حديث: «إذا هلك قيصر فلا قيصر» بيان ورفع إشكال
مقدمة:
كثيرةٌ هي دلائل نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها إخباره بما سيكون في المستقبل من الغيوب، فتحقَّق بعض ذلك على ما أخبر به في حياته وبعد موته؛ كالإخبار عن انتشار أمره، وافتتاح الأمصار والبلدان الممصَّرة كالكوفة والبصرة وبغداد على أمته، والفتن الكائنة بعده، وغير ذلك مما أخبر به، ورآه الناس عيانًا، وبعضها لم يتحقَّق، والمؤمن في انتظار تحقُّقه ووقوعه كما أخبر، ولكن بعض الناس يستعجلون، أو يسيئون في فهم بعض كلامه صلى الله عليه وسلم، ويحملونه على غير وجهه، فيستشكلون بعضه، ويردُّون بعضه.
ولا يستنكر وقوع الإشكال في معاني بعضِ الحديث النبويّ على بعض الناس؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “قد يشكِل على كثير من الناس نصوصٌ لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم؛ لعجز فهمهم عن معانيها”([1])، وإنما يُستَنكَر التجرُّؤ والتعسُّف في رد الأحاديث الصحيحة، ومن ذلك ما فعله بعض المعاصرين من ردِّ حديث: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده»([2])، وفي هذه المقالة مناقشة ذلك بما يرفع الإشكال، ويزيل الالتباس، والله تعالى من وراء القصد.
نصّ الحديث:
قد جاء هذا الحديث من عدَّة طرق صحيحة عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، واختصارًا -بما يناسب المقام- سيتمّ الاقتصار على أصحِّها، وهما روايتان: رواية جابر بن سمرة، ورواية أبي هريرة رضي الله عنهما.
فعن جابر بن سمرة وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله»([3]).
وفي رواية عن أبي هريرة مرفوعًا: «هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكنّ، ثم لا يكون قيصر بعده…»([4]).
درجة الحديث:
هذا الحديث في أعلى درجات الصحَّة؛ فقد رواه إماما الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما اللَّذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وتلقَّتهما الأمَّة بالقبول، ولم يطعن فيه أحد من أئمَّة هذا الشأن، بل عدُّوه من الدلائل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم([5])، وكان من فقه الإمام البخاريّ إخراجه للحديث تحت ترجمة: “باب علامات النبوة في الإسلام”([6]).
شرح الحديث:
المعنى الإجمالي: في هذا الحديث إخبارٌ منه صلى الله عليه وسلم ببعض الأمور المغيَّبة، المؤيَّدة بما جاء به القرآن الكريم من إظهار دين الإسلام على سائر الأديان؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه بأنه إذا هلك كسرى فلا يأتي كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا يأتي قيصر بعده، ثم أقسم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن الله تعالى سيمكِّن للمسلمين من كنوزهما، فينفقونها في سبيل الله تعالى.
يقول الوزير ابن هبيرة: “هذا من الدلائل على صحَّة نبوَّة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أخبر بما سيكون، فكان على ما أخبر، وأن الله تعالى مزَّق ملك كسرى وقيصر، وغلب المسلمون الحِزبَين، وأنفقوا كنوزهما في سبيل الله، وهذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب، وهو من أعظم دلائله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جمع بين أمرين عظيمين يعجز عنهما قدرة كل بشر، ويضيق بهما ذرع كلّ مخلوق، وهو أنه أشار إلى مهلِك كِسرى وقَيصر، وهما ملكَا الخافقين من المشرق والمغرب في قوَّة جنودهما، وتضاعف عساكرهما”([7]).
المعنى التفصيليّ: لفظ كسرى -بفتح الكاف وكسرها- لا يُراد به ملك معيَّن من ملوك الفرس، وإنما هو لقب ملوك الفرس، فكلّ من ملك على الفرس يقال له: كسرى([8])، كما أن قيصر هو لقب من يملك الروم([9])، وليس هو اسم ملك من ملوكها، وإذا تبين هذا انحلَّت بعض الإشكالات الواردة حول الحديث، ويكون المعنى: إذا هلك كسرى فلا يكون بعده كسرى في الاسم، وإذا هلك قيصر فلا يكون بعده قيصر في الاسم، أي: لا يتسمَّى ملكهم بعد هلاك آخر قيصر منهم بالقيصر، ولا يعني هذا بحال فناء ملكهم بالكلِّيَّة.
