الرئيسية / غير مصنف / إبطال شبهات إسلام البحيري حول موت النبي بالشاة المسمومة، عبد الأعلى المصري

إبطال شبهات إسلام البحيري حول موت النبي بالشاة المسمومة، عبد الأعلى المصري

إبطال شبهات إسلام البحيري حول

موت النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الشاة المسمومة

 

* قال إسلام البحيري في مقال: “قصة مقتل النبى «صلى الله عليه وسلم» بالسُّم على أيدى اليهود باطلة” (جريدة اليوم السابع/الإثنين، 3 نوفمبر 2008م):

“ولأن العقل الجمعي المسلم لا يمكن بحال أن يتقبل فكرة نقد أحاديث فى كتاب البخارى على أساس أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رغم أن البخارى يبقى مع كل إتقانه بشرًا تعتريه الوساوس والأخطاء والأهواء وتظل منتجاته العلمية متاحة أمام النقد العلمي والأكاديمي ولا مطعن ولا مَعيب فى ذلك”.

قلت: ما زال البحيري مستمرًا في حربه الخبيثة على أصح كتاب في الدنيا بعد كتاب الله عز وجل؛ ساعيًا سعيًا حثيثًا إلى التشكيك فيه، وإضعاف ثقة المسلمين في مصداقيته وصحته.

وبهذا الكلام ينكشف الوجه الكالح لهذا الرجل الذي أراد أن يستره أحيانًا بعبارات معسولة تنطوي على سمٍّ زعاف.

فأقول: هذا العقل الجمعي المسلم لا يمكن بحال أن يتقبل فكرة نقد أحاديث في كتاب البخاري؛ لأنه وافق إجماع الأمة عبر القرون على صحة جملة ما في الصحيحين، وعلى رأسهما البخاري، وهذا مما يتشرف به المسلم الذي يؤمن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما كونه لا يتقبل فكرة نقد أحاديث البخاري، ليس لأنه يعتقد عصمة البخاري، إنما لاعتقاده أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، كما في حديث أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ -صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا…”، الحديث([1]).

وأما البحيري فإنه يريد أن يخرق إجماع الأمة، ويطعنها في قلبها بخنجر مسموم من أحقاده التي ملأت قلبه على أشرف الكتب بعد القرآن.

وكان الأولى به أن يوجه سهامه إلى كتب الضلال التي امتلأت بالأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو “أصول الكافي” للكُلَيني -وهو بخاري الروافض الشيعة-، ونحوه من كتب الزنادقة الملاحدة أمثال  بشر المريسي، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض.

لكن -الظاهر- أنه يسير في ركاب هؤلاء الزنادقة الملاحدة، كما سيأتي من صريح كلامه الذي لا يتفوه به مسلم يعظِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأقول له: إن النقد العلمي النزيه لصحيح البخاري إنما يقوم به العلماء الأمناء على أسس وقواعد شريفة لا على أغراض دنيئة، وقد قاموا بالفعل بهذه الأمانة العظيمة، ولم يدخل في نقدهم مساعيك الخائبة في محاولة تضعيف جملة من الأحاديث الثابتة بسبب سوء فهمك بل سوء قصدك.

* ثم قال البحيري: “فكما يعرف الغالبية من المسلمين أن النبي ([2]) توفي على أثر وجع شديد وحمى ألمَّت به، إلا أن البخاري وحده في كتابه دون أي أحد في العالمين أخرج حديثًا أن النبي مات مسموما مقتولا جراء أكله من شاة مسمومة قُدمت له من اليهود فى موقعة خيبر. ولنعرض الحديث أولا.. أخرج البخارى فى باب «مرض النبى صلى الله عليه وسلم ووفاته» 791/7- 4428 ما يلى: «وقال يونس، عن الزهرى: قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذى مات فيه: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم …”.

قلت: دعواه أن البخاري وحده دون أحد في العالمين هو الذي أخرج حديث موت النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الشاة المسمومة التي قدَّمها له اليهود، إنما هو افتراء سمج على أمير المؤمنين في الحديث، نابع من جهل هذا الرجل بعلم التخريج، بل نابع من كتمانه للحق وهو يعلم -على طريقة اليهود في كتمان الحق-، هذا إن سلم من الجهل.

فالإمام البخاري روى هذا الحديث معلَّقًا كما اعترف هذا الغرُّ، وقد أخرجه برقم (4428) تحت باب: مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَفَاتِهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31].

 و وصله الحاكم في مستدركه (3/60) قال: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَشْقَرُ، ثنا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى المرُّوذِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثنا عَنْبَسَةُ، ثنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: «يَا عَائِشَةُ، إِنِّي أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُهُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ».

قال الحاكم: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: وَقَالَ يُونُسُ”.

ووصله أيضًا الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (4/162) من طريق مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ به.

وقال: “روى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن سعيد الْبَزَّاز الوَاسِطِيّ عَن أَحْمد بن صَالح نَحوه”.

قلت: أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَشْقَرُ، ترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام (8/134)، فقال: “شيخ أهل الكلام في عصره بنيسابور، قال الحاكم: صدوق في الحديث.

سَمِعَ: إبراهيم بن أبي طالب، وجعفر بن سوار، ويوسف بن موسى المَرْوَزي، وأقرانهم،

وتُوُفّي في آخر سنة تسعٍ وخمسين”.

وأما يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، فهو ابن عبد الله، أبو يعقوب القَطَّان المَرْوَرُّوذي، أي: المرُّوذي، ترجمه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (16/454/بشار):”كَانَ من أعيان محدثي خراسان، مشهورًا بالطلب والرحلة فِي الحديث إلى الآفاق البعيدة… وقدم بغداد، وحدث بِهَا، فروى عَنْهُ من أهله…وكان ثقة”.

وترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام (6/1068/بشار)، وقال: “قَدِمَ بغداد وَحَدَّثَ بالكثير، وكان مكثرًا فاضلاً واسع الرحلة…وهو يوسف بن موسى القطان الصغير، والكبير فمن شيوخ البخاري”.

وأما أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، فهو إمام أهل مصر في زمانه: أبو جعفر ابن الطبرى، ثقة ثبت حافظ، من كبار الآخذين عن تبع الأتباع.

وأما عنبسة فهو ابن خالد بن يزيد القرشى الأموى مولاهم ، أبو عثمان الأيلى (ابن أخى يونس بن يزيد)، فقد قال عنه تلميذه أحمد بن صالح: صدوق، واعتمد هذا الحافظ في التقريب.

وأما يونس فهو ابن يزيد بن أبي النجاد، فقد قال البحيري مشكِّكًا في صحة رواية يونس عن الزهري: “ورغم أنه يعد الراوى الثانى لحديث الزهرى فإن أهل الجرح والتعديل قد عابوا عليه منكراته عن الزهري، فيقول ابن حجر فى تهذيب التهذيب ج 11 – 770: «وقال أبو زرعة الدمشقى سمعت أحمد بن حنبل يقول فى حديث يونس عن الزهرى منكرات… وسئل أحمد من أثبت فى الزهرى قال معمر قيل فيونس قال روى أحاديث منكرة».

قلت: لكن قال الفضل بن زياد : قال أحمد : يونس أكثر حديثًا عن الزهرى من عقيل ، وهما ثقتان .

وقال عباس الدوري، عن يحيى بن معين: أثبت الناس في الزهري: مالك ، ومعمر ، ويونس ، وعقيل،  شعيب بن أبى حمزة، وابن عيينة .

وقال عثمان بن سعيد الدارمى : قلت ليحيى بن معين : يونس أحب إليك أو عقيل ؟ فقال : يونس ثقة، وعقيل ثقة نبيل الحديث عن الزهرى . قلت : أين يقع ـ يعنى الأوزاعى ـ من يونس ؟ فقال : يونس أسند عن الزهرى، والأوزاعى ثقة ما أقل ما روى الأوزاعي عن الزهري.

و قال يعقوب بن شيبة، عن أحمد بن العباس: قلت ليحيى بن معين: من أثبت معمر أو يونس ؟ قال : يونس أسندهما وهما ثقتان جميعًا، و كان معمر أحلى .

وقال أبو بكر بن أبى خيثمة ، عن يحيى بن معين : معمر ويونس عالمان بالزهرى .

 وقال فى موضع آخر ، عن يحيى : أثبت أصحاب الزهرى : مالك ، و معمر و يونس كانوا عالمين بالزهرى .

وقال يعقوب بن سفيان، عن محمد بن عبد الرحيم : سمعت عليًّا يقول : أثبت الناس فى الزهرى : سفيان بن عيينة، وزياد بن سعد، ثم مالك، ومعمر، ويونس من كتابه.

قال أحمد بن صالح المصرى : نحن لا نقدم في الزهري على يونس أحدًا . قال: وكان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس .

وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلى: مالك و سفيان و معمر، هؤلاء أصحاب الزهري، و يونس بن يزيد عارف برأيه.

و قال المزي: وصحب الزهري ثنتى عشرة سنة، وقيل أربع عشرة سنة.

وقال الحافظ في التقريب: “ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهمًا قليلا و في غير الزهري خطأ”.

وقال الذهبي في السير (6/298): “وَهُوَ مِنْ رُفَعَاءِ أَصْحَابِه -أي أصحاب الزهري-“.

قلت: هكذا وصف ابن معين يونس بأنه عالم بالزهري، وأنه أسند الرجلين عن الزهري، إلا أنه استنكر بعض الأئمة على يونس وهمًا قليلاً في حديثه عن الزهري، لكن هذا القليل يغتفر في جانب الأغلب الأعم، ولا يجعل روايته ساقطة بالكليَّة إذا حدَّث عن الزهري، كما يرمي إليه البحيري.

فمن ذا الذي يسلم من الوهم والخطأ، مهما علا كعبه في العلم والحفظ ؟!!

ولو سلَّمنا أن البخاري تفرد بإخراج هذا الحديث -ولو تعليقًا بصيغة الجزم-، فهو الجبل الثقة الذي إليه المنتهى في التثبت، فإذا لم  يقبل تفرد البخاري بإخراج حديث ما، فمن يقبل؟!

لكن البحيري يسير على خطا أهل البدع من المعتزلة ونحوهم في ردِّ خبر الواحد الثقة إذا خالف أهواءهم.

* وأما حيل البحيري في محاولة التشكيك في الحديث لأنه معلَّق، فهي ساقطة، فقد قال: “فيقول «ابن حجر» فإنه ولابد علقه بالجزم لسببين: 1: أنه مكرر فى موضع آخر من الكتاب بذات السند المنقطع هنا فيكون مجرد اختصار للسند فقط لا أكثر، فهل هذا الشرط منطبق على الحديث الذي بين أيدينا؟ بالطبع لا، فالبخاري لم يكرر الحديث فى أى باب من أبواب كتابه مرة أخرى لا بهذا السند موصولاً، ولا بسند غيره أبدًا، إذن سقط الشرط الأول لقبول معلقات البخاري…”.

