خطبة بعنوان: البخاري رحمه الله، ملتقى الخطباء
3 أبريل، 2019
خطب في نصرة البخاري
2,115 زيارة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين: إنَّ العلماء الصادقين هم مصابيحُ الدجي، ومنائرُ الخير، ودلائلُ المعرفة والبصيرة، يهيئهم الله تعالى لهذا الأمة لحفظ الدين، ونشر العلم، وتصحيح المفاهيم، وإقامة الحجة، ومن فضله -تعالى- أن يختص بعض هؤلاء العلماء بمزيدِ فضل، ويسبغ عليه من فيضِ ألطافه، فيكرمه بالفهمِ الدقيقِ، والحفظِ الواسعِ، والفقه المحقق، وينعم عليه بالعمل بالعلم، ويجعل له قبولاً بين عباده.
ومن هؤلاء عالمٌ جليلٌ، وحبرٌ كبيرٌ، عاش في القرنِ الثالث الهجري، حفظ اللهُ به السنة النبوية، فعلَّم وأقْرَأَ ودوَّنَ، وفقه اللهُ –تعالى- ليجمع كتاباً فيه ما صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون من أهم المنابع التي يُستسقى منها غيثُ السنن، ويُغترف منها دقائقُ الفقه.
إنَّه الإمام البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة أبو عبد الله الجعفيُّ البخاريُ، الإمامُ في علم الحديث، صاحب الجامع الصحيح والتاريخ، رحلَ في طلب العلم إلى سائر محدثيّ الأمصار، وكتب بخراسان، والجبال، ومدن العراق كلها، وبالحجاز، والشام، ومصر.
والحديثُ عن هذا الجبلِ لا تكفيه عدةُ خطبٍ، ولكن ما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه.. ويكفي من القلادةِ ما أحاط بالعنق، لذا سنقف معاً -أيها الكرام- على بعض المحطاتِ العظيمة من حياة هذا الإمام؛ لنقتبسَ من تلك الحياة الحافلة بالعلم والمعرفة والعمل والعبادة والدعوة، ما يكشف لنا جوانبَ من تلك الشخصيةِ العظيمةِ التي هي مفخرة للإسلام والمسلمين.
ولد الإمام البخاري في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة 194 هـ في بخارى.
لم يكن هذا الإمام الجليل الذي نفع الله به الأمة عربياً، بل كان أعجميَّ الأصلِ؛ لنستنتجَ من ذلك أنَّ هذا الدين دينٌ عالمي، شارك أتباعه في حمله والنهوض به من شتى الأجناس ومن متفرق الأصقاع، دينٌ لا يفرق بين منتسبيه على أساس أعراقهم وألوانهم ولهجاتهم بل المعيار التقوى وماذا يُقدم الشخصُ لهذا الدين، فهذا الإمام حمل الدين بقوة، وحفظ السنة فحفظ الله اسمه في الخالدين، ولَهَجَ المسلمون بذكره من حياته وإلى الآن، يترحمون عليه.
وكان جدُ أبيه المغيرة مجوسيًّا على دين قومه، ثم أسلم على يد اليمان الجعفي وأتى بخارى فنُسبَ إليها، وأما والده فكانَ من رواة الحديث، ومات وابنه محمد مازال صغيراً فنشأ في حجر أمه، ثم حجَّ مع أمه وأخيه أحمد، وكان أحمد أسنَّ منه، ثم رجع أخوه إلى بخارى فمات بها.
وقد ابتلي -رحمه الله- من صغره، ففقدَ بصره وهو صغير، فرأت أمه في منامها إبراهيمَ الخليل، فقال: يا هذه، قد ردَّ الله على ولدك بصره بكثرة دعائك -أو قال: بكائك- فأصبح بصيراً.
عبادَ اللهِ: لقد أحب الإمام البخاري العلم منذ نعومة أظفاره، وبدأت معالم النبوغ تظهر في صغره، وتجلى للعيان ما الذي سيكونُ عليه من ميوله وتوجهه وهمته، فقد قَالَ محمد بن أبي حاتم الوراق النحوي، قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قَالَ: أُلهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قَالَ: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقَالَ: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلت اختلف إلى الداخليِّ وغيره، وَقَالَ يوماً -أي الداخلي وكان من رواةِ الحديث- فيما كان يقرأ للناس: (سفيان عن أبي الزبير، عن إبراهيم). فقلت له: يا أبا فلان إنَّ أبا الزبير لم يروه عن إبراهيم. فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إنْ كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي بن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم كتابه، فقال: صدقت، فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنتَ إذ رددتَ عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة سنة فلما طعنتُ في ست عشرة سنة، حفظتُ كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء.
لقد رحل البخاري إلى مكة ليطلب العلم وكانت أول رحلة له في سبيل العلم، وكان ذلك حوالي سنة عشر ومائتين، ثمَّ رحل إلى المدينة، والشام، ومصر، وغيرها، قال الخَطيب: “رحل في طلب العلم إلى سائر محدِّثي الأمصار.
أيها المؤمنون: وهبَ اللهُ تعالى الإمامَ البخاري ذكاءً خارقاً، وقوة حفظ، وسعة إطلاع، فيحكي عن نفسه -رحمه الله- فيقول: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح)، وحكى عنه بعضُ أصحابه، فقال: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة، وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيامٌ، فكنا نقول له: إنَّك تختلف معنا، ولا تكتب فما تصنع? فقال لنا يوماً بعد ستة عشر يوماً: إنَّكما قد أكثرتما عليَّ، وألححتما فاعرضا عليَّ ما كتبتما فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر القلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحدٌ.