سبب ورود الحديث:
مما لا شكَّ فيه أن معرفة سبب ورود الحديث مما يعين على فهمه فهمًا صحيحًا، ويدفع به ما يستشكل من بعض ألفاظه، وقد استفاضَ الإمام الشافعي رحمه الله في بيان ذلك؛ فذكر أن قريشًا كانت تنتاب الشامَ انتيابًا كثيرًا مع معايشها منه، وتأتي العراق، فلما دخلت قريش في الإسلام ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم خوفها من انقطاع تعايشها بالتجارة من الشام والعراق إذا فارقت الكفر ودخَلت في الإسلام، مع خلاف ملك الشام والعراق لأهل الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده»، فلم يكن بأرض العراق كسرى بعده، بمعنى: لم يثبت له أمر بعده، وقال صلى الله عليه وسلم: «وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده»، فلم يكن بأرض الشام قيصر بعده، وأجابهم على ما قالوا له، وكان كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس، وقيصر ومن قام بالأمر بعده عن الشام([10]).
فأفاد الإمام الشافعي أن المرادَ بالحديث هو: أن الله تعالى قطع دابر كسرى وملكهم عن العراق وفارس، ثم لم يبق للأكاسرة ملك، كما قطع دابر قيصر والروم عن الشام، وبقي لهم ملك إلى حين.
وهذا الذي قاله الشافعيّ معنى صحيح، لا ينافي ألفاظ الحديث، ويؤكِّده ما أخرجه أبو عبيد من مرسل عُمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كِسرى وقَيصر، فأمَّا كسرى فلمَّا قرأ الكتاب مزَّقه، وأمَّا قَيصر فلمَّا قرأ الكتاب طواه ثم وضعه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما هؤلاء -يعني: كسرى- فيمزَّقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية»([11])، ويؤيد ذلك أمران:
الأمر الأول: ما رواه الإمام البخاري عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كِسرى، فلمَّا قرأه مزَّقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن يمزَّقوا كلَّ ممزَّق»([12])، قال الحافظ ابن حجر: “وأجاب الله تعالى هذه الدعوة، فسلط شِيرَوَيْه على والده كِسرى أبْرَوَيْز -الذي مزَّق الكتاب-، فقتله وملك بعده، فلم يبق إلا يسيرًا حتى مات، والقصة مشهورة”([13]).
الأمر الثاني: قال الشافعي: “وحفظنا أن قيصر أكرم كتابَ النبي صلى الله عليه وسلم ووضعه في مسك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يثبت ملكه»… فثبت له ملك ببلاد الروم إلى اليوم([14])، وتنحى ملكه عن الشام، وكل هذا أمر يصدق بعضه بعضًا”([15]).
وقد انتصر لهذا القول الإمام النووي؛ فقال: “قال الشافعيّ وسائر العلماء: معناه: لا يكون كِسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، كما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، فأعلمنا صلى الله عليه وسلم بانقطاع ملكهما في هذين الإقليمين، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فأمَّا كسرى فانقطع ملكه، وزال بالكلية من جميع الأرض، وتمزَّق ملكه كلَّ ممزَّق، واضمحلَّ بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمَّا قيصر فانهزم من الشام، ودخل أقاصي بلاده، فافتتح المسلمون بلادهما، واستقرت للمسلمين -ولله الحمد-، وأنفق المسلمون كنوزهما في سبيل الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزات ظاهرة”([16]).
وللعلماء في معنى الحديث قولٌ آخر: وهو ما قاله الشيخ أحمد بن أبي عمران -شيخ الطحاويّ- حيث ذكر أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» أنه قد هلك كسرى، كما أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيهلك، فلم يكن بعده كسرى، ولا يكون بعده كسرى إلى يوم القيامة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده»: إعلام منه صلى الله عليه وسلم إياهم أنه سيهلك، ولم يهلك إلى الآن([17])، ولكنه هالك قبل يوم القيامة، وخولف بينه وبين كسرى في تعجيل هلاك كسرى وتأخير هلاك قيصر؛ لاختلاف ما كان منهما عند ورود كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل واحد منهما([18]).
وهذا المعنى هو الذي رجَّحه الطحاوي؛ فقال: “وكان هذا التأويل عندنا أشبه من الأول؛ لأن في التأويل الأول ذكر هلاك قيصر، ولم يهلك، إنما كان منه تحوله بملكه من الشام إلى الموضع الذي هو مقيم به الآن”([19])، ثم دلّل على كلامه بعدة أمور([20])، وهي على سبيل الإجمال:
الدليل الأول: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله»، فقد أنفق كنز كسرى في ذلك، ولم ينفق كنز قيصر في مثله إلى الآن، ولكنه سينفق في المستأنف في مثل ذلك؛ لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما هو عن الله تعالى، ولا يخلف الميعاد.
الدليل الثاني: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هلاك قيصر؛ فقد روى الإمام مسلم -في حديث طويل- عن جابر بن سمرة، عن نافع بن عتبة، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله»، قال: فقال نافع: يا جابر، لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم([21]). فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فتح الروم المقرون بفتح كسرى لم يكن، وأنه كائن، وأن كونه إذا كان ككون فتح كسرى الذي قد كان.
