تدوين الحديث النبوي
تأليف د. عبدالجبار فتحي زيدان
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
اللهم إنا نسألُك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، والدرجات العلا في الجنة، آمين يا أرحم الراحمين.
الإسلام دين الله، وما محمد – صلى الله عليه وسلم – إلا رسولٌ نقَل إلينا هذا الدين من البارئ – عز وجل – عن طريق – جبريل – عليه السلام – فقد علَّم مثلاً جبريلُ – عليه السلام – الرسولَ – صلى الله عليه وسلم – كيف يصلِّي، وكيف يتوضأ، وطبَّق له ذلك عمليًّا، فقد توضَّأ بين يديه، وصلَّى أمامه، فَأْتَمَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – خلفه وصلَّى معه الصلوات الخمس.
– عن عائشةَ – رضي الله عنها – قالت: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحدِّث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه، لا يسردُ الحديث كسردكم”؛ أخرجه الخمسة إلا النسائي، والمعنى أنه – صلى الله عليه وسلم – كان لا يُسرِعُ في الكلامِ، بل يُخرِجُ الألفاظ بتؤدةٍ، وكان ذلك من أجل أن يفهَمَ كلامَه السامعُ أو يحفظه إن شاء، وعن أنس – رضي الله عنه – قال: “كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يُعِيد الكلمةَ ثلاثًا؛ لتُعقَلَ عنه”؛ أخرجه الترمذي.
– وقد نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بداية نزول القرآن عن كتابةِ الحديث؛ لئلاَّ يختلطَ بكلام الله، إلا أن هناك أفرادًا من الصحابة وجدوا من البواعث النفسية ما حمَلهم على كتابة أكثر ما سمِعوه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو ربما كل ما سمعوا عنه – عليه الصلاة والسلام – بل الرسولُ – صلى الله عليه وسلم – قد استثنى بعض الصحابة من النهي، فقد كان هؤلاء يكتبون، وغيرهم من الأميين كانوا يحفظون في صدورهم ما تيسَّر لهم من حديث النبي – صلى الله عليه وسلم.
– وبعد أن أمِن الرسولُ – صلى الله عليه وسلم – الْتباسَ الحديث بالقرآن، سمح بكتابته بصفة عامة، فانبرى عدد من الصحابة بتدوين الحديث، فقد كان عبدالله بن عمرو، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن عباس، وأنس بن مالك، ممَّن يكتبون الحديث خوفًا من نسيانِه، على الرغم من حفظِهم له وقوة حفظهم، وجاءت عنايةُ التابعين بالحديث؛ لاعتقادهم بأنه وحي لا يختلف عن القرآن، إلا أن القرآن موحى بلفظه ومعناه، والحديث موحى بمعناه فقط.
– ومن الصحف التي كُتِبت في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – صحيفة سعد بن عبادة الأنصاري، وصحيفة ابن جندب (ت 60هـ)، وكان لجابر بن عبدالله (ت 78هـ) صحيفةٌ أيضًا، والصحيفة الصادقة التي كتبها جامعُها عبدالله بن عمرو بن العاص (ت 65هـ)، فقد جاء عبدالله يستفتي رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – في شأن الكتابة قائلاً: أكتبُ كلَّ ما أسمع؟ قال: ((نعم))، قال: في الرضا والغضب؟ قال: ((نعم؛ فإني لا أقول إلا حقًّا))، وقد كانت لأبي هريرة – رضي الله عنه – صحفٌ كثيرة، وهذه الصحف كانت مشهورة عند الصحابة، وقد تناقلوها ورَوَوا الأحاديث عنها، وظهرت أحاديثها في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، وغيرهما، وإحدى صحف أبي هريرة رواها تلميذُه همام بن منبه، وقد عثَر على هذه الصحيفة الباحثُ المحقق الدكتور محمد حميد الله في مخطوطتينِ متماثلتين في دمشق وبرلين، وزاده ثقةً بما جاء فيها أنها برمَّتها ماثلة في مسند الإمام أحمد، وأن كثيرًا من أحاديثها مرويٌّ في صحيح البخاري في أبواب مختلفة، وتعداد هذه الصحيفة 138 حديثًا، وقد حرَص رواةُ الحديث على جمع أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهذا المستشرق جولدزيهر Goldzihe على الرغم من عدائه للإسلام اعترف بأن المسلمين الأوائل كانوا يطوفون البلدان بضعَ عشرةَ سنةً من أجل أن يجمعوا أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي تفرَّقت في صدور الصحابة والتابعين ممن تفرقوا في أمصار مختلفة[1].
– والعرب كانوا يعتمدون في رواية الحديث على كتابتِها وحفظها معًا، فأشعار العرب مثلاً رُوِيتْ كلها عن طريق الحفظ، فكان الذين سمُّوا الحفَّاظ يحفظون آلاف الأحاديث عن ظهر قلب؛ منهم: يحيى بن معين توفي بالمدينة سنة 232هـ، وأبو زرعة الرازي الحافظ الثقة المشهور (ت 264هـ)، فقد كان يحيى يحفظ أربعَمائة ألف حديث، وقال الإمام أحمد عن أبي زرعة: أنه كان يحفظ سبعَمائة ألف حديث، وكان أبو زرعة يقول عن نفسه: “ما في بيتي سواد على بياض إلا وأحفظه”، وقال الشعبي: ما كتبت سوادًا في بياض إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل حديثًا قط إلا حفظته، ومن الحفاظ مَن كان يستعين على حفظ الحديث بكتابته، فإذا أتقن حفظه، محاه، أو دعا بمقراض فقرضه؛ خوفًا من أن يتَّكِل القلب عليه؛ منهم: سفيان الثوري، وعاصم بن ضمرة (ت 174هـ)، وخالد الحذَّاء (ت 141هـ)، وابن شهاب، وابن سيرين.
– وكان من العلماء مَن يميل إلى تحديد العدد المحفوظ من الحديث الذي يستحق جامعه أن يسمى حافظًا، فقال الحاكم في المدخل: وكان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسَمائةِ ألف حديث، ورأى غيره أن الحد الأدنى ينبغي ألاَّ يقل حفظه عن عشرين ألف حديث، وكان الحفَّاظ يتشدَّدون في الرواية باللفظ، ولا يتساهلون حتى في الواو والفاء، فكانوا يرَوْن أن على المؤدِّي أن يروي ما يحمله باللفظ الذي تلقاه من شيخه دون تغيير ولا حذف ولا زيادة، واستدلُّوا على ذلك بقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((نضَّر الله امرأً سمِع حديثًا فأدَّاه كما سمِعه، فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامِع))، وبتعليمه – عليه الصلاة والسلام – الصحابةَ الحرصَ على دقَّة الحفظ والنقل عنه، فعن البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال له: ((يا براء، كيف تقول إذا أخذتَ مضجعَك؟))، قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((إذا أويتَ إلى فراشك طاهرًا، فتوسَّد يمينك، ثم قل: اللهم أسلمتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلت))، فذكر البراء أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طلب منه فيما بعدُ أن يُعِيد أمامه الدعاء، فعاده كما علَّمه، غير أنه قال: ((ورسولك الذي أرسلت)) بدلاً من ((ونبيك الذي أرسلت))، فضرب بيده في صدره، وقال: ((ونبيك الذي أرسلت))، فكرِه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يبدل بنبيِّك رسولَك، مع أنهما لا فرق بينهما في المعنى، وعلى هذا الأساس راح الصحابة – رضي الله عنهم – يصحِّحون ما يسمعونه من الرواة من تغيير اللفظ النبوي بالتقديم والتأخير، أو استبدال كلمة بمرادفها، قال عبيد بن عمير وهو يقص: “مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين”، فقال ابن عمر: ويلكم لا تكذبوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما قال – صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين))، وسمِع ابن عمر أيضًا رجلاً يردِّد حديث الأركان الخمسة فقدَّم بعضها وأخَّر بعضًا، مخالفًا بذلك الرواية التي سمِعها ابن عمر نفسُه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له: اجعلْ صيام رمضان آخرهنَّ كما سمعتُ مِن فِي رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
– وفي عصر التابعين وأتباع التابعين ظلَّ كثيرٌ من الرواة يؤدِّي حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلفظِه، وإن كان آخرون منهم لا يرون بأسًا بالرواية على المعنى، قال ابن عون: أدركتُ ثلاثة يشدِّدون في الحروف، وثلاثة يرخِّصون في المعنى؛ فأما أصحاب المعاني، فالحسن، والشعبي، والنخعي، وأما أصحاب الحروف، فالقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، ومحمد بن سيرين، وقد أشاد الأعمش سليمان بن مِهران (ت 148هـ) بهذا التشدُّد، فحمِد لهم ذلك، وتغنَّى به قائلاً: “كان العلم عند أقوامٍ كان أحدهم لأن يخرَّ من السماء أحب إليه من أن يزيد واوًا أو ألفًا أو دالاً”.
– أما الطائفة التي لم ترَ بأسًا في رواية الحديث بالمعنى، فإنها اشترطت لذلك شروطًا؛ منها: أن يكون الراوي عالمًا بالنحو والصرف وعلوم اللغة، عارفًا بمدلولات الألفاظ، بصيرًا بمدى التفاوت بينها، قادرًا على أن يؤدِّيَ الحديث خاليًا من اللحن؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفصحُ مَن نطق بالضاد، فمن الكذبِ عليه أن يضع المؤدي فيه لحنًا يستحيل أن يقع منه، قال الأصمعي: “أخشى عليه إذا لم يعرف العربية أن يدخُلَ في قوله: ((مَن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه، كذبت عليه”، ولما كانت علوم العربية متشعِّبة، والإحاطة بها شبه مستحيلة؛ منَع بعض العلماء غير الصحابة من رواية الحديث بالمعنى؛ لأن جبلَّتهم عربية ولغتهم سليقة، قال القاضي أبو بكر بن العربي (ت 544 هـ): إن هذا الخلاف إنما يكون في عصر الصحابة، وأما مَن سواهم، فلا يجوز لهم تبديل اللفظ بالمعنى، وإن استوفى ذلك المعنى… والصحابة بخلاف ذلك، فإنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان: الفصاحة والبلاغة، والثاني أنهم شاهدوا قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وفعله، وليس مَن أُخبِر كما عاين، والرواية بالمعنى ينبغي أن تظل مقيَّدة ببعض العبارات الدالة على الحيطة والورع، فعلى راوي الحديث إذا شك في لفظ من روايته أن يُتبِعَه بقوله: أو كما قال، أو كما ورد.
– ومن رواة الصحابة المشهورين أبو هريرة – رضي الله عنه – أسلم سنة سبع للهجرة، ومنذ إسلامه صاحَبَ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – حتى توفِّي؛ أي: دامت مصاحبته له أربع سنوات، إلا أن هذه السنوات الأربع كانت طويلةً، استطاع أبو هريرة – رضي الله عنه – أن يكتبَ فيها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحاديثَ كثيرة؛ لأنه خلال هذه السنوات لم يفارق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا في السفر ولا في الإقامة، فما كان يفارقه إلا ساعات النوم، فأراد أن يعوِّض ما فاته؛ لأنه أسلم متأخرًا، فلازَمَ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – وأخذ يكتب كل أحاديثه التي يسمعها منه.
– وقد أجاب أبو هريرة – رضي الله عنه – عن سببِ كثرة ما روى من الأحاديث خلال هذه المدة، فقال: إنكم تقولون أكثَرَ أبو هريرة في حديثه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وتقولون: إن المهاجرين الذين سبقوه على الإسلام لا يحدِّثون هذه الأحاديث، إلا أن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم صفقاتُهم بالسوق، وأن أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم، وإني كنت امرأً مسكينًا أُكثِر مجالسة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأحضر إذا غابوا، وأحفظ إذا نسُوا، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – حدث يومًا، فقال: ((مَن يبسطُ رداءه حتى يفرغ من حديثي، ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئًا كان قد سمعه مني))، فبسطتُ ثوبي فحدثني، ثم ضممته إليَّ، فوالله ما كنتُ نسيتُ شيئًا سمعته منه، وايم الله، لولا آيةٌ في كتاب الله ما حدَّثتكم بشيء أبدًا، وهي: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].
– يقول أحد الكتَّاب: “هكذا يفسِّر أبو هريرة – رضي الله عنه – سرَّ تفرُّده بكثرة الرواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم”.
– فهو أولاً كان متفرغًا لصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – أكثر من غيره.
– وهو ثانيًا كان يحمل ذاكرة قوية، باركها الرسول – صلى الله عليه وسلم – فزادت قوة.
– وهو ثالثًا لا يحدِّث رغبة في أن يتحدَّث، بل لأن إفشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته، وإلا كان كاتمًا للخير والحق”.
– وقد كان – رضي الله عنه – شديدَ الذكاء، سريع الحفظ، يكفي أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – دعا له بقوة الحفظ، وقد قال عنه الإمام الشافعي – رضي الله عنه -: أبو هريرة أحفظ مَن روى الحديث في دهره.
– ولم يتخلَّف أبو هريرة – رضي الله عنه – عن غزوةٍ غزاها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – منذ إسلامه.
الهوامش :