الرد على عدنان إبراهيم في رده لرواية الصحيحين عن سن عائشة
عند زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها([1])
سمعت مقطعا للدكتور عدنان إبراهيم في التشكيك بسن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها , وأورد عددا من الاستدلالات على دعواه , لكنه قدمها بادعاء تضعيف رواية الصحيحين , من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
والمشكلة أنه يذكر أن هذا الموضوع كان هو أطروحته للماجستير ، فإذا كانت الأخطاء التالي ذكرها قد وقعت منه ، رغم استيفائه بحثها في رسالة للماجستير ، فما هو مستوى بقية بحوثه وآرائه التي يدعيها بين الفينة والأخرى ؟!!
ولن أخوض معه في استدلالاته التي ذكرها في ذلك المقطع مما قد يحتمل الجدل منها , خاصة عند غير أهل الاختصاص , وسأكتفي بما يبطل كلامه بما لا يحتمل النقاش :
فقد استند الدكتور في تضعيفه لرواية هشام بن عروة على أمرين :
1-أن الذي ذكر زواجها وهي بنت تسع هو هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , وأن هشاما انفرد بذكر ذلك , ولم يروه عن عروة غيره .
2-وأن هشام بن عروة لم يُحدّث بذلك إلا في العراق , بدليل أن رواته عنه عراقيون , وأن بعض العلماء شككوا في قوة حفظه فيما حدث به بالعراق .
والحقيقة أن هذا كله خطأ في خطأ !
فأولا : ليس كل حديث العراقيين مستضعفا عن هشام بن عروة (حتى على فهم الدكتور لكلام المحدّثين) :
1-فقد قال عبدالرحمن بن مهدي : ((حماد بن سلمة أروى الناس عن ثلاثة : ثابت وحميد وهشام بن عروة)) . وحماد بن سلمة أحد رواة هذا الخبر عن هشام .
2-وقال يحيى بن معين : ((أبو أسامة [يعني حماد بن أسامة] راوية عن هشام بن عروة سمع منه ستمائة حديث)) , وأبو أسامة من رواة هذا الحديث عن هشام .
3-قال الإمام الحميدي في مسنده : (( حدثنا سفيان قال : حدثنا هشام بن عروة [وكان من جيد ما يرويه عن أبيه] عن عائشة قالت : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا بنت ست سنين أو سبع سنين وبنى بي وأنا بنت تسع)) .
هذا هو قول أعلم الحجازيين بحديث الحجاز , وهو سفيان بن عيينة , وفي هذا الحديث لهشام بن عروة عن أبيه , وهو ممن رواه عن هشام بن عروة !!
ثانيا : لم ينفرد به العراقيون عن هشام بن عروة كما ادعى , فقد رواه من المدنيين , خلافا لما ذكره الدكتور ، كل من :
1-فقيه المدينة : عبدالرحمن بن أبي الزناد .
2-وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي المدني .
وكلاهما مدني صدوق الحديث , وحديثهما سمعه منهما إمام مصر الثقة عبدالله بن وهب كما في جامعه , وعنه رواه جماعة .
وحديث ابن أبي الزناد أخرجه من وجه صحيح أيضا الطبراني .
فكيف يزعم الدكتور أنه لم يره المدنيون ؟!!
هذا يدل على أنه لا باع له في معرفة السنة وأسانيدها ، حيث نفى ما هو موجود .
ثالثا: الحديث لم ينفرد به هشام بن عروة عن أبيه كما ادعى , فقد رواه غيره : كالإمام الزهري عن عروة , كما في صحيح مسلم وغيره .
ولا أدري كيف فاته هذا الإسناد وهو في صحيح مسلم ؟!
وهذا يدل على جهل شديد أو تعصب وهوى يُعمي البصيرة ؛ لأن كتاب الإمام مسلم في متناول صغار طلبة العلم شهرة وانتشارا ، ومن خفي عليه إسناد في صحيح مسلم ، وفي موضوع رسالته للماجستير ، فكيف سيكون مستوى بحثه .
