الرئيسية / شبهات وردود / شبهات حول الإسناد والمتن / اعتداد الأصوليين بمنهج المحدثين في نقد الحديث

اعتداد الأصوليين بمنهج المحدثين في نقد الحديث

بين أصول الفقه والحديث

من المعلوم بالضرورة أن علم الأصول وعلم الحديث أصلان متداخلان بمثابة شيء واحد لا يتجزأ، وعلاقتهما تكاملية ومترابطة متشابكة يأخذ بعض من بعض، “الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب”[1] وهذا أمر بين واضح لا ينكره أحد ولا يرده أحد.

وانظر إلى الأعمش – إمام أئمة المحدثين- يسأل أبا حنيفة عن مسائل فقهية، فيقول: يا نعمان قل فيها ويجيبه أبو حنيفة.[2]

ولما قيل لشعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث: مات أبو حنيفة قال:” لقد ذهب معه فقه الكوفة تفضل الله عليه وعلينا برحمته”.[3]

عن سفيان الثوري – سيد المحدثين – قوله: «كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه».[4]

وإذا جاء ابن عيينة – وهو أحد أركان أئمة الحديث –  شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا.[5]  وذلك لأن لشافعي هو الذي لفت نظر المحدثين إلى القانون الكلّي في مناهج الاستنباط والاستدلال من خلال كتابه “الرسالة” الذى ألفه استجابة لطلب عبد الرحمن بن مهدى المحدث الجهبذ.

وهكذا ديندن أهل العلم بالحديث في الاستنجاد بأهل العلم بالفقه وأصوله في مجالهم، اعترافا لهم بالفضل في سبيلهم، ومن ثم اشتهرت مقولتهم: ” الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة “[6] فميزان أهل الحديث ميزان تصحيح المنقول وميزان الفقهاء ميزان تقويم المعقول وهما ركنا الشرع.

علم الحديث وُعُورَة المرتقى

صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة كما قال الإمام مسلم رحمه الله.[7]

وعلم الحديث يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له، والاعتناء به، ولا يعجب بصناعته إلا ذكور الرجال ويكرهه مؤنثهم،[8] وأما الفحول – ذكور الرجال – فهم “الذين آثروا قَطْع المفاوز والقِفار، على التنعم في الديار والأوطان في طلب السنن في الأمصار، وجمعها بالوجل والأسفار، والدوران في جميع الأقطار، حتى إن أحدهم ليرحل في الحديث الواحد الفراسخ البعيدة، وفي الكلمة الواحدة الأيام الكثيرة، لئلا يُدخِل مضلٌّ في السنن شيئاً يُضلُّ به، وإن فعل فهم الذابّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكذب والقائمون بنصرة الدين”.[9] والجهابذة أولو الأبصار بأخفى العلل.

وهذا الفن فن غيور يرفض التشريك ولا يأذن لتخصص آخر يزاحمه، لعزة مناله ودقة مسالكه وشدة عمقه وأسراره، وقد عبر الإمام شعبة عن تلك الحقيقة قائلا لأصحاب الحديث:” يا قوم! إنكم كلما تقدمتم في الحديث، تأخرتم في القرآن”.[10]

يقول الخطيب واصفا لحال دراس الحديث:” أن يعاني علم الحديث دونما سواه لأنه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يضم غيره من العلوم إليه”[11]. ولا يعني هذا الكلام هجر سائر العلوم هجرا، وإنما المراد عدم الولوج إلى غوامضها بنفس عمق التخصص الحديثي.

مر الشافعي بيوسف بن عمرو بن يزيد -من كبار فقهاء المالكية- وهو يذكر شيئاً من الحديث، فقال:” يا يوسف، تريد أن تحفظ الحديث وتحفظ الفقه هيهات”.[12] وهذا التنبيه من الإمام يدل على الملحظ المذكور.

ولذا اشتهر التواصي بين علماء الحديث بالصبر على وعورة المسير وصعوبة المنال وطول الفحص والنظر مع قلة السالكين، ومن ذلكم قول الإمام البخاري: فاصبروا يا أصحاب السنن رحمكم الله، فإنكم أقل الناس.[13]

رجوع الفقهاء والأصوليين إلى المحدثين في نقد السنة

قال الفقهاء: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”[14]، ومفادها – بلسان الحال – الوصايا بالرجوع والتعويل على أحكام أهل الحديث النقدية للأخبار، وأنهم عمدة الباب فالقول قولهم بلا منازعة.

وقد أشار الإمام الشافعى إلى حتمية الأخذ بنقد المحدثين معللا لذلك قائلا:” فهم وضعوا موضع الأمانة، ونصبوا أعلاماً للدين وكانوا عالمين بما ألزمهم الله من الصدق فى كل امر”.[15]

وكان أبو حنيفة – إمام ومؤسس مذهب الحنفية الكبير- يلقى سفيان الثوري أستاذ النقاد، ويسأله عن أشياء من الآثار المنقولة ثقةً به.

يقول إبراهيم بن طهمان:” أتيت المدينة فكتبت بها ثم قدمت الكوفة فأتيت أبا حنيفة في بيته فسلمت عليه فقال لي: عمن كتبت هناك؟ فسميت له، فقال: هل كتبت عن مالك بن أنس شيئا؟ فقلت: نعم، فقال: جئني بما كتبت عنه، فأتيته به، فدعا بقرطاس ودواة فجعلت أملي عليه وهو يكتب.
قال ابن أبي حاتم: ما كتب أبو حنيفة عن إبراهيم بن طهمان عن مالك بن أنس ومالك بن أنس شي إلا وقد رضيه ووثقه، ولا سيما إذ  قصد من بين جميع من كتب عنه بالمدينة مالك بن أنس، وسأله أن يملي عليه حديثه فقد جعله إماما لنفسه ولغيره”[16]

وهذا ناصر السنة؛ الإمام الشافعى مع إمامته قد جعل مرجعه في صحة الحديث ورده إلى منهج المحدثين النقدي، وقدم الطلب العام من الحذاق بإفادته صحيح السنة كي يقول بها، وكان يقول:” أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا”.[17]

وفي مواضيع كثيرة في كتبه يمر بالأحاديث تاركا العهدة فيها على المحدثين مكتفيا بقوله:” هذا حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به هذا” ويردد نحو تلك العبارة – نفيا أو إثباتا – مسلما لأحكام أئمة الشأن.

بل تجد الإمام عندما يختلف مع مخالفه في الأخبار أثناء المناظرة فإنه يحاكمه إلى أهل الصنعة، ولا تشمئز منه نفس المخالف، لأنه محل الاتفاق بين الجميع على أنهم المرجعية المغنية.

ومن صور ذلك ما سجله في “الأم” بقوله – محل الشاهد-: « وكلمني بعض من يذهب هذا المذهب وبحضرتنا جماعة من أهل العلم بالحديث، فسألناهم عن هذا الحديث فما علمت واحدا منهم سكت عن أن قال: هذا خطأ، والذي روى هذا ليس ممن يثبت أهل العلم حديثه، فقلت له: قد سمعت ما قال هؤلاء الذين لا شك في علمهم بحديثك»[18]

ومن هذا تدرك أنه لا يوجد مخالف للإمام الشافعى فى هذا الهدي، وإن كان هو أكثر من ينادي به جهرا.

وقد نقل ابن أبى حاتم إجماع شهادة العلماء[19] على الاعتداد بمنهج أهل الحديث في السنة النبوية جرحا وتعديلا تصحيحا وتضعيفا ولا اعتداد بقول غيرهم.

ثم تقررت في بطون كثير من كتب الأصول أن من شروط المجتهد “معرفة حال الرواة في القوة والضعف، ليميز المقبول من المردود، ويعول في ذلك على قول أئمة الحديث كأحمد والبخاري ومسلم والدارقطني وأبي داود ونحوه؛ لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم كما نأخذ بقول المقومين في القيم.”[20]