بهذه الهمة وهذا الحفظ ارتفع قدرُهُ، فصار إماماً في الحديث، وموسوعةً في حفظ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنذ صغره فاق أقرانه، حتى صاروا يتتلمذون على يديه، ويحتفون به في البلدان.
عباد الله: ومع شدة اهتمامه بالعلم وطلبه، وتولعه بالحفظ والرواية؛ إلا أنه كان ملازماً للعبادة متحلياً بالتقوى والورع، ولعلنا نقف مع عبقٍ يسيرٍ من عبادته وورعه وتقواه، ومن ذلك ما يلي:
ما ذُكِر عن خشوعه أنه كان يصلي ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرَّة، وَلم يقطع صلَاته وَلَا تغير حَاله حتى انتهى من صلاته.
وكان -رحمه الله- إذا دخل عليه رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم، فيقرأ في كل ركعة عشرين آية.
وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار كل يوم ختمة ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل ختم دعوة مستجابة.
ومما يدل على عظيم ورعه وتقواه ما قاله -رحمه الله-: أَرْجُو أَن ألْقى الله وَلَا يحاسبني أَني اغتبت أحداً، وكان يقول عن نفسه -رحمه الله-: ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أنَّ الغيبة حرام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: لقد امتحن -رحمه الله- وابتلي في أواخر حياته في نيسابور فصبر على ذلك، ثم إنه عاد إلى بلده بُخارى، فاستقبله الناس، ونُثِرت عليه الدَّراهم، وحدَّث بها أيَّامًا إلى أنْ حَدَثتِ الوحشة بينه وبين واليها الأمير خالد بن أحمد الذُّهْلي؛ حيث سأله أنْ يحضرَ منزله، فيقرأ “الجامع”، و”التاريخ” على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده، فراسله بأنْ يعقد مجلسًا لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع، وقال: لا أخصُّ أحدًا، ثم قال للرسول: “أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب النّاس، فإنْ كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجة، فاحضرْ في مسجدي، أو في داري، وإنْ لم يعجبك هذا، فإنَّك سلطان فامنعني من المجلس؛ ليكون لي عذرٌ عند الله يوم القيامة؛ لأنِّي لا أكتمُ العلمَ”، فوجد عليه الوالي، واستعان بخصومه حتى تكلَّموا في مذهبه، فنُفِيَ عن البلد، فمضى إلى “سمرقند”.
بعد نفيه استقرَّ بإحدى قُرى سمرقند تُدعَى: “خَرْتَنْك”، فكان له بها أقرباء أقام عندهم أيَّامًا، مرض مرضًا شديدًا، فما تمَّ الشهر حتى مات.
وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة (256هـ) وكانت ليلةُ سبتٍ عند صلاة العشاء، وصُلي عليه يوم العيد بعد الظهر وكان عمره اثنين وستين سنة.
أيها المؤمنون: لقد ترك الإمام البخاري وراءه تركة علمية فخمة، مازال الناس تستفيد منها، وهو الكتاب العظيم “بالجامع الصحيح” صحيح البخاري” ، وهو أول كتاب صُنف في الحديث الصحيح المجرد ، وقد قال -رحمه الله- عنه حاكياً كيف أعتني بجمعه: “صنفت كتابي “الصحيح” لستّ عشرة سنة، خرجته من ست مائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى”، وقد جمع فيه ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً من تصانيف الإمام البخاري المهمة: “كتاب الأدب المفرد” ، والذي تناول فيها جملة من الآداب والأخلاق، كما ترك بعض الأجزاء الحديثية مثل: “القراءة خلف الإمام” ،”رفع اليدين في الصلاة” . وألف رحمة الله في علم التاريخ: “كتاب التاريخ الكبير ، والأوسط والصغير” ، وفي العقيدة ألّف رسالة أسماها: “خلق أفعال العباد” ، وفي علم الرجال صنف كتابه: “الضعفاء” ، وله كذلك مصنفات أخرى كثيرة بعضها مفقود.
عباد الله: ها هو الإمام البخاري قد جعل الله له لسانَ صدق عند أهل العلم والأخيار وهم يثنون عليه -رحمه الله-، ومما سطره التاريخ من الثناء عليه من جهابذة أهل العلم ما يلي:
ما قاله الإمام أحمد بن حنبل: ما أخرجتْ خراسان مثل محمد بن إسماعيل، وقال عبدالله بن سعيد بن جعفر: سمعتُ العلماء بالبصرة يقولون: ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح، وقال ابن خزيمة: ما رأيتُ تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.
وقال عنه الحافظ ابن كثير: هو إمام أهل الحديث في زمانه، والمقْتَدَى به في أوانه، والمقدَّم على سائر أضرابه وأقرانه.
وهذا غيض من فيض الثناء عليه، ونقطة من بحر مديحه من قبل عظماء علماء الأمة.
فرحم الله ذلك الإمام، وأسبغ عليه من واسع فضله، كان مدرسةً يتلقى منها السائرون في دروب العلم دروسا في علو الهمة في التحصيل، وبذل الجهد في سبيل المعرفة والتلقي، وكانت حياته مناراً يستفيد منه السالكون في طريقهم إلى الله، وكانت سيرته دليلا يقتدي به من بعده، فقد عاش لله تعالى باذلاً وقته للعلم والعبادة، مكافحاً للتعلم ونشر العلم، وخلف تراثاً نفع الله به من جاء بعده من الأمة.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله ..