خطبة بعنوان: الإمام البخاري والسهام الطائشة، د. إبراهيم العجلان
3 أبريل، 2019
خطب في نصرة البخاري
1,375 زيارة
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
إخوة الإيمان: كان ثقةً عالماً، عابداً عاملاً، عفيفاً أميناً، مُحْتَرِزاً عن الكسب الحرام، قال عن نفسه: “إنه لا يَعْلمُ في مَالِهِ درهماً من حرام، ولا درهما من شبهة”.
ماتَ الرجلُ الصالحُ إسماعيلُ، وخلَّفَ وراءَهُ صبياً صغيراً أَسْماه محمد؛ نشأُ محمدٌ يتيماً، ترعاه عينا أُمِّه، التي ربَّتهُ فأحسنت تربيته، وغرستْ فيه التدين ومكارم الأخلاق، وَحَبَّبَتْ إليه العلمَ وهو صغير، وكم تمنَّتْ ورجتْ أن تراهُ مثلَ والِدِه يروي الأحاديثَ ويُؤخذُ عنه العلم، وهي لا تدري أنَّ هذا الصغير تَرْعاهُ عنايةُ الله؛ ليبقى اسمُه محفوراً في التاريخ، ولتبقى الأجيالُ تتذكَّرُه وتترحَّمُ عليه.
نحنُ اليوم مع شيخِ المحدثين، وسيدِ الحفاظِ، وتاجِ العلماء، وأعجوبةِ الدَّهْرِ، مع من؟! مع محمدِ بنِ إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري.
فلقد كانت حياتُه وسيرتُه عجباً من العجاب، عَجِبَ منه أهلُ عصرِهِ، وأَذْهَلَتْ مَلَكاتُه محدثي زمانه، وهم الحفاظُ الثقاتُ الأثبات، حتى قال بعضُ من عاصره: “هو آية من آيات الله تمشي في الأرض”.
كان الإمامُ البخاريُ نحيفَ الجسمِ، ليسَ بالطويلِ ولا بالقصير، نَشَأَ نشأةً صالحةَ لا صبوةَ فيها، وارتادَ حلقاتِ القرآنِ وهو صغير، فحفظه، وشَرَعَ في حفظ العلم والأحاديث، ورَزَقَهُ اللهُ ذاكرةً نادرةً، وحافظةً باقعةً، وذهناً وقَّادا سيَّالاً، وأُلهم الحفظ إلهاماً، فكان لا يَسْمعُ شيئاً، أو تَلْقُطُ عينُه مكتوباً إلا حَفِظَهُ وَوَعاه.
كان وهو في سن العاشرةِ يَحْضرُ مجالسَ الحديثِ فيصحِّحُ للشيوخِ أخطاءَهم، وهو ابنُ إحدى عشرة سنة, واستمر يحضر لشيوخه في بخارى، ويحفظ كتب العلماء الكبار, حتى برز وتأهل وأُخذ عنه العلم والحديث وعمره ستة عشر سنة.
بلغ الإمام البخاري سن البلوغ فذهب للحج مع والدته، وهناك في مكة والمدينة التقى بكبار المحدثين، ولازم مجالسَهم، وأوقف حياته كلها لأجل علم الحديث، أشغلَ ليله ونهاره في جمعِ المرويَّاتِ وحفظِهِا، والنظرِ في الأسانيدِ ورجالِها، وتمييزِ صحِيحها من سقيمِها، مع المعرفةِ الدقيقةِ لعلل المروياتِ الخفية، والتي لا يدركها إلا القلةُ من الحفاظ.
أهمَّهُ علمُ الحديثِ وأشغلَهُ، فكان لا يهنأُ بنومٍ من أجْلِ جَمْعِهِ والنظر فيه، قال محمد ابن يوسف البخاري: “كنتُ مع محمد بن إسماعيل بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلةٍ ثماني عشرة مرة, وصدق القائل:
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
طاف الإمام البخاري الدنيا في جمع حديثِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وحفظِه، فرحل للحجاز والشام والعراق وغيرها، ولازم المحدثين، وحفظ كتبهم ومروياتهم، حتى قال عن نفسه: “كتبت عن ألف شيخ وأكثر، كتبت عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا وأذكر إسناده”؛ قال عمرو بن علي الفلاس: “حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث”.
ذكر الذهبي في (السِّير) عن أبي بكر الكَلْواذاني: “ما رأيتُ مثل محمد بن إسماعيل؛ كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطِّلاعَةً، فيحفظ عامَّة أطراف الأحاديث من مرَّة واحدة”.
وفي البصرة كان الإمام البخاري يحضر مجالس إملاء الحديث لعدد من المحدثين عدَّة أيام، وأقرانه يكتبون وهو لا يكتب، حتى انتقدوه، فلما ألحُّوا عليه قرأ عليهم ما كتبوه عن ظهر قلب، فزاد على خمسة عشر ألف حديث! ثم قال لهم: “أترون أني أختلف هَدْرًا وأضيِّع أيامي”.
وتمضي الأيام والبخاري ماضٍ في مشروعه العظيم حتى ذاع صيته، وتناقل الخاصة والعامة من أخبار عبقريته وحفظه الشيء الكثير، فكان لا يدخل بلداً إلا التف حوله العلماء قبل العامة، يسألون ويختبرون، قال صالح بن محمد الأسدي: “كنت استملي له ببغداد، فبلغ من حضر مجلس البخاري أكثر من عشرين ألفاً”.
وذكر الحافظ ابن حجر في كتابه (تغليق التعلق) أنّ أربع مائة من علماء سمرقند تجمعوا، وأحبوا أن يختبروا البخاري ويغالطوه، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحجاز، فكان ينبههم على هذه الأخطاء، وما تعلقوا منه سقطة لا في الإسناد ولا في المتن.
وأما ثناء علماء الحديث على الإمام البخاري فهذا حديث يبدأ ولا ينتهي، فقد عاصره مبرَّزون في الحفظ والفهوم، فكان البخاري هو القمر وهم النجوم، ولا يعرف فضل العالم إلا أهلُ العلم والفضل، ولا يستحقره إلا أهلُ الدناءة والجهل.
قال عنه الإمام أحمد: “ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل”, وقال عنه شيخه إسحاق بن راهويه: “يا معشر أصحاب الحديث! انظروا إلى هذا الشاب، واكتبوا عنه، فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج إليه لمعرفة الحديث وفقهه”.
الإمام الترمذي طاف البلدان والتقى بالمحدثين، لكنه لم يرَ مثل شيخه البخاري، في معرفة العلل، والتاريخ، ومعرفة الأسانيد, وأما ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة فقد قال عن البخاري: “ما تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله وأحفظ له من محمد بن إسماعيل”.
عباد الله: وكما بزَّ البخاري بحفظه وذكائه، تميَّز أيضاً بأخلاقه وزكائه، فقد كان زاهداً ورعاً، منشغلاً بالعبادة، سليم الصدر، عفيف اللسان، يقول عن نفسه: “ما اغتبت أحداً قطُّ منذ أن علمت أنَّ الغيبة حرام، وأرْجوا أن ألقى الله ولا يحاسبني أن اغتبت أحداً”.
ومع اشتغال البخاري بالحديث إلا ذلك لم يشغله عن القرآن، فكان يحيي كل ليلة بثلث القرآن، ويختم كل ثلاث ليال، وأما في رمضان فقد كان يختم في كل ليلة.
إخوة الإيمان: لو قيل لأي أحد منا: ما أصحُ كتاب بعد القرآن لقال بلا تردد: صحيح البخاري؛ هذا الكتاب العظيم الجليل، الذي بلغت شهرته مشارق الأرض ومغاربها، بداية قصَّته اقتراح سمعه البخاري من شيخه، بكلمة طيبة قالها إسحاق بن راهويه، لكنها لم تكن مجرد كلمة طارت في الهواء، بل وقعت في قلب البخاري، فآتت هذه الكلمة أُكلها، وأنتجت خيراً كثيراً مباركاً بإذن ربها.
يُحدثنا الإمام البخاري عن سبب تأليفه للصحيح فيقول: “كنا عند إسحاق بن رَاهَوَيْه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فوقع ذلك في قلبي؛ فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح”.
بدأ البخاري في هذا المشروع العظيم، انتخاب أصح الأحاديث لديه, قال البخاري: “خرجت الصحيح من ستمائة ألف حديث”, وقال أيضاً: “لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً”.
ورغم سعة محفوظات البخاري إلا أنه لم يؤلف كتابه في مدة وجيزة، بل جلس ينتقي أصح الأحاديث مدة طويلة، بلغت ستة عشر سنة؛ ابتدأ تصنيفه وترتيبه وتبويبه في المسجد الحرام، ولازم الرَّوضة الشريفة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ينتخب ويرتب ويضع تراجم الأبواب، ورغم علمه ومعرفته بصحة الأحاديث إلا أنه كان لا يضع حديثاً واحداً في كاتبه إلا صلى لأجل هذا ركعتين يستخير الله فيها.