قلت: لقد حاول البحيري تلفيق كلام الحافظ ابن حجر كي يتوافق مع مراده الفاسد من الطعن في صحة هذا الحديث، فأقول كشفًا لحيلته الساقطة:

الحافظ ابن حجر -رحمه الله- قد صرَّح -فيما نقله هذا الغرُّ- كما في تغليق التعليق (2/8)أن البخاري إذا علَّق حديثًا: ” فَإِن جزم بِهِ فَذَلِك حكم مِنْهُ بِالصِّحَّةِ إِلَى من علَّقه عَنهُ وَيكون النّظر إِذْ ذَاك [فِيمَن] أبرز من رِجَاله فَإِن كَانُوا ثِقَات فالسبب فِي تَعْلِيقه: إما لتكراره أَو لِأَنَّهُ أسْند مَعْنَاهُ فِي الْبَاب وَلَو من طَرِيق أُخْرَى فنبه عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ اختصارًا أَو ليبين سَماع أحد رُوَاته من شَيْخه إِذا كَانَ مَوْصُوفا بالتدليس أَو كَانَ مَوْقُوفا لِأَن الْمَوْقُوف لَيْسَ من مَوْضُوع الْكتاب أَو كَانَ فِي رُوَاته من لم يبلغ دَرَجَة الضَّبْط والإتقان -وَإِن كَانَ ثِقَة فِي نَفسه- فَلا يرتقي إِلَى شَرط أبي عبد الله الْمُؤلف فِي الصَّحِيح فيعلق حَدِيثه تَنْبِيها عَلَيْهِ تَارَة أصلا وَتارَة فِي المتابعات.

فَهَذِهِ عدَّة أوجه من الْأَسْبَاب الحاملة لَهُ على تَعْلِيق الْإِسْنَاد المجزوم بِهِ”.

قلت: هكذا ختم الحافظ كلامه بأن هذه الأوجه هي أسباب حاملة للبخاري على تعليق الحديث بصيغة الجزم، لكن البحيري حرَّف كلام الحافظ بأن جعل هذه الأوجه شروطًا لقبول الحديث المعلَّق عند البخاري؛ حيث قال -فيما نقلناه آنفًا-: “إذن سقط الشرط الأول لقبول معلَّقات البخاري”.

والحافظ لم يجعل هذه الأوجه شروطًا لقبول المعلَّق المجزوم به، إنما جعلها أسبابًا فحسب.

ثم ذكر البحيري أن السبب الثاني -الذي يعتبره شرطًا لا سببًا- لم ينطبق أيضًا على حديث الباب؛ حيث قال: ” لأن البخاري لميسند المعنى المقصود من الحديث فى أى حديث آخر فى طول كتابه وعرضه”.

لكنه أغفل الأسباب  الأخرى متجاهلاً إياها، والسبب الأخير منها، قد يكون هو المتوافق مع حديث الباب؛ وذلك لما أشرنا إليه من الكلام في رواية يونس عن الزهري.

فإن قيل: هل هذا السبب يعد طعنًا في الحديث؟

والجواب: بالطبع لا، كما أجاب بهذا الحافظ نفسه في تغليق التعليق (2/11): “فَإِن اعْترض على مَا قدمنَا من حكم صيغتي الْجَزْم والتمريض بِأَن البُخَارِيّ قد أورد مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَنَد وَاحِد وَفِيه من تكلم فِيهِ وَجزم بِهِ (مَعَ ذَلِك)!

فَالْجَوَاب: أَن البُخَارِيّ فِي الْمنزلَة الَّتِي رَفعه الله إِلَيْهَا فِي هَذَا الْفَنّ وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل بل مَعْدُود من أعدلهم قولاً فِيهِ وَأَكْثَرهم تثبيتًا فَإِذا اخْتَار تَوْثِيق رجل اخْتلف كَلام غَيره فِي جرحه وتعديله لم يكن كَلَام غَيره حجَّة عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إِمَام مُجْتَهد مَعَ أَنا لا نلتزم فِيمَا جزم بِهِ أَن يكون على شَرطه فِي الْجَامِع الَّذِي هُوَ أعالي شُرُوط الصِّحَّة، وَمن تَأمل هَذَا التَّخْرِيج أعياه أَن يجد فِيهِ حَدِيثًا مُعَلّقا مَجْزُومًا بِهِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَنَد وَاحِد ضَعِيف بل لا يجد فِيهِ حَدِيثًا من المرفوعات كَذَلِك لم يُصَحِّحهُ أحد من الْأَئِمَّة فَبَطل هَذَا الِاعْتِرَاض”.

* وقال البحيري: ” لأن البخاري لم يسند المعنى المقصود من الحديث في أي حديث آخر في طول كتابه وعرضه، ولكنه فعل شيئا عجيبا وغريبا، فقد كان يكتب تحت اسم الباب الذي أخرج فيه الأحاديث التي ذكرناها سابقًا عن واقعة تقديم الشاة المسمومة للنبي فى خيبر، جملة مقحمة ودخيلة فيقول «رواه عروة عن عائشة»، وكأن البخاري يريد أن يقول إن أحاديث تقديم الشاة المسمومة هي نفس المعنى المراد من الحديث الذي بين أيدينا حول تصريح الرسول بانقطاع أبهره – شريان القلب – من أثر ذلك السم”.

قلت: هذه الجملة ليست مقحمة ولا دخيلة إلا عند الجهال الذين يتطفلون على موائد الكبار، وهم ليسوا أهلاً لهذا !!

فقول الإمام البخاري -رحمه الله-: «رواه عروة عن عائشة»، إنما يشير به إلى معنى التبويب، وهو قوله: “بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، فهذا المعنى وارد في الحديث المعلَّق، ولم يقصد البخاري أن ما رواه عروة عن عائشة هو بمعنى حديث أبي هريرة الذي أسنده في الباب.

وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان إلا عند مَن عُدِم الفهم بالكليَّة، وهؤلاء لا حيلة لنا معهم !!!

* وقال البحيري: “أخرج البخاري فى باب «إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم» 343/6-3169، وأخرجه مختصرا فى «باب» الشاة التى سُمَّت للنبى بخيبر»، وأخرج ذات الحديث بطوله فى باب «بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »   284/10-5777» وفيه يقول: حدثنا قتيبة: حدثنا الليث، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة  أنه قال: “لما فُتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله (اجمعوا لى من كان ها هنا من اليهود).. ثم قال لهم: (فهل أنتم صادقىَّ عن شىء إن سألتكم عنه)، قالوا: نعم، فقال: (هل جعلتم فى هذه الشاة سماً)، فقالوا: نعم، فقال: (ما حملكم على ذلك). فقالوا: أردنا: إن كنت كذاباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك». وأخرج البخاري حديثا شاهدا لذلك الحديث بسند عن أنس بن مالك فى باب «قبول الهدية من المشركين» 272/5-2617، وأخرج «مسلم» 2190، في كتابه ذات الحديث بسنده إلى أنس بن مالك، ولكن بزيادة هامة عن المرأة اليهودية واضعة السم، فيروى فيها الصحابى أنس بن مالك: فجىء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك، قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك» قال: أو قال: «على». إذن ماذا نستنتج مما سبق رواية واقعة تقديم الشاة المسمومة رواية صحيحة متواترة، ولكن يجب التوقف عند بعض نتائجها المتحققة: الرسول قد أُخبر بالغيب وفى بعض الروايات أُخبر من الشاة نفسها أنها مسمومة، وجاء في بعض الروايات أنه لم يقربها قط وجاء في أخرى أنه لاك – مضغ – قطعة منها ثم لفظها، وذلك ما يتفق مع مقام العصمة التي أقرها سبحانه وتعالى في القرآن”.

قلت: لكن البحيري قد ارتكب خيانة بكتم زيادة هامة في رواية البخاري (2617) لحديث أنس، قال رضي الله عنه: “فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.

وهذا يعد شاهدًا قويًّا لحديث عائشة الذي علَّقه البخاري بصيغة الجزم، ووصله الحاكم.

قال ابن بطال في شرحه على البخاري (5/347): “قال المهلب: ويعفى عن المشركين إذا غدروا بشيء يستدرك إصلاحه وجبره ويعصم الله تعالى منه إذا رأى الإمام ذلك، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم بما يؤدى إليه اجتهاده، وأما إذا غدروا بالقتل أو بما لا يستدرك جبره وما لا يعتصم من شره؛ فلا سبيل إلى العفو، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العرنيين عاقبهم بالقتل، وإن كان (صلى الله عليه وسلم) ، قال لعائشة: (ما زالت أكلة خيبر تعادنى فهذا أوان قطع أبهري) لكنه عفا عنهم حين لم يعلم أنه يقضى عليه؛ لأن الله تعالى دفع عنه ضر السم بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآية معجزة أظهرها له من كلام الذراع، ثم عصمه الله من ضره مدة حياته، حتى إذا دنا أجله بغى عليه السم، فوجد ألمه وأراد الله له الشهادة بتلك الأكلة؛ فلذلك لم يعاقبهم، وأيضًا فإن اليهود قالوا: أردنا أن نختبر بذلك نبوتك وصدقك، فإن كنت نبيا لم يضرك. فقد يمكن أن يعذرهم بتأويلهم، وأيضًا فإنه كان لا ينتقم لنفسه تواضعًا لله، وكان لا يقتل أحدًا من المنافقين المناصبين له بالعداوة والغوائل، لأنه كان على خلق عظيم من الصفح، والإغضاء والصبر، وأصل هذا كله أن الإمام فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه وفيه من علامات النبوة”.اهـ

قلت: تأمل قول ابن بطال: “حتى إذا دنا أجله بغى عليه السم، فوجد ألمه وأراد الله له الشهادة بتلك الأكلة”، يظهر لك وهاء ما لبَّس به البحيري -هداه الله-؛ حيث إن بطال -رحمه الله- جعل موت النبي صلى الله عليه وسلم من أثر هذا السم كرامة له بأن نال به الشهادة، ولم يعتبر هذا طعنًا في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم.

* وأما قول البحيري: “وهذه هى النتيجة الأبرز فى الحدث أن ضرر السم لا يمكن أن ينتقل لرسول الله من الأصل فضلا عن أن يميته ذلك السم، وإلا كان على حسب قولهم وعلى حسب إقرار النبى لقولهم ليس نبيا بل كذابًا؛ لأن السم قد أضره ولم يُخَبَّر من ربه”.

ثم قال: ” وهنا نستوضح العصمة بشكل جلى، فلم يكتف النبى بالسكوت عن كلامها إقرارا لها، ولكنه رد عليها ردا لائقا بكمال اليقين فى عصمة ربه له فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك»، والمعنى لا يحتاج إلى شرح ولا يقبل التأويل، فالرسول قال إن الله لا يسلطك على ذلك أبدا بالسم أو بغيره إذن هذا هو مفهوم الرسول ذاته عن العصمة الربانية له. ونعود للحديث الأول والذي أخرجه البخاري وابتنى فيه على الروايات السابقة كأصل للقصة أن الرسول مات بعد ثلاث سنوات متأثرا من ذات السم، لنستعرض كمالعلل والمعايب التى شابت إخراج البخاري لمثل هذا الحديث سندا ومتنا”.

قلت: البحيري يفهم معنى العصمة فهمًا خاطئًا، ويتظاهر -متلاعبًا- بالحرص على الذبِّ عن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وما به من حرص، إنما هو المكر السيئ والدهاء لإسقاط ثقة المسلمين بصحيح البخاري، تحت دعوى تناقض البخاري، وعدم حرصه على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذب -والله الذي لا إله إلا هو-، بل إنَّا نعتقد اعتقادًا جازمًا -لا مرية فيه- أن أمير المؤمنين في الحديث: البخاري -رحمه الله- أحرص على الذبِّ عن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، -وعلى عدم نسبة شيء إليه صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه- أكثر من آلاف بل ملايين من أمثال البحيري المتلاعبين، وصدق ربُّ العزة في قوله: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ* وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}.

فإن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم لا تعني عصمته من الموت إلى أجل غير مسمًّى، بل إنه محفوظ من الموت أو القتل حتى يبلغ رسالة ربِّه، وحتى يأتيه أجله المحتوم صلى الله عليه وسلم، كما قال ربُّ العزة: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}، وقال سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ، – قَالَ: إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي بِالعَالِيَةِ – فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ ” فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ”.

وأما قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

فكما قال ابن عطية في المحرِّر الوجيز (2/218): “وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية”.