رابعا : لم ينفرد عروة بن الزبير بهذا الخبر أصلا بالحديث , فقد رواه عن عائشة جمع من الأئمة الثقات عنها , منهم :
1-الإمام المخضرم التابعي الكبير الثقة الفقيه : الأسود بن يزيد النخعي .
وهو أيضا في صحيح مسلم وفي غيره كثير من كتب السنة !!!!!!!!
2-وفقيه المدينة الإمام القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : أخرجه الطبراني من غيرما وجه ثابت عنه .
3-والتابعي الثقة الفقيه عبدالله بن عبيدالله بن عبد الله بن أبي مُليكة : أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والنسائي في الكبرى بإسناد حسن .
4-والإمام الثقة الجليل أبو سلمة بن عبدالرحمن
5-والتابعي الثقة يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب : وحديثهما في مسند الإمام أحمد وغيره ، بإسناد ثابت .
6-والتابعي الثقة عبدالملك بن عمير : كما عند الطبراني بإسناد جيد .
هؤلاء جميعا رووا سن زواج عائشة , وأنها كانت بنت تسع سنين , عن عائشة رضي الله عنها صاحبة الشأن . وفي هؤلاء أقرب الناس إلى عائشة وأعرف الناس بها ، وهما ابن أختها أسماء : وهو الإمام الجبل عروة بن الزبير ، وابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر . فذاك خالته عائشة ، وهذا عمته ، وهما من أكبر الفقهاء ومن أعلم التابعين !!
فهل يمكن أن يكون هناك أحد أعلم من عائشة رضي الله عنها بسنها حين زواجها , والذي سمعه منها جمع من الأئمة الثقات فيهم أعرف الناس بها.
فماذا بقي من حجج الدكتور في توهيم رواية الصحيح ؟!! بعد تبين عدم صحة كل دعاواه , وأنها أوهام فوق أوهام !!!
وهذا نموذج آخر لتعجلات الدكتور في الجرأة على الصحيحين , تبين أنه هو المخطئ , وأن صاحبي الصحيح لم يخطئا .
جواب على استشكال :
قال أحدهم : يا شيخ حاتم .. روى ابن حجر العسقلاني ((شارح صحيح البخاري وامير المؤمنين في الحديث)) روى عن أبي نعيم أن أسماء بنت أبي بكر –أخت عائشة الكبرى –وُلدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، ومعنى ذلك أن عائشة كانت تبلغ سبعة عشر عاما تقريبا حين الهجرة أي حين تزوجها محمد، لأن أسماء تكبر عائشة بعشر سنوات.
المصدر: راجع الإصابة لابن حجر ج8 ص14
والجواب هو :
هذا استدلال لا يعرف العلم !! لأنه يتمسك بالظنون المتهافتة , ويترك كلام صاحبة الشأن (وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها) الذي رواه عنه جمع من الثقات .
حيث إن أبا نعيم الذي نقل عنه ابن حجر (ت852هـ) , هو أبو نعيم الأصبهاني توفي سنة (430هـ) , كما في كتابه معرفة الصحابة (6/3252) ، فكيف يشكك من جاء بعد أربعة قرون في كلام صاحبة الشأن نفسها رضي الله عنها ؟!!
وهذه هي عبارة أبي نعيم ، كي نناقشها ، قال (رحمه الله) : ((وكانت أسن من عائشة، ولدت قبل التأريخ بسبع وعشرين سنة، وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وولدت ولأبيها الصديق يوم ولدت أحد وعشرون سنة، توفيت أسماء سنة ثلاث وسبعين بمكة ، بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بأيام ، ولها مائة سنة وقد ذهب بصرها)) .
وفي هذا الكلام تناقض واضح ، لولا أني تثبت من صحته من كتاب أبي نعيم مطبوعه ومخطوطه ومن نقل ابن عساكر له في تاريخ دمشق بحروفه ، لظننت أنه قد وقع فيه تحريف . ووجوه تناقضه عدة :
– لأن من ولدت قبل التاريخ (أي الهجرة) بسبع وعشرين ، سيكون عمرها يوم البعثة : أربعة عشر عاما ، لا عشرا كما قال أبو نعيم . ولاكما جاء في المعجم الكبير للطبراني ، حيث قال في الكبير : ((حدثنا محمد بن علي بن المديني فستقة، قال : ماتت أسماء بنت أبي بكر الصديق سنة ثلاث وسبعين بعد ابنها عبد الله بن الزبير بليال، وكانت أخت عائشة لأبيها، وأم أسماء بنت أبي بكر: قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد، من بني مالك بن حسل، وكان لأسماء يوم ماتت مائة سنة ، ولدت قبل التاريخ بسبع وعشرين سنة ، وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبع عشرة سنة)) .
– فإن كانت مولودة قبل البعثة بعشر سنين ، كما قال أبو نعيم ، فسيكون عمرها عند الهجرة 23 عاما ، وسيكون عمرها سنة 73 ستة وتسعين عاما ، لا تسعين ولا مائة .
– وأما من كانت عند البعثة ابنة سبعة عشر عاما ، سيكون عمرها سنة 73 تسعين لا مائة.
ومع هذا الاضطراب في كلام أبي نعيم ، والذي ينقض بعضه بعضا ؛ فإن كان كلام أبي نعيم مع ذلك كله مقبولا , فليكن مقبولا في سن عائشة رضي الله عنها يوم زواجها , وقد ذكر أبو نعيم نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها ولها تسع سنوات , كما في كتابه معرفة الصحابة (6/ 3208) !
فإن ذهبنا نريد مناقشة كلام أبي نعيم ، وأن نعرف مستنده في تحديد سن أسماء ، فيبدو أن أبا نعيم حدد عمرها مما أسنده قبله ابن منده في معرفة الصحابة (وكتاب ابن منده من أهم مصادر أبي نعيم كما هو معروف) ، إلى هشام بن عروة عن أبيه ، قال : ((كانت أسماء بنت أبي بكر قد بلغت مائة سنة ، لم يقع لها سن، ولم ننكر من عقلها شيئا)) .
وهو خبر صحيح عن عروة .
وعلى ظاهره تكون أسماء قد وُلدت قبل البعثة بأربع عشرة سنة ؛ لأن من مات سنة 73 عن مائة ، سيكون سنة الهجرة ابن سبع وعشرين ، وإذا أنقصت 13 عاما للبعثة قبل الهجرة ، تكون مولودة قبل البعثة بأربع عشرة سنة .
وتنبهوا أن هذا الإسناد هو أيضا من حديث هشام بن عروة عن أبيه كأحد أسانيد تحديد عمر عائشة ، فمن ضعف ذاك لزمه تضعيف هذا ، خاصة وهو يخالف بقية الرواة عن عائشة وعن عروة ، كما سبق .
والصحيح : أن نقوم بالجمع ، وهذا ما سيأتي قريبا .
أما الفرق بين سن أسماء وعائشة فهو إنما ورد من كلام ابن أبي الزناد : فيما أخرجه الربعي في المنتقى من أخبار الأصمعي (رقم 65) ، وابن عبد البر في الاستيعاب (2/616) ، وغيرهما .
وابن أبي الزناد من أتباع التابعين توفي سنة 174هـ ، أي بينه وبين وفاة أسماء وأختها عائشة مائة سنة وأزيد ، فهو إسناد منقطع ظاهر الانقطاع ، لا يصح في إثبات فارق السن بينهما أصلا ، ولا يوزن من جهة الثبوت بما صح وثبت عن عائشة رضي الله عنها (صاحبة الشأن) في ذكر عمرها ، من عدة وجوه عنها .
وابن أبي الزناد هو أيضا أحد من ثبت عنه أنه روى سنّ عائشة عند البناء بها ، وأنها كانت بنت تسع سنوات ، كما سبق .
فأعجب ممن يدعي المنهج العلمي : كيف يقدم الضعيف على الصحيح ؟! وكيف يضعف الصحيح ويصحح الضعيف ؟!
كما أن ابن أبي الزناد لم يكن جازما بفارق السن هذا ، فقد قال (كما عند ابن عبد البر) : ((كانت أكبر من عائشة بعشر سنين أو نحوها)) ، فقوله ((أو نحوها )) : تدل على عدم التيقن ، وتحتمل من التأويل ما يحتمله الشك في مثلها .
وكان ينبغي على من أراد أن يتبع المنهج العلمي أن يعتمد الروايات الصحيحة في حساب عمر عائشة عند زواجها موازنة بعمر أسماء : فإذا كانت عائشة قد بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة اثنتين من الهجرة أي بعد نحو سنة ونصف من الهجرة ، ولها تسع سنوات ، فسيكون مولدها سنة خمس من البعثة ، وذلك بطرح 8 من 13 هي سنوات البعثة . وإذا كانت قد وُلدت نحو سنة 5 من البعثة ، وكان بينها وبين أسماء عشر سنوات ، تكون أسماء مولودة سنة خمس قبل البعثة . وإذا كانت مولودة سنة 5 قبل البعثة ، ونضيف إليها 13 سنوات البعثة ، وما تيقناه من وفاتها سنة 73 ، فيكون عمرها إحدى وتسعون سنة .
فبالحساب أيضا : إذا كانت أسماء توفيت ولها إحدى وتسعون , وتوفيت سنة 73 هـ , فهذا يعني أنها ولدت قبل الهجرة بثماني عشرة سنة , لا بسبع وعشرين . وهذا التاريخ (أنها ولدت قبل الهجرة بثماني عشرة سنة) هو التاريخ الموافق لما أخبرت به عائشة عن نفسها ، فيما ثبت عنها .
وهذا الحساب هو ما قام به أهل العلم حقا ، لا المتسورون على العلم . فقد نقل الإمام الذهبي في السير (3/380) كلمة ابن أبي الزناد عن أسماء : ((كانت أكبر من عائشة بعشر سنين)) ، فتعقبها بقوله : (( قلت : فعلى هذا يكون عمرها إحدى وتسعين سنة)) .
ويكون مراد عروة بن الزبير عندما ذكر أنها بلغت المائة التجوّز على عادة العرب من أبعاض العقد إلى العقد أو نصفه ، وهو أسلوب عربي معروف ، قائم على التساهل . ويشهد لذلك أن كلام عروة جاء في سياق إرادة الإخبار عن كبر سنها ، مع سلامة جسدها وعقلها : ((كانت أسماء بنت أبي بكر قد بلغت مائة سنة ، لم يقع لها سن، ولم ننكر من عقلها شيئا)) ، فمثل هذا السياق يغلب فيه جبر الكسر إلى المائة ، وكأنه يقول وقد جاوزت التسعين وأشرفت على المائة .
وإن فهمنا عبارة ابن أبي الزناد أنه أراد تقريب الفرق بين عمر أسماء وعائشة ، فيمكن أن تكون أسماء أكبر بنحو خمسة عشر عاما ، ليكون عمرها عند وفاتها سنة 73هـ هو نحو 96 سنة .
وهذه هي العملية الحسابية الممكنة علميا ، بناء على جعل الروايات الثابتة (لا الضعيفة) هي منطلق الحساب . وهذا ثاني حساب ألمح إليه الإمام الذهبي عندما ذكر أن أسماء كانت أكبر من عائشة ببضع عشرة سنة ، كما في السير له (2/288) , والبضع من الثلاثة إلى التسعة .
وأعود وأكرر : لا أدري كيف يستجيز من يتبع المنهج العلمي ويدعيه أن يترك كلام عائشة عن نفسها , ويلجأ إلى حساب يصح فيه وجه يقوي كلام عائشة , وهو ما ذهب إليه الإمام الذهبي , ويصح فيه وجه يخالف كلامها رضي الله عنها , ثم يتمسك بالوجه المخالف , رغم خلافه لصاحبة الشأن ، ورغم ضعفه وعدم ثبوته ؟!
إن كان هذا هو المنهج العلمي ، فعلى العلم السلام !!
هذا كله لو صح كلام ابن أبي الزناد الذي يحدد الفرق بين سن عائشة وأسماء , وهو لا يصح ؛ لأنه لم يعاصرها ؛ ولأنه أيضا شاك في تحديده !!!
وأرجو بعد هذا البيان : أن تعرفوا الفرق بين العلم والمغالطات !
ثم سأل أحدهم : لماذا هذا الحرص على إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت تسع سنين ؟!!
فأجبته :
1-لأنها الحقيقة ، ومن لم يستطع قبول الحقيقة ، فلن يكفي عدمُ قبوله لها لتكون غير حقيقة !
2-ولأن من لم يستطع الدفاع عن النبوة إلا بتكذيب الحقائق فهو أول طاعن في النبوة ؛ لأن إثبات النبوة لن يتم إلا بالحقائق .
3-ولأن من لم تصمد دلائل النبوة عنده في وجه حقيقة عجز هو عن فهمها بما لا يُبطل دلائل النبوة ، فهو مقصر في تثبيت دلائل النبوة في قلبه ، ولذلك تزعزعت ثقته في النبوة ؛ ولا يُصحَّح هذا الخطأ بخطأ آخر : وهو إنكار الحقيقة ، بل يُصحح الخطأ : بتثبيت دلائل النبوة ؛ لتؤدي دورها في صد الشبهات الظنية التي لا يمكن أن تعارض اليقينيات .
4-ولأن العجز عن الدفاع عن النبوة إلا بإنكار حقيقة من الحقائق : سيجر إلى إنكار بقية الحقائق بالمنهج غير العلمي نفسه الذي أنُكرت به تلك الحقيقة . فمن طعن في حديث في الصحيحين بمنهج غير علمي ، بحجة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، سيجعل غيره يلزمه برد بقية أحاديثهما وبقية السنة كلها بالمنهج غير العلمي نفسه ، ولا يحق له حينئذٍ الاعتراض عليه ، وإلا اتهم بالتناقض واتباع الهوى .
وبذلك كان رد حديث واحد بمنهج غير علمي في الصحيحين ليس شيئا ممدوحا ، ولو كان بقصد الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم . بل هو شيء مذموم ، ومنهج خطير .
وهذا كله لا يعني أنه ليس هناك جواب مقنع يدفع ما يستنكره البعض من زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي بنت تسع سنين ، لكني أردت فقط بيان خطورة إنكار الحقائق بحجة الدفاع عن حقائق أخرى !!
ويمكن الجواب عن زواج النبي صبى الله عليه وسلم بعائشة وهي بنت تسع سنوات بعدة أجوبة :
ويجب في الجواب أن نفرق بين جواب المسلم وجواب الكافر :
فأما المسلم الذي لا يشك في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فستكون نبوته صلى الله عليه وسلم كافية عنده في الجواب ؛ لأنه سيقول : هذا رسول الله ، وهو سيد الأولين والآخرين ، ولا يمكن أن يقع منه أمر معيب شرعا أو طبعا ، وبيني وبين ذلك المجتمع أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، ويخفى علي كثير من حاله ، ومن تفاصيل هذا الزواج المبارك ، وفي طبيعة علاقته صلى الله عليه وسلم بزوجه عائشة أول زواجه بها ؛ فكيف أعترض بالظنون على اليقين ؟! وكيف يقع في قلبي ما يقدح في قدر النبوة مع أفضل الخلق وأكملهم وأطهرهم صلى الله عليه وسلم ؟!
والذي يشهد بأن هذا الحدث لم يكن مستنكرا في ذلك الجيل وفي الأجيال بعده :
– أن أعداء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر الناس عددا ، من الكفار الصرحاء الذين كانوا يحاربونه ، ومن أهل الكتاب يهودا ونصارى ، وكان اليهود بالمدينة ، ومن المنافقين . ومع ذلك لم يعب أحدٌ منهم رسول الله عليه وسلم بهذا الزواج ، ولا طعنوا في نبوته أو في أخلاقه به . مما يدل على أنه كان أمرا يقبله المجتمع ، ولا يُشكّل عنده أمرا مستغربا ولا حدثا يستحق التسجيل(2).
وقد حفل القرآن وروايات السنة والسيرة بذكر كثير من تهم الكفار والمشركين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبقيت كثير من أدبيات ذلك العداء في الشعر والنثر والأخبار ، فلم يكن في شيء منها ذكرٌ لزواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة رضي الله عنها .
– أن عائشة نفسها وتلامذتها وتلامذتهم والعلماء من بعدهم حكوا هذا السن ، ولا أحدث عندهم إشكالا ، ولا استوقفهم . مع أنهم لا يألون جهدا في إيراد الإشكالات العقلية والنقلية : تأييدا لها أو جوابا عليها . فما الذي جعلهم يسكتون عن هذا الاعتراض دون استشكال ؟! إلا أنه ليس استشكالا أصلا بحسب أعرافهم وأحوالهم .
ثم .. ما زلت أستغرب ممن يستنكر هذا الزواج بناء على أن له آثارًا سلبية على الزوجة الصغيرة في زمننا ، وأنه يُسبّب لها عُقدًا وأمراضًا نفسية ، وربما أمراضا جسدية أيضا ، وأن الزوجة قد تبغض زوجها بسبب ذلك ، وهذا بعض ما نشاهده اليوم غالبا من مثل هذا الزواج . ثم يقيس هذا كله على زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها ، مع كل تلك الخصوصيات في ذلك الزواج التي لا تبيح له هذا القياس :
– والتي منها أنه زواج لو لم يكن من خصوصيته إلا أنه زواج بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم لكفاه اعتقادا لوجوب سلامته من كل تلك السلبيات لزواج الصغيرات .
– والتي منها أنه زواج في مجتمع وطبيعة وبيئة تختلف صحةً وقوةً وسلامةَ غذاءٍ وهواءٍ وبناءً جسديا كل الاختلاف عن زماننا .
– والتي منها أن هذا الزواج كان أنجح زواج : فما كان أحد أحب إلى عائشة رضي الله عنها من زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد ممن بقي من أزواجه أحب إليه منها . ولا كان أحدٌ أقوى شخصية منها : علما وفصاحة وشجاعة وقيادة وكرما . وهذا كله يثبت بطلان ذلك القياس من أساسه ؛ لأنه لم يثبت لهذا الزواج أي سلبيات من سلبيات زواج الصغيرات في عصرنا ، بل ما يكاد يوجد أعظم بركة من هذا الزواج ولا خيرا ولا راحة ولا حبا ولا إيمانا ولا علما … من هذا الزواج !!
فلا أدري .. ما الذي يدعو للفضول والتطفل على علاقة بهذا الكمال والجمال بالاعتراض عليها ؟! أقل ما في الأمر : احترموا حرية وخصوصية ورأي صاحبة الشأن عائشة رضي الله عنها ، وقد كانت أسعد الناس وأشرفهم وأفخرهم وأنفعهم بهذه العلاقة الشريفة الكريمة التي لا تصبو امرأة من بنات حواء بأسعد وأشرف وأفخر وأنفع منها ، بل بما يقاربها ، في الأولين والآخرين ، من لدن آدم (عليه السلام) إلى قيام الساعة .
ولا أريد أن أذكر ما يذكره غيري : من وجود مجتمعات حتى اليوم تتزوج فيه البنات وهن بنات تسع وعشر ، وهن نساء قادرات على تحمل مسؤولية الزواج نفسيا وجسديا ، مع وجود هذه المجتمعات فعلا ؛ لأن هذه المجتمعات غالبا ما تكون مجتمعات يقل فيها العلم ، ويتم فيها الزواج بالكبيرات غير القاصرات أحيانا بطريقة لا تخلو من خلل ، فضلا عن القاصرات . فلا أريد أن أجعل من هذه المجتمعات مثالا يُـحتذى دائما ، ولا أن تكون هي الممثّلة لواقع مختلف تماما ، وحادثة لا يصح فيها القياس على غيرها كما سبق ، وهي زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها .
لكن من الممكن الاستدلال بهذا الواقع المعاصر على وجود بنت قد بلغت سن المحيض والحمل وهي بنت تسع ، وهو أمر مقطوع به ، وقد سجل العلماء منذ قرون مشاهداتهم في ذلك ، مع واقع معاصر في بعض البيئات والمجتمعات يقطع بحصوله .
هذا كله هو جواب المسلم .
أما جواب الكافر الذي يؤمن بوجود خالق ورسالات : فأرى أن نبدأ معه بدلائل النبوة وبراهين صحة الإسلام ، إن أمكن ذلك . فإن اقتنع بها ، نفعه جوابنا السابق .
فإن ضاق الوقت عن ذلك ، أو ضعفت حجة بعض المسلمين عن ذلك ، فليطلب منه أن يقبل احتمالا عقليا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي ورسول . وما دام مؤمنا بالنبوات ، لن يمتنع من قبول هذا الاحتمال تنزلا وافتراضا . فإن قبل هذا الاحتمال ، أجبه بالجواب السابق .
فإن قال لك : لكني لم أومن به بعد ؟! فقل له : هذه إذن مهمتك أن تتعرف على دلائل النبوة ، وأن لا تجعل هذه القصة حائلا دون الإيمان ؛ لأنك ربما أقررت معي أنه لو ثبتت عندك نبوته لأمكنك قبول الجواب السابق .
وأما جواب الكافر الذي لا يؤمن بوجود خالق : فلا ينفع هذا الضال شيء ، قبل إيمانه بوجود الخالق . فلا تشغل نفسك معه ، حتى يقر بوجود الرب الخالق عز وجل !!
([1]) أصل هذه المقالة نقاشات قديمة متفرقة في الفيسبوك ، أضفت إليها بعض الاستدراكات ، ورأيت نشرها مجموعة .
(2) صح عن الفقيه الثقة الحسن بن صالح بن صالح بن حي (ولد سنة مائة وتوفي سنة 169هـ) أنه قال : رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة .
وهذا يعني أنها تزوجت في نحو التسع ، وكذلك ابنتها ، وأنجبتا بعد نحو سنة من زواجهما .
وهذا يدل أن هذا العرف بقي ساريا بذلك حتى جيل أتباع التابعين .
وصح نحو ذلك عن الإمام الشافعي .
وقال الإمام الشافعي في الأم : ((وأعجل من سمعت به من النساء حضن : نساء تهامة ، يحضن لتسع سنين)) .
وأغرب من ذلك في الرجال : لم يكن بين عبد الله بن عمرو بن العاص وأبيه إلا إحدى عشرة سنة ، أي إن عمرو بن العاص تزوج في العاشرة وهو بالغ ، ورزق ولده عبدالله وهو في الحادية عشرة .
فإن كان عمرو بن العاص قد تزوج وله من العمر نحو عشرة أعوام ، فكم كان عمر زوجه غالبا .
وإذا كان من المعهود زواج الذكر وهو ابن عشر في ذلك الجيل ، وإذا كان في نضجه وهو بذلك العمر يمكن أن ينجب ، فكيف بالمرأة التي هي أسرع نضوجا من الذكر في العادة الجارية .