خطبة بعنوان: (الإمام البخاري)
3 أبريل، 2019
خطب في نصرة البخاري
1,324 زيارة
الخطبة الأولى (الإمام البخاري)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) (28) ) فاطر
وروى أبو داود في سننه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ».
وفي سنن الترمذي عن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ
« مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِى فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع عالم جليل ، ومحدث بارع ، وعلم من أعلام الأمة إنه ( الإمام البخاري )
فكثيرا ما نسمع ( رواه البخاري ، أو أخرجه البخاري ، أو هذا الحديث في صحيح البخاري ) فمن هو البخاري ؟ وماذا عن نسبه ونشأته ؟ فنقول : هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه، أبو عبد الله البخاري الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه.
وُلِد البخاري (رحمه الله) في شوال سنةَ أربع وتسعين ومائة، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر أمه، فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا. مات أبوه وهو صغير، فنشأ في حِجْر أمِّه، وكان أبوه قد ترك مالاً أعان أمَّه على تنشِئته وتربيته التربية الكريمة،
قال أبوه “إسماعيل” عند وفاته: “لا أعلم في مالي درهمًا من حرامٍ ولا شبهةٍ” .
وقيل أنه ذهبت عيناه في صِغَره، فرأت أمُّه خليلَ الرحمن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – في المنام، فقال لها: “يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك”، فأصبح وقد ردَّ الله له بصره
وظهر نبوغه العلميُّ في سنٍّ مبكرة وهو ابن عشر سنين، فبدأ بطلب العلم ببلدِه “بُخَارَى” قبل أنْ يرتحلَ منها، وفي ست عشرة سنة حفظ كُتب ابن المبارك ووكيع . وقد سُئل البخاري: كيف كان بَدْءُ أمرِكَ؟
قال: “أُلْهِمْتُ حِفظَ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقيل: كم كان سِنُّك؟
فقال: عشر سنين أو أقل، فلمَّا طعنتُ في ست عشرةَ سنة، كنتُ قد حفظتُ كُتب ابن المبارك ووكيع، وعرفتُ كلام هؤلاء ، ثمَّ خرجتُ مع أمِّي وأخي إلى “مكةَ”، فلمَّا حَججتُ رجع أخي بها، وتخلَّفتُ في طلب الحديث” .
فكان هذا أول ارتحاله في طلب العلم، وكان ذلك حوالي سنة عشر ومائتين، ثمَّ رحل إلى المدينة، والشام، ومصر، ونَيسابور، والجزيرة، والبصرة، والكوفة، وبغداد، وواسط، ومرو، والرّيّ، وبَلْخ، وغيرها، قال الخَطيب: “رحل في طلب العلم إلى سائر محدِّثي الأمصار” .
أما عن تلامذة الإمام البخاري فقد روى عنه خلائق وأمم، وقد روى الخطيب البغدادي عن الفِرَبْرِيِّ أنه قال: “سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفًا، لم يبقَ منهم أحد غيري”.
وممن روى عن البخاريِّ مسلمٌ في غير الصحيح، وكان مسلم تتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم، وقد دخل بغداد ثماني مرات، وفي كلٍّ منها يجتمع بالإمام أحمد، فيحثه أحمد على المقام ببغداد، ويلومه على الإقامة بخراسان.
أيها المسلمون
ومن أهم ملامح شخصية الإمام البخاري أنه تميَّز بصفات عذبة وشمائل كريمة، لا تتوافر إلا في العلماء المخلصين، وهذه الصفات هي التي صنعت الإمام البخاري. ومن هذه الصفات وتلك الملامح :
1- الإقبال على العلم. قام البخاري بأداء فريضة الحج وعمره ثماني عشرة سنة، فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ.
2- الجِدُّ في تحصيل العلم. وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يُطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبًا من عشرين مرة.
3- قوة الحفظ. وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة، فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة.
4- أمير المؤمنين في الحديث. دخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركَّبوا أسانيد، وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد، وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرءوها على البخاري، فردَّ كل حديث إلى إسناده، وقوَّم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يجدوا عليه سقطة في إسناد ولا متن، وكذلك صنع في بغداد.
وكان رجلا معروفا بالكرم والجود والسخاء ومن كرم البخاري وسماحته : أنه كان لا يفارقه كيسه، وكان يتصدق بالكثير، فيأخذ بيده صاحبَ الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد.