الدليل الثالث: إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، فقد ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمران بيت المقدس خرابُ يثرب، وخراب يثرب خروجُ الملحمة، وخروج الملحمة فتح قسطنطينية([22])، وفتح القسطنطينية خروج الدجال»، ثم ضرب بيده على فخذ الذي حدثه -أو: منكبه- ثم قال: «إن هذا لحقّ كما أنك ها هنا» أو: «كما أنك قاعد»، يعني: معاذ بن جبل([23]).
فأخبرنا صلى الله عليه وسلم بالمعنى الذي يكون عنده هلاك قيصر، حتى يكون هلاكه هلاك كسرى الذي قد كان، فلا يكون بعده قيصر إلى يوم القيامة، كما لا يكون بعد كِسرى كِسرى إلى يوم القيامة، وتكون البلدان كلها خالية من كل واحد منهما، وتكون كنوزهما قد صرفت إلى ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفق فيه.
رد إشكال المنافاة بين بعض ألفاظ الحديث:
لا منافاة بين ألفاظ الحديث؛ حيث جاء في بعض رواياته: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده»، وفي بعضها: «هلك كسرى»؛ والجمع بين اللفظين ممكن؛ وذلك بأن يحمل قوله: «هلك كسرى» على تحقّق وقوع ذلك، حتى عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان لم يقع بعدُ؛ للمبالغة في ذلك، وقد جاء مثل ذلك في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، قال الحافظ ابن حجر: “وهذا الجمع أولى؛ لأن مخرج الروايتين متحدٌ، فحمله على التعدد على خلاف الأصل، فلا يصار إليه مع إمكان هذا الجمع”([24]).
إشكال بقاء ملك فارس والروم بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم:
أشكل هذا الحديث على من سمع أن كسرى لما قتل ملك ولده، ثم ملك بعده جماعة، وكذلك قيصر، فقد بقيت مملكة الفرس بعد ذلك إلى أن قتل آخرهم في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما بقيت مملكة الروم بعد ذلك بمدة طويلة([25]).
الجواب عن هذا الإشكال:
مبنى هذا الإشكال على تنزيل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى» على هلاك ملك فارس، وقد تحقق هذا بفضل الله تعالى، حيث قطع الله دابره، وأنفقت كنوزه في سبيل الله، وأورث الله المسلمين أرضه ودياره، والحمد لله رب العالمين([26]).
وتنزيل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر» على هلاك ملك الروم، وللعلماء أجوبة صحيحة على هذا:
الجواب الأول: أن المعنى: إذا هلك كسرى وقيصر فلا يكون بعدهما مثلهما، وهذا الجواب هو الذي ارتضاه القاضي ابن العربي المالكي في “عارضة الأحوذي”، وقال عقبه: “وكذلك كان، وهذا أعم وأتم”([27])، وقد أجاب ابن الجوزي بنحوه فقال: “والذي يزيل الإشكال أن كسرى وقيصر كانا في ملك ثابت، فلما زالا تزلزل ملكهما، وما زال إلى انمحاق وانقراض، وما خلفهما مثلهما، وهذا كما يقال للمريض: هذا ميت، والمعنى: أنه قريب من الموت، وأن أحواله تحمله إليه”([28]).
الجواب الثاني: أن المراد: لا يبقى ملك كسرى بالعراق، ولا يبقى ملك قيصر بالشام([29])، وهو ما أجاب به الإمام الشافعي ومن وافقه، يقول الإمام البيهقي: “وإنما أراد هلاك قيصر الذي كان ملك الشام، وتنحية ملك الأقاصرة عنها، فصدَّق الله تعالى قول رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحى عن الشام ملك الأقاصرة، ونحى عن الدنيا ملك الأكاسرة، وبقي للأقاصرة ملك بالروم لقوله: «ثبت ملكه» حين أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن يقضي الله تعالى فتح القسطنطينية، ولم يبق للأكاسرة ملك لقوله: «تمزَّق ملكه» حين مزَّق كتابه”([30]).
شبهة بقاء ملك الروم بعد ذلك بعدة قرون:
أقر بعضهم بصحة الحديث فيما يخصّ ملك فارس، حيث هلكت تمامًا ولم يعد لها ملك يذكر، بينما ضعَّفوا هذا فيما يخصّ الروم، فإن مملكتها بقيت بعد ذلك بعدة قرون، وجاء بعد قيصر هذا -الذي في الحديث- قرابة تسعة وستين قيصرًا([31]).
الجواب عن تلك الشبهة:
أولًا: هذه الشبهة قديمة، وقد أشار إليها العلماء في مصنفاتهم([32])، ولو كلف هؤلاء المعاصرون أنفسهم الرجوع إلى كلام أهل العلم في ردها لتبين لهم وجه الصواب في الحديث، وأن هذا الفهم الذي فهموه من الحديث غير صحيح.
ثانيًا: قد تعدَّدت أجوبة العلماء عن هذا الإشكال، ويمكن إجمالها فيما يأتي:
الجواب الأول: أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده» إعلامًا منه صلى الله عليه وسلم بهلاك قيصر وملكه قبل يوم القيامة، وقد سبق التدليل على هذا القول ضمن كلام الإمام الطحاوي.
الجواب الثاني: ما مكَّن الله تعالى به للإسلام من فتح الأمصار وإعلاء كلمة الله تعالى، بحيث صار الاسم مفرَّغًا عن معناه؛ وقد أجاب بهذا أبو الوفاء بن عقيل فقال: “كانت العرب بين هذين الملكين كالكرة يلعبان بهم، ويحملون إليهما الهدايا، فلما جاء الإسلام صارت كلمة العرب العليا، فلا كسرى ولا قيصر من حيث المعنى، إنما هو اسم فارغ من المعنى”([33]).
الجواب الثالث: انقراض اسم قيصر، حيث لم يعد له بقاء؛ لأن ملوك الروم لا يسمون الآن بالأقاصرة، وذهب ذلك الاسم عن ملكهم، فصدق أنه لا قيصر بعد ذلك الأول، وظهر بذلك أن قوله: «لا كسرى» على ظاهره مطلقًا، وبهذا أجاب الحافظ العراقي([34]).
الجواب الرابع: أنه لا وجود لملك قيصر في الشام، وقد تقدَّم بيان هذا من أقوال الإمام الشافعي ومن وافقه؛ يقول الإمام الخطابي: “وأما قيصر -هو صاحب ملك الروم- فقد كانت الشام بحياله، وكان بها مشتاه ومربعه، وبها بيت المقدس، وهو الموضع الذي لا يتمّ نسك النصارى إلا فيه، ولا يملك على الروم أحد من ملوكهم حتى يكون قد دخله سرًّا أو جهرًا، وكانت الشام متجر قريش وممتارها، وكان معظم عناية المسلمين من حملة مملكته بها، وقد أجلي عنها، واستبيحت خزائنه وأمواله التي كانت فيها، ولم يخلفه أحد من القياصرة بعده إلى أن ينجز الله تمام وعده في فتح قسطنطينة آخر الزمان، فقد وردت الأخبار عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وسينجز الله وعده، ولا قوة إلا به”([35]).
والله تعالى أسأل أن ينجز وعدَه للمؤمنين، وتقرّ أعينهم بنصرة دينه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (17/ 307).
([2]) ومنهم د. عدنان إبراهيم، ودونك طرفًا من كلامه في هذا المقطع:
https://www.youtube.com/watch?v=jYVNIEVm8UA
([3]) أخرجه البخاري (3121)، ومسلم (2919/ 77)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري (3120)، ومسلم (2918/ 75)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
([4]) أخرجه البخاري (3027)، ومسلم (2918/ 76).
([5]) ينظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 543)، دلائل النبوة للبيهقي (4/ 393)، دلائل النبوة لإسماعيل الأصبهاني (ص: 91).
([7]) الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 51-53).
([8]) ينظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (4/ 173)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 33).
([9]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 173).
([10]) ينظر: الأم للشافعي (4/ 181).
([11]) أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص: 31).
([14]) والمعنى: إلى وقت الإمام الشافعي.
([16]) شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 42-43).
([17]) يعني: إلى وقته آنذاك، وهو من علماء القرن الرابع الهجري.
([18]) ينظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي (1/ 446).
([19]) شرح مشكل الآثار (1/ 448). ويعني به: زمنه في القرن الرابع الهجري.
([20]) ينظر: شرح مشكل الآثار (1/ 448-451).
([22]) قد من الله تعالى على المسلمين بفتحها في سنة 1453م، على يد السلطان محمد الفاتح.
([23]) أخرجه أبو داود (4294)، وأحمد (22023)، وصحح إسناده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 204).
([25]) ينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (1/ 449)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 625).
([26]) ينظر: أعلام الحديث للخطابي (2/ 1447).
([27]) ينظر: طرح التثريب في شرح التقريب لزين الدين العراقي وابنه (7/ 253).
([28]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 449).
([29]) ينظر: فتح الباري (6/ 625).
([31]) هذا بعض كلام د. عدنان إبراهيم، ودونك كلامه في هذا المقطع:
https://www.youtube.com/watch?v=jYVNIEVm8UA
([32]) ينظر: كشف المشكل (1/ 449)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 625-626).
([33]) ينظر: كشف المشكل (1/ 449).
([34]) طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 253).
([35]) أعلام الحديث (2/ 1447-1448).
المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات