وكان يدفعه إلى بعض مَنْ يتاجر به مضاربةً، وكان منهم من أخذ خمسة وعشرين ألفًا ولم يُرْجِعْ إليه شيئًا؛ فقيل للبخاري: “استعنْ بكتاب الوالي عليه؛ حتى يُعيد إليك مالَكَ، فقال رحمه الله: إن أخذتُ منهم كتابًا طمعوا، ولن أبيع ديني بدنياي”. ثم صالح غريمه على أن يعطيه كلَّ شهرٍ عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كله .
وأرسل إليه أحد الولاة أن يأتيه بكتابَيْه: “الصحيح” و”التاريخ”؛ حتى يسمعهما منه؛ فقال لرسول الوالي: “أنا لا أذلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس؛ فإن كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجة؛ فاحضر في مسجدي أو في داري …”[29].
فصار ذلك سببَ وَحْشَةٍ بينه وبين الوالي، مع سعي الوشاة بينهما؛ فنفاه عن البلد، فدعا عليهم – وكان مُجابَ الدَّعوة – وقال: “اللهم أَرِهِمْ ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم”. قال الرُّواة: “فما مضى على دعوته شهرٌ؛ حتى صار عاقبة الوالي إلى العزل والذُّل، ثم الحبس، ومَنْ سعى فيه ابتُلِيَ في أهله، حتى رأى فيهم ما يجلُّ عن الوصف، وآخَر ابتُلِيَ في أولاده بالبلايا”
توفِّي – رحمه الله تعالى – ليلة عيد الفطر، سنة ستٍّ وخمسين ومائتين، وعمره اثنتين وستين سنة. وبوفاته – رحمه الله تعالى – طويت صفحةٌ من صفحات العلماء العاملين؛ لكن ضوءها لم يخفت؛ بل ظل يضيء الطريق للسائرين، غُرَّةً في جبين تاريخ المسلمين ورجاله الأفذاذ. ولو لم يكن من ضوئها إلا كتابُه “الصحيح”؛ لأضاء ما بين الخافقَيْن، وكان شاهدًا له إلى يوم الدين.
قال الطواويسي: “رأيتُ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقفٌ في موضع؛ فسلمت عليه، فردَّ عليَّ السلام، فقلتُ: ما وقوفكَ يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري، فلما كان بعد أيام؛ بلغني موته؛ فنظرتُ فإذا قد مات في الساعة التي رأيتُ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيها”.
رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، ورضيَ عنه، وجمعنا به في دار كرامته، ونفعنا بما نقول ونسمع، وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى – عباد الله – فبالتقوى يُنال العلم والعمل: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282].
أيها المؤمنون: سيرة الإمام البخاري تتحدث عن دروسها، فهي من الوضوح بما لا مزيد عليه؛ ولكن اللاَّفت للنَّظر: أنَّ هذا الإمام الذي خدم السنة والإسلام لم تكن معرفةُ أجداده بالإسلام إلا قريبًا من ولادته؛ إذ إنَّ جدَّ أبيه المغيرة كان فارسيًّا على دين قومه، عرف الإسلام فأسلم، فكان من عقِبِه هذا الإمام الكبير!!
ومَنْ دخل الإسلام عن قناعة ليس كمن ورثه أبًا عن جدٍّ، كما هو حال كثير من المسلمين، الذين لا يعرفون من الإسلام إلا أنهم ورثوه عن الآباء والأجداد. أمَّا تناديهم؛ فعلى القومية والوطنية التي فرَّقوا بها بين المسلمين.
هذا البخاريُّ الذي عَرَفَته جميع الآفاق، وكتابُه أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى، ليس عربيًّا؛ بل أعجميُّ الأصل والبلد؛ فالعبرة ليست بعروبة النشأة واللِّسان؛ ولكنها بالدين الصحيح قولاً وعملاً، وليس ميراثًا وتسمِّيًا.
