الرئيسية / شبهات وردود / الشبهات المتعلقة بأحاديث معينة. / تكوير الشمس والقمر في النار يوم القيامة / حديث: «الشمسُ والقمَر مكوَّران في النَّار يومَ القيامة» تفسيرٌ ورفعُ إشكال

حديث: «الشمسُ والقمَر مكوَّران في النَّار يومَ القيامة» تفسيرٌ ورفعُ إشكال

حديث: «الشمسُ والقمَر مكوَّران في النَّار يومَ القيامة» تفسيرٌ ورفعُ إشكال

تكذيبُ حديثٍ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقلُّ خطرًا عنِ الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقُله، وأهل العلم “لا يجيزون مخالفةَ حديث تبيَّن إمكان صحَّته، ثم ثبت صحَّة إسناده، ولم يعلم ما يقدح فيه أو يعارضه”([1])، وقد أفرط العقلانيون في ردّ الأحاديث الثابتة بالأهواءِ والمزاعم الباطلة، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن جعلَ بعضَ الأحاديث الصحيحة موضوعةً مكذوبة بمجرَّد التخييلات والدّعاوى الخالية عن الدليل.

ومنَ الأمثلة على هذا الأمر: ما ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «الشمسُ والقمر مكوَّران في النار يوم القيامة»؛ حيث ادَّعى بعضُهم أنه من كلام كَعب الأحبار، وأن أبا هريرة رضي الله عنه قد أخَذه عنه وجعَله حديثًا مرفوعًا، فيقول: “ومما يدلُّك على أنَّ هذا الحبر الداهية [يعني: كعب الأحبار] قد طوى أبا هريرة تحت جناحه، حتى جعله يردِّد كلام هذا الكاهن بالنصّ، ويجعله حديثًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم”([2]).

وفيما يلي بيان وجه الصوابِ في هذا الحديث، ورفع الإشكالات التي أثيرت حوله.

نص الحديث:

روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشمسُ والقمر مكوَّران يومَ القيامة»([3]).

زاد البزار في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمسَ والقمَر ثوران في النارِ يومَ القيامة»، فقال له الحسن: وما ذنبهما؟! فقال: أحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول -أحسبه قال-: وما ذنبهما؟!([4]).

ونحوه في رواية الطحاوي والخطابي: «إن الشمسَ والقمر ثوران مكوَّران في النار يوم القيامة»([5]).

قال الشيخ المعلمي اليماني: “وظاهرُ ما في (فتح الباري) أو صريحُه: أنَّ الذي في رواية البزار والإسماعيليّ والخطابي: «مكوَّران» كرواية البخاري، لا «ثوران»“([6])، ثم قال في هامشه: “ثم وجدتُ بعضهم نقل رواية البزار بلفظ «ثوران مكوَّران» جمع بين الكلمتين”.

وللحديث رواية أخرَى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار»([7])، لكنها رواية ضعيفة؛ ففيها دُرست بن زياد عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان([8]).

درجة الحديث:

الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد رواه الإمام البخاري في صحيحه، الذي هو أصحُّ الكتب بعد كتاب الله تعالى.

وكذا زيادة قوله صلى الله عليه وسلم: «في النار» -الثابتة في رواية البزار والطحاوي والخطابي- فقد صحَّحها الشيخ الألباني، وقال عقب ذكره لرواية الطحاوي: “وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري، وقد أخرجه في صحيحه مختصرًا”([9]).

الردُّ على شبهة أخذ أبي هريرة هذا الحديث من كعب الأحبار:

تقدَّم معنا في الفقرة السابقة بيان صحَّة السند لهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ذكر بعضهم إلى أن كعب الأحبار قد جاء عنه مثل ما رواه أبو هريرة فقال: “يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران، فيقذفان في جهنم ليراهما من عبدهما، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]”([10]).

وهذا الأثر ضعيفٌ لا يثبت عن كعب الأحبار؛ إذ هو من رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم، وهو “مشهور بالكذب ووضع الحديث”([11])؛ يقول المعلمي: “ولم يثبت عن كعب شيء، ولو ثبت لكان المعقول أنه هو الآخذ ذلك عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة”([12]).

وبناءً عليه فإنَّ ادعاء بعضهم بأن أبا هريرة قد أخذ الحديث عن كعب الأحبار([13]) هو قلب للحقائق وتزييفٌ لها، والحديث الصحيح لا يُترك ولا يطعن فيه بالادعاءات والمزاعم.

أضف إلى هذا: أن الحديث الصحيح عن أبي هريرة موافق لما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وفيما يلي بيان ذلك:

  • فأما رواية الإمام البخاري في صحيحه فقد جاء معناها في قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7-9]، وتكوير الشمس والقمر بمعنى جمعهما.
  • وأما زيادة قوله صلى الله عليه وسلم: «في النار» فيشهَد لها ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة:

فأما القرآن: فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].

وأما السنة: فيؤيِّده ما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أذَّن مؤذن: ليتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار»([14]).

كما يؤكِّده أيضًا ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمرَ القمرَ، ويتبع من كان يعبُد الطواغيتَ الطواغيتَ»([15]).

شرح الحديث:

في هذا الحديث الجليل يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر غيبيٍّ لا يدرَك بالعقول، ولا تنازعه الأهواء، وواجبُ المؤمن فيه التصديق والإذعان والتسليم؛ فإن الإيمان بالغيب محكٌّ عظيم لبيان صدق الإيمان وصلابته؛ فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشمس والقمر يؤتى بهما يوم القيامة فيكوَّران أي: يجمعان ويلفَّان، كما قال أهل التفسير في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]، قالوا: جمع ضَوؤها، ولُفَّت كما تلفّ العمامة، يقال: كُرتُ العمامةَ على رأسي أَكُورُها كَورًا، وكوَّرتها تكويرًا: إذا لففتها([16]).

وكما قال الله عز وجل: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5]، أي: يُدخل هذا على هذا، أو: “يغشي هذا هذا، ويغشي هذا هذا”([17]).

وللعلماء في تفسير تكوير الشمس والقمر في الحديث قولٌ آخر؛ وهو أنه يحتمل أن يكون من قولهم: طعنه فكوَّره، أي: ألقاه، والمعنى: أنهما يُلقَيان من فلكهما([18])، وقد جاء في هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2]، أي: سقطت من مواضعها([19])، يقول التوربشتي: “وهذا التفسير أشبه بنسَق الحديث؛ لما في بعض طرقه: «يكوران في النار»“([20]).

وأما لفظة: «ثوران» فإنها من قبيل تمثيل المعاني يومَ القيامة، كما يمثل الموت بصورة كبش، وغير ذلك، ومن الحكمة في تمثيل الشمس والقمر أنّ عُبّادهما يعتقدون لهما الحياة، والمشهور بعبادة الناس له من الحيوان العجل، فمُثِّلا من جنسه([21]).

وما جاء في رواية البزار وغيره من قول الحسن البصري رحمه الله لأبي سلمة: “وما ذنبهما؟!”، وجواب أبي سلمة عنه؛ وإحسانه في ذلك بالتنبيه على الالتزام بما يقتضيه كمال الإيمان من التسليم والقبول والإذعان لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وترك إعمال العقل فيه، ثم يأتي بعد ذلك النظر والمدارسة، وجواب أبي سلمة وسكوت الحسَن يبيِّن مقدار كمال الوثوق من علماء التابعين بأبي هريرة وثقته وإتقانه، وأن ما يحكى مما يخالف ذلك إنما هو من خلاف أهل البدع([22]).

إشكال والجواب عنه:

تساءل بعضهم: ما ذنب الشمس والقمر حتى يدخلا النار؟! ورام من وراء ذلك الطعن في الحديث من جهة المتن؛ وجوابه من وجوه:

الوجه الأول: إن الشمس والقمر لم يعذّبا بالنار حين أدخلاها، ولا يرد السؤال: ما ذنبهما؟! ذلك أن الشمس والقمر مسخَّران على فعل واحد؛ كالنار، والفلك المسخر الدوار، والبحر المسجور، وأشباه ذلك، وما كان كذلك لا يقع به تعذيب، ولا يكون له ثواب، وما مثل هذا الاعتراض إلا مثل رجل سمع بقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، فقال: ما ذنب الحجارة؟!([23]).

الوجه الثاني: ليس كون الشمس والقمر في النار يوم القيامة عقوبةً لهما، ولكنه تعيير وتبكيت لعبَدَتِهما الذين عبدوهما في الدنيا؛ ليعلموا أن عبادتهم إياهما كانت باطلًا، ورأيهم في ذلك رأي فائل([24])؛ ولهذا يقول الحافظ ابن رجب: “ومن أجل ذلك يقذف في يوم القيامة بالشمس والقمر في النار؛ ليكونا مما توقَد به النار، تبكيتًا للظالمين الذين كانوا يعبدونها من دون الله”([25]).

الوجه الثالث: لا يلزم من جعل الشمس والقمر في النار يوم القيامة تعذيبهما؛ فإن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها؛ لتكون لأهل النار عذابًا وآلة من آلات العذاب، وما شاء الله من ذلك، فلا تكون هي معذبة([26]).

والله تعالى أسأل أن يوفقنا للإيمان والعمل بما جاء به الكتاب والسنة، وأن يعصمنا من الزلل، ومعارضتهما بالأهواء الفاسدة والآراء الكاسدة، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة (ص: 12).

([2]) أضواء على السنة لأبي رية (ص: 180).

([3]) صحيح البخاري (3200).

([4]) مسند البزار (8696).

([5]) مشكل الآثار (1/ 170)، أعلام الحديث (2/ 1476).

([6]) الأنوار الكاشفة (ص: 181).

([7]) أخرجه أبو داود الطيالسي (3/ 574)، وأبو يعلى (4116)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 171-172).

([8]) ينظر: الأنوار الكاشفة (ص: 181).

([9]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 243).

([10]) أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (4/ 1163). وينظر: حياة الحيوان الكبرى للدميري (1/ 261).

([11]) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/ 503).

([12]) الأنوار الكاشفة (ص: 182).

([13]) كما فعل أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية (ص: 180).

([14]) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183)، واللفظ لمسلم.

([15]) أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182).

([16]) ينظر: أعلام الحديث (2/ 1475)، وشرح السنة للبغوي (15/ 116).

([17]) تفسير الطبري (21/ 253) عن قتادة.

([18]) ينظر: الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (4/ 1186)، وتحفة الأبرار شرح مصابيح السنة للبيضاوي (3/ 391)، وكشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح لأبي المعالي المناوي (5/ 6).

([19]) ينظر: التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (2/ 458).

([20]) الميسر في شرح مصابيح السنة (4/ 1186).

([21]) ينظر: الأنوار الكاشفة (ص: 182).

([22]) ينظر: المرجع السابق (ص: 183).

([23]) ينظر: تأويل مختلف الحديث (ص: 165-166).

([24]) ينظر: أعلام الحديث (2/ 1476-1477). ورأيٌ فائل أي: خاطئ مجانب للصواب.

([25]) الجنة والنار لابن رجب (ص: 105).

([26]) ينظر: شرح مشكل الآثار (1/ 170-171)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 300) حكاه عن الإسماعيلي.

المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات https://salafcenter.org/4477/

عن الإدارة

اترك تعليقاً