وقال ابن الجوزي في زاد المسير (1/569): “فإن قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه، وكسِرت رَباعيته، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه عصمه من القتل والأسرِ وتلفِ الجملة، فأمّا عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة الجملة”.

قلت: ومن هذا أن يوضع له السم في الطعام، لكن لا يضره حتى يأتيه صلى الله عليه وسلم أجله المحتوم.

وقال ابن كثير في تفسيره (3/154): “وَمِنْ عِصْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ حفْظُه لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَصَنَادِيدِهَا وَحُسَّادِهَا ومُعَانديها وَمُتْرَفِيهَا، مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ والبَغْضة وَنَصْبِ الْمُحَارَبَةِ لَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، بِمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ بقَدَره وَحِكْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ. فَصَانَهُ فِي ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، إِذْ كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا كَبِيرًا فِي قُرَيْشٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً طَبِيعِيَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَرْعِيَّةً، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ لَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ كُفَّارُهَا وَكِبَارُهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْكُفْرِ هَابُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ نَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ أَذًى يَسِيرًا، ثُمَّ قَيَّضَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] لَهُ الْأَنْصَارَ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى دَارِهِمْ -وَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَلَّمَا صَارَ إِلَيْهَا حَمَوه مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَكُلَّمَا هَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِسُوءٍ كَادَهُ اللَّهُ وَرَدَّ كَيْدَهُ عَلَيْهِ، لَمَّا كَادَهُ الْيَهُودُ بِالسِّحْرِ حَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ سُورَتِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ دَوَاءً لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَلَمَّا سَمَّ الْيَهُودُ فِي ذِرَاعِ تِلْكَ الشَّاةِ بِخَيْبَرَ، أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ وَحَمَاهُ [اللَّهُ]مِنْهُ؛ وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا”.

قلت: فهذا السُّم لم تكن إصابته مباشرة في حينها؛ لآية العصمة حتى يتم تبليغ الرسالة، لكن الأمر كما قال إبراهيم بن عمر البقاعي -رحمه الله- في نظم الدُّرر (6/232): “ولقد وفَّى سبحانه بما ضمن ومن أوفى منه وعداً وأصدق قيلاً! فلما أتم الدين وأرغم أنوف المشركين، أنفذ فيه السم الذي تناوله بخيبر قبل سنين فتوفاه شهيداً كما أحياه سعيدًا”.

قلت: هكذا اعتبر العلماء الفاهمون -أصحاب العقول الراجحة- أن نفوذ أثر السُّم في النبي صلى الله عليه وسلم، كان سببًا في وفاته شهيدًا؛ مِمَّا يعد  كرامةً له، ولا يتعارض هذا مع العصمة الربانية له؛ لأن هذه العصمة لا تعني: أنه لا يمت أبدًا، أو لا يقع عليه القتل أبدًا، بل معناه أنه لا يموت أو يُقتَل حتى يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة.

وهذا من المسلَّمات التي جهلها البحيري لغلبة الهوى عليه، التي أدت إلى محاولة البحث عن أي ثغرة ينفذ منها للتشكيك في مصداقية الإمام البخاري -رحمه الله-، والله له بالمرصاد.

والله عز وجل قد يقدِّر القتل على بعض الأنبياء والرسل؛ كي ينالوا مرتبة الشهادة مع مرتبة النبوة أو الرسالة، كما قال الله عز وجل في حق أنبياء بني إسرائيل: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}.

وقال الإمام أحمد في مسنده (6/4136/الرسالة): حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ”.

وهذا إسناد حسن، وأخرجه البزار في البحر الزخار (5/138)، والطحاوي في شرح المشكل (1/10) من طريق أبان به.

وقال القاضي عياض في “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” (2/178/حاشية الشُّمُني) تحت باب: فيما يخصهم -أي الرسل والأنبياء- فِي الأمور الدنيوية وَمَا يطرأ عَلَيْهِم مِن العوارض البشرية:

“قَد قَدَّمْنَا أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَسَائِر الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل مِن البشر وَأَنّ جسمه وظاهره خالص للبشر يجوز عليه من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام وتجرع كأس الحمام مَا يجوز عَلَى البشر؛ وَهَذَا كله لَيْس بنقيصة فِيه؛ لأنّ الشيء إنَّمَا يسمى ناقصًا بالإضافة إِلَى مَا هُو أتم مِنْه وأكمل من نوعه، وَقَد كَتَب اللَّه تَعَالَى عَلَى أَهْل هَذِه الدار فِيهَا يحيون وفيها يموتون وَمِنْهَا يخرجون وخلق جميع البشر بمدرجة الغير فَقَد مرض صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم واشتكى وأصابه الحر والقر وأدركه الجوع والعطش ولحقه الغضب والضجر وناله الإعياء والتعب ومسَّه الضعف والكبر، وسقط فجُحش شِقُّه، وشجَّه الكفار وكسروا رباعيته، وسقي السم، وسُحِر، وتداوى واحتجم وتنشر وتعوذ، ثُمّ قضى نحبه فتوفي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ولحق بالرفيق الأعلى وتخلص من دَار الامْتِحَان وَالبَلْوَى؛ وَهَذِه سِمَات البَشَر التي لَا مَحِيص عَنْهَا وَأَصَاب غَيْرِه مِن الْأَنْبِيَاء مَا هُو أَعْظَم مِنْه فَقُتّلُوا قَتْلاً وَرُمُوا في النار ونشروا بالْمَنَاشِير وَمِنْهُم من وَقَاه اللَّه ذَلِك فِي بَعْض الأوْقَات وَمِنْهُم من عَصَمَه كَمَا عُصِم بَعْد نَبِيُّنَا مِن النَّاس فَلَئِن لَم يَكْف نَبَيَّنَا رَبَّه يَد ابن قَمِئَة يَوْم أُحُد وَلَا حَجَبَه عَن عُيُون عِدَاه عِنْد دَعْوَتِه أَهْل الطَّائِف فَلَقَد أَخَذ عَلَى عُيون قُرَيْش عِنْد خُرُوجِه إِلَى ثَوْر وَأمْسَك عَنْه سَيْف غَوْرَث وَحَجَر أَبِي جَهْل وَفَرَس سُرَاقَة وَلَئِن لَم يَقِه من سِحْر ابن الأعْصَم فلقد وَقَاه مَا هُو أعْظَم من سَمّ اليَهُودِيَّة وهكذا سَائِر أنْبِيَائِه مُبْتَلى وَمُعَافى وَذَلِك من تَمَام حِكْمَتِه لِيُظْهِر شَرَفَهُم فِي هَذِه المَقَامَات وَيُبَيَّن أمْرَهُم وَيُتِمّ كَلِمَتَه فِيهِم وَلِيُحَقَّق بامْتِحَانِهِم بَشَرِيَّتَهُم وَيَرْتَفِع الالْتِبَاس عَن أَهْل الضعف فِيهِم لئلًا يَضلُّوا بِمَا يَظْهَر مِن العَجَائِب عَلَى أيديهم ضَلَال النصاري بِعِيسَى ابن مَرْيَم وليكون فِي محنهم تسلية لأممهم ووفور لأجورِهِم عِنْد ربهم تَمَامًا عَلَى الَّذِي أحسن إِلَيْهِم، قَال بَعْض المُحَقَّقِين وهذه الطوارى وَالتَّغْييرَات المَذْكُورَة إنَّمَا تَخْتَصّ بِأجْسَامِهِم الْبَشَريَّة المقصود بِهَا مُقَاومَة البشر ومعناة بَنِي آدَم لمُشَاكَلة الجِنْس وَأَمَّا بوَاطِنُهُم فمنزهه غالبًا عَن ذَلِك معصومة منه متعلقة بالملإ الأعْلَى وَالْمَلَائِكَة لأخْذِهَا عَنْهُم وَتَلَقّيهَا الوَحْي مِنْهُم قال وقد قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) وَقَال (إِنِّي لَسْتُ كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)…”.اهـ

وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص262): “وَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَبِيدُ بن الأعصم -هَذَا الْيَهُودِيّ- سحر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَتَلَتِ الْيَهُودُ قَبْلَهُ، زَكَرِيَّا بْنَ آذَنَ فِي جَوْفِ شَجَرَةٍ، قَطَّعَتْهُ قِطَعًا بِالْمَنَاشِيرِ….

وَقَتَلَتْ بَعْدَهُ ابْنَهُ يَحْيَى بِقَوْلِ بَغِيٍّ، وَاحْتِيَالِهَا فِي ذَلِكَ، وَادَّعَتْ “يَعْنِي الْيَهُودَ” أَنَّهَا قَتَلَتِ الْمَسِيحَ وَصَلَبَتْهُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} لَمْ نَعْلَمْ نَحْنُ، أَنَّ ذَلِكَ شَبَهُهُ لِأَنَّ الْيَهُودَ أَعْدَاؤُهُ، وَهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاؤُهُ وَهُمْ يُقِرُّونَ لَهُمْ بِهِ.

وَقَتَلَتِ الْأَنْبِيَاءَ، وَطَبَخَتْهُمْ، وَعَذَّبَتْهُمْ أَنْوَاعَ الْعَذَابِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ، لَعَصَمَهُمْ مِنْهُمْ.

وَقَدْ سُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِرَاعِ شَاةٍ مَشْوِيَّةٍ، سَمَّتْهُ يَهُودِيَّةٌ، فَلَمْ يَزَلِ السُّمُّ يعاده حَتَّى مَاتَ.

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَر تعادني، فَهَذَا أَوَان انْقِطَاع أَبْهَري”.

فَجعل اللَّهُ تَعَالَى لِلْيَهُودِيَّةِ عَلَيْهِ السَّبِيلَ، حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ السَّبِيلَ عَلَى النَّبِيِّينَ.

وَالسِّحْرُ أَيْسَرُ خَطْبًا مِنَ الْقَتْلِ وَالطَّبْخِ وَالتَّعْذِيبِ”.اهـ

* وأما قول البحيري: “كما  نود الإشارة إلى نقطة هامة جدا أنه بالرجوع للنصوص المختلفة فى حديث الشاة سنجد أن الروايات فى تلك الواقعة تباينت حول حال المرأة  التى وضعت ذلك السم للنبى أَقُتِلت أم عُفِى عنها، وسنجد أن الروايات الأقوى تقول إن الرسول عفى عنها، فإذا ما قلنا إن الرسول وهو الذي لا ينطق عن الهوى أقر أن السم الذي وضعته المرأة هو السبب فى قتله – على زعم البخاري- أفلم يكن هذا يستدعى من الصحابة إقامة القصاص على هذه المرأة اليهودية، ولكن الغريب أن ذلك لم يحدث ولم يكن له ذكر، وذلك لسببين فإما لهوان أمر قتل النبى المصطفى على أصحابه، وهذا من غير المعقول، وإما لأن هذه الرواية الضعيفة المنكرة هي كذب على رسول الله، وهذا هو الحق لأن الرسول لم يقتل بالسم لكى يقتص من قاتله”.

قلت: المشكلة الكبرى عند البحيري وأمثاله من المتعالمين -العَلمانيين-؛ أنهم يريدون إلغاء فهم علماء الأمة قاطبة من لدن الصحابة إلى وقتنا هذا، تحت زعم حرية البحث، وإنما هو التحرر من فهم العلماء الأمناء الثقات، وجعل النصوص الشرعية فريسة لكل جهول متعالم، يفهمها كما شاء بما شاء.

فلو رجع البحيري إلى شراح حديث المرأة اليهودية التي وضعت السُّم في الشاة، لما احتاج إلى هذه التخمينات المبنية على أوهام في رأسه ووساوس لا حدَّ لها !!

قال النووي في شرحه على مسلم (14/179): “وَاخْتَلَفَ الْآثَارُ وَالْعُلَمَاءُ هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لافوقع فى صحيح مسلم أنهم قالوا ألانقتلها قال لاومثله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَعَنْ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قتلها وفى رواية بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ بِهَا فَقَتَلُوهَا.

وَقَالَ ابن سَحْنُونٍ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَهَا.

قَالَ الْقَاضِي: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقَاوِيلِ أَنَّهُ لم يقتلها أولاحين اطَّلَعَ عَلَى سُمِّهَا وَقِيلَ لَهُ اقْتُلْهَا فَقَالَ لَا فَلَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا فيصح قَوْلُهُمْ لَمْ يَقْتُلْهَا أَيْ فِي الْحَالِ وَيَصِحُّ قَوْلُهُمْ قَتَلَهَا أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ”.

وقال علي القاري في مرقاة المفاتيح (7/2890): “الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَرْبَابِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً وَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَرَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِإِحْرَاقِ تِلْكَ الشَّاةِ أَوْ دَفْنِهَا تَحْتَ التُّرَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَمَرَ بِقَتْلِ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ عَفَا عَنْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَفَا عَنْهَا لِأَجْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَ بِقَتْلِهَا لِأَجْلِ قِصَاصِ ابْنِ الْبَرَاءِ”.

* وأما قول البحيري: ” آن لنا أن نحكم العلم، فقد بحثنا يمينا ويسارا وسألنا الأطباء الحذاق، وتأكدنا من أنه لا وجود لسم فى تاريخ الإنسانية يبدأ عمله فى جسم الإنسان بعد ثلاث سنوات أو حتى يظل أثره المميت لمدة ثلاث سنوات، حيث قدمت الشاة للرسول فى خيبر فى العام السابع الهجرى، فأى سم هذا وأين هو؟ فلن نجد هذا السم إلا فى الأساطير والخرافات، فما قول أهل التراث فى ذلك؟”.

قلت: قول أهل التراث والتحقيق العلمي -والبحيري ليس منهم- أنه مع احترامنا لعلم الطب وللأطباء، إلا أنه لا يجوز أن تجعل النظريات الطبية حكمًا على النصوص الشرعية، وذلك أن هذه النظريات عرضة للتغير بين الحين والآخر تبعًا للتجربة، وهذا أمر يدركه الأطباء المهرة أيَّما إدراك.

وإنما ينكر هذه البديهة: أهل الاعتزال والتعالم الذين لا يعظِّمون النصوص الشرعية، إنما يعظِّمون أهواءهم النابعة من عقولهم الفاسدة.

وبالنسبة لمسألة موت النبي صلى الله عليه وسلم متأثرًا بهذه الشاة المسمومة، لا يعني أن الطعام المسموم نفسه ظل طوال هذه السنوات باقيًا مؤثِّرًا، إنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في حديث عائشة: “مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ”.

 قال الحافظ في الفتح (8/131): “وَقَوْلُهُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ أَيْ أَحُسُّ الْأَلَمَ فِي جَوْفِي بِسَبَبِ الطَّعَامِ”.

وقال أيضًا في الفتح (10/245): “وَقَوْلُهُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ أَي الْأَلَم الناشىء عَنْ ذَلِكَ الْأَكْلِ لَا أَنَّ الطَّعَامَ نَفْسَهُ بَقِيَ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ”.

قلت: ويؤكد هذا المعنى قول أنس: «فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

قال النووي في شرحه على مسلم (14/179): “وَأَمَّا اللَّهَوَاتُ فَبِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ جَمْعُ لهات بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الْحَمْرَاءُ الْمُعَلَّقَةُ فِي أَصْلِ الْحَنَكِ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَقِيلَ اللَّحْمَاتُ اللَّوَاتِي فى سقف أقصى الفم وقوله مازلت أَعْرِفُهَا أَيِ الْعَلَامَةَ كَأَنَّهُ بَقِيَ لِلسُّمِّ عَلَامَةٌ وأثر من سواد أو غيره”.

وقال الحافظ في الفتح (10/247): “وَمُرَادُ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَرِيهِ الْمَرَضُ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ أَحْيَانًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ”.

قلت: وقد جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قد احتجم على إثر هذه المضغة التي مضغها من الشاة المسمومة، وقد عقد ابن القيم في زاد المعاد (1/91) فصلاً  فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَاجِ السُّمِّ الَّذِي أَصَابَهُ بِخَيْبَرَ مِنَ الْيَهُودِ، فقال: “ذَكَرَ عبد الرزاق، عَنْ معمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَرَ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ» ؟

قَالَتْ: هَدِيَّةٌ، وَحَذِرَتْ أَنْ تَقُولَ: مِنَ الصَّدَقَةِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكَلَ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمْسِكُوا» ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: «هَلْ سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ» ؟ قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: «هَذَا الْعَظْمُ لِسَاقِهَا» ، وَهُوَ فِي يَدِهِ؟

قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «لِمَ» ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ يَسْتَرِيحَ مِنْكَ النَّاسُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا، لَمْ يَضُرَّكَ، قَالَ: فَاحْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً عَلَى الْكَاهِلِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْتَجِمُوا، فَاحْتَجَمُوا، فَمَاتَ بَعْضُهُمْ.

وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى: وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، حَجَمَهُ أبو هند بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ، وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتَّى كَانَ وَجَعُهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ: «مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأُكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنِّي» فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا، قَالَهُ مُوسَى بْنُ عقبة».

مُعَالَجَةُ السُّمِّ تَكُونُ بِالِاسْتِفْرَاغَاتِ، وَبِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تُعَارِضُ فِعْلَ السُّمِّ وَتُبْطِلُهُ، إِمَّا بِكَيْفِيَّاتِهَا، وَإِمَّا بِخَوَاصِّهَا، فَمَنْ عَدِمَ الدَّوَاءَ، فَلْيُبَادِرْ إِلَى الِاسْتِفْرَاغِ الْكُلِّيِّ وَأَنْفَعُهُ الْحِجَامَةُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارًّا، وَالزَّمَانُ حَارًّا، فَإِنَّ الْقُوَّةَ السُّمِّيَّةَ تَسْرِي إِلَى الدَّمِ، فَتَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ وَالْمَجَارِي حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ، فَيَكُونُ الْهَلَاكُ، فَالدَّمُ هُوَ الْمَنْفَذُ الْمُوَصِّلُ لِلسُّمِّ إِلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ، فَإِذَا بَادَرَ الْمَسْمُومُ، وَأَخْرَجَ الدَّمَ، خَرَجَتْ مَعَهُ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ السُّمِّيَّةُ الَّتِي خَالَطَتْهُ، فَإِنْ كَانَ اسْتِفْرَاغًا تَامًّا لَمْ يَضُرَّهُ السُّمُّ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ، وَإِمَّا أَنْ يَضْعُفَ فَتَقْوَى عَلَيْهِ الطَّبِيعَةُ، فَتُبْطِلُ فِعْلَهُ أَوْ تُضْعِفُهُ.

وَلَمَّا احْتَجَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احْتَجَمَ فِي الْكَاهِلِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الْحِجَامَةُ إِلَى الْقَلْبِ، فَخَرَجَتِ الْمَادَّةُ السُّمِّيَّةُ مَعَ الدَّمِ لَا خُرُوجًا كُلِّيًّا، بَلْ بَقِيَ أَثَرُهَا مَعَ ضَعْفِهِ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ كُلِّهَا لَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَهُ بِالشَّهَادَةِ، ظَهَرَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْأَثَرِ الْكَامِنِ مِنَ السُّمِّ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَظَهَرَ سِرُّ قَوْلِهِ تَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [الْبَقَرَةِ: 87] ، فَجَاءَ بِلَفْظِ كَذَّبْتُمْ بِالْمَاضِي الَّذِي قَدْ وَقَعَ مِنْهُ، وَتَحَقَّقَ، وَجَاءَ بِلَفْظِ: «تَقْتُلُونَ» بِالْمُسْتَقْبَلِ الذي يتوقعونه وينتظرونه، والله أعلم”.

* وأما قول البحيري: “فهل أصبح عقل البخاري أو تصحيحه وحده بلا متابع هو إجماع الأمة، ويا ليت ذلك فى واقعة عادية بل فى حدث جلل وكبير وقد حذرنا الله فى الكتاب بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» الأحزاب 69، فأى إيذاء للنبى أكبر من أن نطعن في نبوته بالكلية، والآيات تنضح بعصمته”.

قلت: نعم أجمعت الأمة على أن صحيح البخاري أصح كتاب بعد القرآن، وهذا مِمَّا أرَّق مضجعك، كما أرَّق مضاجع الروافض والباطنية والزنادقة والمستشرقين الذين يريدون إبطال دين الإسلام.

واترك دموع التماسيح التي لا ينخدع بها عاقل يحترم عقله فضلاً عن دينه.

فإن الإمام البخاري -رحمه الله- من كبار الأئمة المعظِّمين جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رغِمت أنفك.

وشروطه التي اشترطها لإخراج الحديث في صحيحه من أعلى شروط الصحة، بل إن الأمم السابقة لم تعرف قط شروطًا في صحة الخبر الشرعي عن رسلهم وأنبيائهم كالتي اشترطها البخاري في صحيحه، باعتراف المنصفين والعقلاء.

وإن صنيعك مع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعيك الحثيث إلى تشكيك الأمة في مصداقية بعضها، لهو من أعظم الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمن الطاعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، أهذا الذي بذل عمره في جمع أصح ما نقله الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع لذلك شروطًا وضوابط  -وفق ما قرَّره أئمة الحديث- عجزت الأمم السابقة عن الإتيان بمثلها؟!

أم هذا الجاهل المجهول الذي ينبش نبش الحيَّات في الجحور كي يفترس أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسُمِّه الزعاف ؟!!

يتبع إن شاء الله ….

([1]) حسن لغيره: أخرجه أحمد في مسنده (45/200)، وإسناده ضعيف، لكن له شواهد يحسَّن بها، انظر بعضها في الصحيحة (1331).

([2]) كذا دون أن يصلي على النبي: صلى الله عليه وسلم...!! وهذا دأبه: ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أغلب المواطن، مما يوحي بأنه يتركها متعمِّدًا لا غافلاً، فإن غفل مرة أو مرتين فلن يغفل الثالثة!

ويصدق عليه ما جاء في حديث عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِيه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ”.

أخرجه أحمد في مسنده (2/351/أحمد شاكر)، والترمذي (3546) ، وإسماعيل القاضي في “فضل الصلاة على النبي” (32)، وابن حبان (909)، وابنُ أبي عاصم في “الآحاد والمثاني” (432) ، والنسائي في “الكبرى” (7/291)، وابن السُّنِّي في عمل اليوم والليلة (382)، وابن المقرئ في معجمه (910) من طريق عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال العلامة المحدِّث أحمد شاكر في تحقيقه على المسند: “إسناده صحيح، عمارة بن غزية، بفتح الغين وكسر الزاي وتشديد الياء، بن الحرث بن عمرو الأنصاري: ثقة، وثقه أحمد وأبو زرعة وابن سعد وغيرهم. عبد الله بن علي بن الحسين: ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له الترمذي والحاكم. أبوه علي بن الحسين بن علي: هو زين العابدين، وهو تابعي ثقة… وقد سمع من أبيه؛ لأنه ثبت أنه كان ابن 23 سنة حين مقتل الحسين، وكان معه حين مقتله بكربلاء”.

شاهد أيضاً

الرد على الشبهات حول أحاديث التخلق

من الشبهات المثارة حول السنة النبوية الطعن في الأحاديث التي ذكرت مراحل خلق الجنين والزعم …

اترك تعليقاً