ولما هفا أبو زيد الدبوسي هفوة وتجاسر على الفن بدخوله في التقعيدات الحديثية الدخيلة على أهلها، قام أبو المظفر السمعانى بواجب النصيحة كي لا يصبح نقد السنة فريسة لغير أهله، فرد عليه رد المشفق على جناب التخصص العلمي قائلا فيه:”والعجب من هذا الرجل أنه جعل هذا الباب -باب نقد الأحاديث- ومتى سلم له ولأمثاله بنقد الأحاديث؟… وهذه صنعة كبيرة وفن عظيم من العلم وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: “لا تنازعوا الأمر أهله” وإن كان ( يعني الدبوسي) قد أعطى حظا من الغوص فى معانى الفقه على طريقة اختارها لنفسه ولكن لم يكن من رجال صنعة الحديث ونقد الرجال…وقد اتفق أهل الحديث أن نقد الأحاديث مقصور على قوم مخصوصين فما قبلوه فهو المقبول وما ردوه فهو المردود، … وهم المرجوع إليهم فى هذا الفن وإليهم انتهت رئاسة العلم فى هذا النوع فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه وقدر بضاعته من العلم فيطلب الربح على قدره.[21]

قف طويلا متأملا في هذا النقل النوراني – ونظائره كثيرة- ومع النصيحة المنطلقة من إحساس أمانة حراسة العلم وتصويب من يتصدر الكلام في غير فنه حتى لا يؤدي ذلك إلى انهيار بنيان العلم، وتحطيم الجهود المبذولة من أهله، وإنه لإحساس شريف جار على قاعدة: كل علم يؤخذ مسلم من أهله سدا للذريعة.

ثم قف على جادة التأسف ومرارة التحسر على أحوال الحداثيين البعيدين كل البعد عن صف أبي زيد الدبوسى رحمه الله علما وفقها، وربما ليست لهم صلة بعلم الحديث لا من قريب ولا بالعلم الشرعي أصلا، ولكن أبت نفوسهم إلا أن تتوق إلى نقد الحديث النبوي تحت ذريعة تنقيح كتب السنة من الأخبار السقيمة على المشرب الفكري الاستشراقي والعقلاني، فضربوا صفحا عن منهج المحدثين النقدي وكأنه سراب محض، وتولوا كبر الطعن في نقاد الحديث حتى سموهم عبيد الأسانيد لا بضاعة لهم في نقد المتون، تشكيكا في صنعتهم وخدمتهم للسنة النبوية ولكن دون ذلك خرد القتاد.

فإن الحديث النبوي – سندا ومتنا – محروس بعناية فائقة من الزيادة والنقصان منذ عهد الصحابة الكرام .. من الصدور إلى السطور، ولم يزل محاطا بما يكفل له النقاء والبقاء من خلال منهج النقد الحديثي الفريد في تاريخ البشر أجمع، وهذا واضح كالصبح لذي عينين، ولذا انعقد إجماع الفقهاء والأصوليين على الرضا التام بمنهج المحدثين النقدي في التصحيح والتضعيف، بل لا يعرف من أهل الإسلام من استقل بمنهج نقدي آخر في تمييز صحة الخبر من سقمه، وإنما الجميع سلموا ذلك لأهل التخصص تسليما مصحوبا بالرضا وحسن التقدير لعجيب منهجهم في النقد الواضح.


[1] – معالم السنن شرح سنن أبي داود للخطابى 1/3
[2] – ينظر: نصيحة أهل الحديث للخطيب البغدادى. ص:45
[3] – الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص: 126
[4] – الفقيه والمتفقه 2|73
[5] – الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص: 70
[6] – مروي عن الأعمش والإمام أحمد، ينظر: نصيحة أهل الحديث للخطيب البغدادى. ص:44 وتاريخ دمشق لابن عساكر 51/334
[7] – التمييز لمسلم، ص: 218
[8] – ينظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 2/255 – 1/179
[9] – المجروحين لابن حبان 1/31
[10] – سير أعلام النبلاء 6/616
[11] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. رقم: 1569
[12] – المصدر السابق. وينظر أيضا: نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية لحاتم الشريف العوني. ص:24
[13] – المصدر رقم:90
[14] – عبارة منسوبة للإمام أبى حنيفة وللإمام الشافعى، وردت في حاشية ابن عابدين 1/ 63 والمجموع 1/ 63وغيرهما.
[15] – الرسالة. ص:390
[16] – الجرح والتعديل لابن أبى حاتم 1/4
[17] – المصدر السابق 1/462
[18] – الأم للشافعى 6/181
[19] – ينظر: تقدمة الجرح والتعديل لابن أبى حاتم 2/3
[20] – تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي 4/572
[21] – قواطع الأدلة في الأصول 1/369

عن الإدارة

شاهد أيضاً

❞ كتاب اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم ❝

اترك تعليقاً