ولما فرغ من تأليف الصحيح عرضه على أسماء لامعة في علم الحديث لمراجعته وتقييمه، فعرضه على الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم من الجهابذة، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث، من بين ما يزيد على سبعة آلاف وخمس مائة حديث, قال الحافظ العقيلي: “والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة”.
وبقي البخاري مقدراً ومعروفاً ومحبوباً حباً لنبينا -صلى الله عليه وسلم-, وفي آخر حياته عاد إلى أرضه التي ولد فيها وترعرع، فاستقبله أهل بخارى في يوم مشهود وأكرموه، وبقي يحدث الناس في مسجده من كتابه الصحيح ومن صحيح مروياته، فكتب إليه أمير بخارى أن يحضر إلى منزله؛ ليقرأ كتاب الصحيح على أولاده، فامتنع البخاري، وقال: “أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس, فإن كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجة فاحضر في مسجدي, أو في داري”.
بعدها حصلت جفوة ووحشة بين البخاري وبين أمير بخارى، فنفاه إلى سمرقند، ولم يدم طويلاً حيث توفي في آخر شهر رمضان سنة 256هـ.
تلك -عباد الله- شذرات من حياة الإمام البخاري، وشيء من جهاده وتجلده ومصابرته في خدمة الحديث الشريف، ففضله على أمة محمد عظيم، وحقُّه الثناء والاحتفاء، والشكر والدعاء، وهذا جزء يسير من الوفاء.
اللهم نسألك حبك وحب نبيك، وارزقنا حبَّ من خدم سنة نبيك, أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى.
أما بعد: فيا إخوة الإيمان: توفي الإمام البخاري بعد أن خلَّف للأمة ميراثاً ثميناً، وبقيت سيرته مناراً يهتدى، وعلمه ضوءً يقتدى، وتراثه تُشد له الرحال ويُحتفى.
إنَّ من المقرر في شريعتنا أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وحين يذكرُ الاحتجاجَ بالسنة يأتي في مقدمتها صحيحُ البخاري، الذي تلقته الأمة بالقبول، وعلى العمل به طوال العصور، وأجمع العلماء على أن أحاديثه قد قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- قطعياً, كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
وبقي أهل السنة عبر كل جيل على هذا المنهج لا يضرهم من خاصمهم أو خالفهم، وفي كل عصر وجيل تنبت نوابت تطعن في السنة أو في كتب الصحاح، بتبريرات عبثية، ونقد غير علمي خارج منهجية المحدثين المختصين.
نعم؛ للسنة والحديث خصوم ومحرفون، وطاعنون ومنكرون، ولهم في طعنهم في صحيح البخاري طرائق قدداً، إما بذوق عقلي، أو هوىً شهواني، أو ادعاء مناقضته للقرآن، واليوم تُردُّ أحاديث المصطفى الصحيحة لعدم توافقها مع التعايش، أو الحريات، أو القيم التي ينادي بها الغرب.
هذا الطعن العبثي بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والدعوة لفتح الباب لنقد مصادر التشريع دافعها الحقيقي هو استثقال التكاليف الشريعة، أو الاستحياء من بعض النصوص؛ إرضاء لمن لن يرضى عنا بنص القرآن.
خذوها وعوها: الطعن في السنة -وفي مقدمتها أحاديث الصحيح- هي حلقة ضمن مشروع كبير عنوانه: التشكيك في مصادر الإسلام؛ لتكون النتيجة: ظهور أجيال ضعيفة هزيلة، مهزوزة الثقة بمصادر تشريعها ودينها ومبادئها.
يخدم هذا المشروع منافقون أعداء، أو جهلة أغبياء، أو مفتونون باحثون عن الأضواء, يجمعهم أنهم لا صيد لهم في العلم، يتحدثون عن شيخ المحدثين ويقيمون كتابه الصحيح، كأنما يقيمون روائي في روايته.
والله والله لن يضير صحيح البخاري غمز الطاعنين، ولا تفيهق المتعالمين، ولا تشكيك التافهين؛ لأن أحاديث الصحيح هي من الدين، والله تكفل بحفظ هذا الدين وبقائه, وما مثال هؤلاء إلا كمن يبصق على الشمس، أو ينطح الجبل الشامخ.
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه *** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
تذهب الممالك، وتزول الدول، وتموت الرجال، وتتغير الأجيال، وتتغير الأطلال والآثار، ويبقى البخاري وصحيحه باقياً ما بقي الليل والنهار.