ووصول البخاري إلى هذه المنزلة من العلم والعمل، والحفظ والفقه، والورع والعبادة، والزهد والقوَّة، مع شهرةٍ واسعة، وقَبُول في الأرض، يطرح سؤالاً مهمًّا: ما الذي بلغ به هذه المنزلة؟!
إن الذي أوصله إلى ذلك المكان الرفيع – مع ما ذُكِرَ من شمائله – صلاحَ أبويه، فأمُّه كانت كثيرة العبادة والدعاء، وقد أكرمها الله وابنها بكرامةٍ عجيبة؛ ذلك أن ابنها محمدًا ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليلَ إبراهيم في المنام؛ فقال لها: “يا هذه، قد ردَّ الله على ابنكِ بصَره بكثرة دعائكِ. فأصبح وقد رَدَّ الله عليه بصره”. وأما أبوه؛ فمعدودٌ في العلماء الوَرِعين.
فصلاح الأبوَيْن له أثره على الذُّرِّيَّة، وهو سبب الصلاح والتوفيق، وقد حفظ الله مال اليتيمَيْن بصلاح أبيهما: (وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الكهف: 82].
والدَّرس المهمُّ في سيرة هذا الإمام: التورُّع عن الشبهات، والبُعْد عن الحرام. ووالدُ البخاري كان أيضًا متورِّعًا عن الحرام. وجميع ما خلَّفه لأهله كان مالاً حلالاً، لا شبهة فيه ولا حرام؛ فقد قال عند موته: “لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة” فكان بناءُ جسد ابنه من خالص الحلال؛ فاستحقَّ أن يكون إمامًا.
يا ترى لو أن جسد ابنه بني منَ السُّحْت والحرام، أيكون أمير المؤمنين في الحديث، ويوفَّق لتصنيف “الجامع الصحيح”؟! لا أظنُّ ذلك؛ لأن كل جسدٍ نَبَتَ من حرام؛ فالنار أوْلَى به، ولا يكون التَّوفيق والتَّسديد إلاَّ لأولياء الله تعالى، وأولياء الله لا يواقعون الشبهات، ولا يتخوَّضون في الحرام.
إن الآباء يفرحون بصلاح أبنائهم ورفعتهم ومجدهم؛ لكنَّ كثيرًا منهم لا يتحرَّى في كَسْبه، ولا يتورَّع عن الشبهات والحرام؛ فيتغذَّى أولادهم على الحرام، ولا تكون الإمامة في الدين لجسدٍ نَبَتَ من حرام.
أيها الإخوة: لو تأملنا في أعداد البشر الذين يترحَّمون على البخاري، ويستغفرون له منذ القرن الثالث الهجري وإلى اليوم؛ بل وإلى آخر الزمان – لعرفنا فضله ومنزلته. مدارس المسلمين وجامعاتهم، ودورُ الحديث وأربطةُ العلماء، ودروسُ طلاَّب العلم على مرِّ الزمان، يدرسون صحيح البخاري، وفي كل درسٍ يقولون: قال البخاريُّ – رحمه الله تعالى – بل آلات المطابع، وأصابع الرَّاقمات، وأزرار الحاسوبات، وأقلام المشتغِلين بالعلم تكتبُ: قال البخاري – رحمه الله تعالى -!!.
إنه فضلٌ عظيمٌ، ومَنْقَبَةٌ كبرى، لا يمكن إحصاء مَنْ يقولها ويكتبها عبر التاريخ الطويل؛ ناهيكم عن أجر حفظ السُّنة، والاشتغال بالعلم، وفناء العمر في التعليم. كلُّ ذلك ناله هذا الإمام المبجَّل، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
وهذا يحفِّز العلماء إلى الإخلاص، ويدعو طلاب العلم إلى الجدِّ في الطَّلب؛ حتى ينالوا بعضًا من هذا الفضل: (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) [الحديد: 21].
ألا وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم، كما أمركم بذلك ربُّكم.