وكان عالما ورعا تقيا ومن ورع الإمام البخاري :
قال محمد بن إسماعيل البخاري: “ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين”.
وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول: “كان محمد بن إسماعيل مخصوصًا بثلاث خصال، مع ما كان فيه من الخصال المحمودة:
كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم”.
أيها المسلمون
ومن كلمات البخاري الباقية ووصاياه الخالدة قوله :
– “لا أعلم شيئًا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة”.
– “ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه”.
ومن مؤلفات البخاري وتصنيفاته : فقد صنَّف البخاري ما يزيد على عشرين مصنفًا، منها:- الجامع الصحيح – الأدب المفرد. – التاريخ الكبير. – التاريخ الصغير. – خلق أفعال العباد – رفع اليدين في الصلاة – الكُنى. وله كتب مخطوطة لم تُطبع بعدُ، مثل: التاريخ الأوسط، والتفسير الكبير.
أما كتابه صحيح البخاري فهو أشهر كتب البخاري، بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبةً. بذل فيه صاحبه جهدًا خارقًا، وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عامًا، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: “كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع (الجامع الصحيح)”.
وعدد أحاديث الكتاب 7275 حديثًا، اختارها من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، واشترط شروطًا خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معًا، هذا إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.
وكان البخاري لا يضع حديثًا في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين. وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن.
وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى.
وقد أقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب.
أيها المسلمون
وكان الامام البخاري- رحمه الله – عابدا زاهدا ورعا ، وكان إذا دخلت أول ليلةٍ من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلِّي بهم، ويقرأ في كلِّ ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أنْ يختمَ القرآن.
وكان يقرأ في السَّحَر ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن، فيختم عند السَّحَر في كلِّ ثلاث ليالٍ، وكان يختم بالنهار في كلِّ يومٍ ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كلَّ ليلة، وكان يصلِّي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، ويوتِر منها بواحدة.
وكان معه شيء من شَعْرِ النبي – صلى الله عليه وسلم – جَعَلَه في ملبوسه ، وصلَّى ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرَّة، فلمَّا قضى الصلاة، قال: “انظروا أيش آذاني” ،
وأما عن ورعه واحتياطه في جَرْحِ الرواة:
قال – رحمه الله -: “أرجو أنْ ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحدًا” .
قال الذهبي – رحمه الله – معلِّقًا على كلام البخاري هذا:
“قلتُ: صدَقَ – رحمه الله – ومَنْ نَظَرَ في كلامه في الجَرح والتعديل، عَلِمَ ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعِّفه، فإنه أكثر ما يقول: “منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر”، ونحو هذا،
وأما عن حفظه وذكاؤه:
قال البخاري – رحمه الله -: “أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح” .
وقال: “كتبتُ عن ألف شيخ وأكثر، عن كلِّ واحدٍ منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده” .
وقال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبدالله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنَّا نقول له: إنَّك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: “إنَّكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما، فاعرضا عليَّ ما كتبتما”، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلَّها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحْكِمُ كُتُبَنَا من حفظه، ثمَّ قال: أترون أني أختلف هَدَرًا ، وأضيِّع أيَّامي؟! فعرفنا أنَّه لا يتقدَّمه أحدٌ .
قال الإمام ابن كثير: “وقد ذكروا أنَّه كان ينظُر في الكتاب مرَّة واحدةً فيحفظه من نظرةٍ واحدةٍ، والأخبار عنه في ذلك كثيرة”.
وأما عن ثناء الأئمَّة عليه:
جعل الله له لسان صدْقٍ عند العلماء وأصحاب التَّراجِم، فما زال العلماء منذ عصره يُثنون عليه وعلى كتابه “الصحيح”، حتى إنَّ بعضهم ألَّف مؤلَّفًا مستقلاًّ في ترجمته ومناقبه
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الإمام البخاري )
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أيها المسلمون
أما عن محنته مع محمد بن يحيى الذُّهْلي في مسألة اللفظ:
فلمّا قَدِمَ البخاري نيسابور سنة (250) هـ، استقبله الناس استقبالاً عظيمًا، فاجتمع الناس عليه مدَّةً يحدِّثهم، فحسده مَن حسده، وكان فيها محدِّثها محمد بن يحيى الذُّهْلي، وكان يقول لدى مَقْدم البخاري: “اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح، فاسمعوا منه”، فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه، حتى ظهر الخَلل في مجلس محمد بن يحيى، فحسده بعد ذلك، وتكلَّم فيه.
ومن ثَمَّ سأل رجلٌ البخاري: ما تقول في اللفظ بالقرآن: مخلوقٌ هو، أم غير مخلوق؟ فأجاب بقوله: “القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العِباد مخلوقة، والامتحان بدعة”.وقال: “أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا”.
فلمَّا قال البخاري ذلك، اختلف الناس في تفسير عبارته: فقال البعض: “قال بخَلْق القرآن”، وقال البعض الآخر: “بل قال لفظي بالقرآن مخلوق”،
فعندها قال محمد بن يحيى الذُّهْلي: “القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث تصرف، فمَن لزم هذا استغنى عن اللفظ وعمَّا سواه من الكلام في القرآن، ومَن زعم أنَّ القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأته، يُستتاب، فإنْ تاب، وإلا ضُربت عنقه، وجُعِلَ ماله فيئًا بين المسلمين، ولم يُدْفَن في مقابرهم، ومَن وقف فقال: لا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق، فقد ضاهى الكفر، ومَنْ زعم أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق، فهذا مبتدع، لا يجالَس ولا يكلَّم، ومَن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتَّهموه؛ فإنَّه لا يحضر مجلسه إلا مَن كان على مثل مذهبه”.
فانفضَّ الناس عن البخاري، فلم يحضر مجلِسَه إلا “مسلم” صاحب “الصحيح”، وأحمد بن سلمة، فبعث مسلم إلى الذُّهْلي ما سمعه منه؛ لأنَّه كان يُظْهِرُ القول باللفظ ولا يكتمه.
وقال أبو عمرو الخفاف: أتيتُ محمد بن إسماعيل، فناظرته في شيءٍ من الأحاديث حتى طابت نفسه، فقلتُ: يا أبا عبدالله، ها هنا أحدٌ يحكي عنك أنك قلتَ هذه المقالة، فقال: “يا أبا عمرو، احفظْ ما أقول لك، مَن زعم من أهل نيسابور – وسمَّى بلدانًا أخرى – أنِّي قلتُ: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذَّاب؛ فإنِّي لم أقلْ هذه المقالة، إلا أنِّي قلتُ: أفعال العباد مخلوقةٌ”.
بعدها خرج من نيسابور، فعاد إلى بلده بُخارى، فاستقبله الناس، ونُثِرت عليه الدَّراهم، وحدَّث بها أيَّامًا إلى أنْ حَدَثتِ الوحشة بينه وبين واليها الأمير خالد بن أحمد الذُّهْلي؛ حيث سأله أنْ يحضرَ منزله، فيقرأ “الجامع”، و”التاريخ” على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده، فراسله بأنْ يعقد مجلسًا لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع، وقال: لا أخصُّ أحدًا، ثم قال للرسول: “أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب النّاس، فإنْ كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجة، فاحضرْ في مسجدي، أو في داري، وإنْ لم يعجبك هذا، فإنَّك سلطان فامنعني من المجلس؛ ليكون لي عذرٌ عند الله يوم القيامة؛ لأنِّي لا أكتمُ العلمَ …”، فوجد عليه الوالي، واستعان بخصومه حتى تكلَّموا في مذهبه، فنُفِيَ عن البلد، فمضى إلى “سمرقند”.
أيها المسلمون
ونأتي إلى الخاتمة إلى وفاة الإمام البخاري:
فبعد نفيه استقرَّ بإحدى قُرى سمرقند تُدعَى: “خَرْتَنْك”، فكان له بها أقرباء أقام عندهم أيَّامًا، مرض مرضًا شديدًا، فسُمِع ليلةً وقد فرغ من صلاة الليل يقول: “اللهم إنَّه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبَت، فاقبضني إليك”، فما تمَّ الشهر حتى مات. وكُفِّن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به،
وتوفي البخاري ليلة السبت، وهي ليلة عيد الفطر آنذاك، عند صلاة العشاء، ودُفِنَ يوم الفطر بعد صلاة الظهر بخَرْتَنْك، سنة ست وخمسين ومائتين، وحينما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أيامًا، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره، وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة. جزاه الله عن المسلمين خيرًا، وأجزل مثوبته.