حديث: «وعنده جاريتان تغنيان» -بيان ودفع شبهة-
كثر في الآونة الأخيرة تَكرارُ بعض المعاصرين لبعض الأحاديث النبوية، وإشاعَة فهمها على غير وجهِها الصحيحِ المقرَّر عند أهل العلم، ومنها حديث: «وعنده جاريتان تغنيان»، حيث استدلَّ به بعضُهم على إباحة الغناء([1])، ولا ينقدح في ذهن المستمِع لما يردِّدونه إلا إباحة الغناء الموجود في واقعِنا المعاصر، والمصحوب بالمعازف وآلات اللهو والموسيقى.
وفي هذه المقالة مدارسة للحديث؛ ببيان معناه، ودفع ما وقع فيه بعضُهم من شبهاتٍ في فهمه، على أنه ليس من مقاصدِها بسطُ أقوال أهل العلم في حكم الغناء المصحوب بآلات اللهو والطرب؛ فإنَّ هذا مما أُشبع الكلام فيه، وشُحنت مصنَّفات أهل العلم ببيانه([2])؛ ويكفينا حكايةُ الحافظ ابن الصلاح الإجماعَ على تحريمه؛ فقال: “فليعلم أن الدفَّ والشبابةَ والغناء إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرامٌ عند أئمة المذاهب، وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحدٍ ممن يعتدُّ بقوله في الإجماع والخلاف أنه أباحَ هذا السماع“([3]).
نصُّ الحديث:
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكرٍ وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنِّيان بما تقاوَلَت الأنصارُ يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنِّيَتَين، فقال أبو بكر: أمزاميرُ الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيدٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكرٍ، إنَّ لكلِّ قوم عيدًا، وهذا عيدُنا»([4]).
شرح الحديث:
المعنى الإجمالي للحديث: في يوم عيدٍ للمسلمين دخلَ أبو بكر الصديقُ على ابنته عائشة رضي الله عنهما، فوجد عندها جاريتين منَ الأنصار صغيرتَين في السِّنِّ، تنشدان بعضَ الأشعار عن يوم بُعاث، وهو يوم مشهورٌ من أيام العرب كانت فيه مقتَلة عظيمة للأوس على الخزرج، وتصِفان ما كان فيه من الحرب والشجاعة.
فأنكَر الصديقُ رضي الله عنه على الجاريتين ذلك؛ وقال: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فرخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في فعل الجاريتين؛ معلِّلًا ذلك بقوله: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا».
وبالوقوف على معاني بعض الجمل والعبارات في الحديث مع مراعاة الحال تتَّضح دلالاته، وتنقشع سحب الشبهات حول فهمِه.
قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “وعندي جاريتان”:
لفظ الجارية: يطلق على البنت صغيرة السِّنِّ -أي: الطفلة-، يقول أبو العباس القرطبيُّ: “الجارية في النساء كالغلام في الرجال، وهما يقالان على من دون البلوغ منهما”([5])، وقد جاء هذا المعنى صريحًا في قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “إذا بلغت الجاريةُ تسعَ سنين فهي امرأة”([6])، والمعنى: أنَّ البنتَ الصغيرةَ إذا لم تبلغ تسعَ سنين فهي تسمَّى جارية، أما إذا بلغتها فتسمَّى في عرفهم امرأة؛ فكيف لهؤلاء أن يستدلُّوا بالحديث على إباحةِ الغناء مطلقًا، سواء من الصغيرة أو الكبيرة؟! وفي هذا تحميل للَفظ الحديث ما لا يحتَمله، والاستدلال به في غير موضِعه.
قولها رضي الله عنها: “تغنِّيان بما تقاوَلَت الأنصارُ يومَ بُعاث”:
تمسَّك بعضُهم بقول عائشة: “تغنِّيان”، وأغفل أو تغافل عن قولها: “بما تقاوَلت الأنصار يوم بُعاث”، ومقتضَى المنهَج العلميِّ إعمالُ الألفاظ لا إهمالها، ناهيك أنَّ استدلالهم بقولها: “تغنيان” على إباحة الغناء مطلقًا لا يستقيم.
بيان وجه الاستدلال الصَّحيح من هذه الجملة في أمور:
الأمر الأول: أن المرادَ بالغناء هنا هو: رفع الصوت ببعض الأشعار عن الحرب والمفاخرة بالشَّجاعة والظهور والغلبة؛ يقول الخطابي -في بيان معنى الغناء هنا-: “وكلُّ مَن رفع صوته بشيءٍ جاهرًا بذكره ومصرحًا باسمه لا يستره ولا يكني عنه فقد غنَّى به”([7]).
الأمر الثاني: يطلَق الغناء على تردِيد ما اعتادَته العرب من الأشعار؛ تثبيتًا لمآثرهم وما يفتخِرون به؛ قال الخطابي: “والعربُ تثبتُ مآثرها بالشعر، فترويها أولادَها وعبيدَها، فيكثر إنشادُهم لها وروايتهم إياها، فيتناشدُه السامر في القمراء، والنادي بالفناء، والساقية على الركي والآبار، ويترنم به الرفاق إذا سارت بها الركاب، وكل ذلك عندهم غناء، ولم يرد بالغناء ها هنا ذكرَ الخنا([8])، والابتهار بالنساء، والتعريض بالفواحش، وما يسميه المجَّان([9]) وأهل المواخير([10]) غناء”([11]).
الأمر الثالث: أنَّ الشعرَ الذي كانت الجاريتان ترفعان به صوتهما إنما هو في وصف ما كان في يومِ بعاث من الحرب والشجاعة والبأس، ولا شكَّ أن هذا الشعرَ إذا صُرف إلى جهاد الكفار المحاربين والتحريض على قتالهم والذود عن الذمار والديار وحماية الدين والأوطان كان معونةً في أمر الدين؛ فلذلك رخص الرسول صلى الله عليه وسلم فيه([12]).
الأمر الرابع: لا وجهَ لإلحاق الغناء المتعارف عليه -في وقتنا المعاصر- المشتمل على أنواع من المحرمات بما قالته الجاريتان من الأشعار والأناشيد عن الحرب والقتال ونحو ذلك؛ ولهذا يقول الإمام النوويّ: “هذا الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل والحذق في القتال، ونحو ذلك مما لا مفسدةَ فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشّرّ، ويحملها على البطالة والقبيح”([13]).
وقولها رضي الله عنها: “وليستا بمغنِّيَتَين”:
غالب من استدلَّ بهذا الحديث على إباحةِ الغناء لا يلتَفِون إلى قول أم المؤمنين عائشة: “وليستا بمغنِّيتين“، وبعضهم يغضُّ الطرفَ عنه أصلًا، ولو أنهم تأمَّلوا ما قاله أهل العلم في بيانه لزال عنهم الإشكال.
وقد استفاضَ العلماء في بيان المراد بها، ويمكن إجمال كلامهم في نقاط:
- أنها نفت عن الجاريتين بقولها: “وليستا بمغنيتين” بطريق المعنى ما أثبتته لهما بطريق اللّفظ في قولها قبل: “جاريتان تغنيان”؛ يقول الحافظ ابن حجر: “فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ؛ لأن الغناءَ يطلق على رفع الصوت، وعلى الترنُّم الذي تسمّيه العرب: النَّصْب -بفتح النون وسكون المهملة-، وعلى الحداء، ولا يسمّى فاعله مغنّيًا، وإنما يسمى بذلك [يعني: مغنيًا] من ينشد بتمطيطٍ وتكسير وتهييج وتشويق، بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح”([14]).
- أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها صرَّحت بنفي أنهما مغنيتان؛ لأن المغنية هي التي اتَّخذت الغناء صناعةً وعادة، وذلك لا يليق بحضرته صلى الله عليه وسلم، فالجاريتان ليستا ممن اتَّخذ ذلك الفعل صنعةً وكسبًا، بل فعلهما من قبيل الإنشاد والترنُّم بالبيت والتطريب للصوت، وهذا الأمر إذا لم يكن فيه فحشٌ فهو غير محظور ولا قادح في الشهادة([15]).
- أنهما ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنّيات المعروفات بذلك، ولا ممن يتغنّى بعادة المغنيات من التشويق والهوى؛ وهذا منها تحرُّز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرِّك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون؛ الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن([16]).
- وفيه: جواز القليل من هذا النوع من الإنشاد السالم من المحرمات، وفي أوقات الفرح كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقّة، ويدلّ عليه ما كان الصحابة رضي الله عنهم يردِّدونه في أثناء حفر الخندق، من قولهم:
نحن الذين بايعوا محمَّدا على الإسلام ما بقينَا أبَدا
والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويقول:
«اللَّهمَ إنه لا خير إلا خير الآخره فبارك في الأنصار والمهاجره»([17]).
- وفي هذه اللفظة ردٌّ صريح على من أباح الغناء -الذي يبعث على الهوى والغزل والمجون ونحوه- وسماعه بآلة وبغير آلة([18])، يقول الحافظ ابن رجب: “فلا يدخل غناءُ الأعاجم في الرخصة لفظًا ولا معنى، فإنه ليس هنالك نصٌّ عن الشارع بإباحةِ ما يسمَّى غناءً ولا دُفًّا، وإنما هي قضايا أعيان، وقع الإقرار عليها، وليس لها من عموم”([19]).
قول الصديق رضي الله عنه: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
مزامير جمع مزمار، مشتقّ من الزمير وهو: الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن، وعلى الغناء([20])، ونسبته إلى الشيطان على سبيل الذم والقدح.
وفي هذا القول إنكار صريحٌ من الصديق لما سمع من الجاريتين؛ مستصحبًا لما كان مقررًا عند الصديق رضي الله عنه من تحريم اللهو والغناء جملةً؛ حتى ظنَّ أن هذا من قبيل ما يُنكر، وأنهما فعَلتا ذلك بغير عِلمه صلى الله عليه وسلم، فبادَر إلى ذلك؛ قيامًا عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على ما ظهر له، وكأنه ما كان تبيَّن له أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرَّرهن على ذلك بعدُ([21]).
ولا يُقالُ: لا عبرةَ بإنكارِ الصِّدِّيق طالما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد أقرَّهم على ذلك؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم ينكِر على الصِّدِّيق قولَه؛ وهو صلَّى الله عليه وسلم لا يَسكت على المنكر؛ يقول الإمام ابن القيم: “فلم ينكِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر تسميتَه الغناءَ مزمارَ الشيطان”([22]).
قولها رضي الله عنها: “وذلك في يوم عيدٍ”:
في هذهِ الجملةِ بيانٌ للحِكمة في إقرارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للجارِيَتين على فعلهما بأنه يوم عيد، أي: يوم سرور شرعيٍّ، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا يرتفع الإشكالُ عمَّن قال: كيفَ ساغ للصِّدِّيق إنكار شيءٍ أقره النبي صلى الله عليه وسلم؟!([23]).
قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا»:
وفيه تعليل الأمر بترك الجاريتين ينشدان؛ لأنه يوم عيد، يشرع فيه إظهار السرور، وإيضاح خلاف ما ظنَّه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه صلى الله عليه وسلم؛ لكونه دخل فوجده مغطًّى بثوبه فظنَّه نائمًا، فتوجَّه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه؛ ولهذا سماه الصديق: مزمار الشيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الجواري عليه معلِّلًا ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخَّص لهم في اللعب في الأعياد كما جاء في الحديث: «ليعلَمَ المشركون أنَّ في ديننا فُسحةً»([24])”([25]).
وخلاصة ما سبق: أن الحديثَ حجَّةٌ ظاهرة على حرمة الغناءِ المتعارَف عليه، والمشتمل على المنكرات والمعازف وآلات اللهو، وإنما يستثنى منه ما كان مقيَّدًا بما سبق؛ من كونه صادرًا عن الجارية الصغيرة في السِّنِّ، وتنشد ما يشبه أشعار العرب عن أيامهم، وليست ممن احترف الغناءَ مهنةً له، وكان ذلك في يوم عيدٍ وسرور ونحوه؛ يقول الحافظ ابن رجب: “وفي الحديث ما يدلّ على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّل بأنها أيام عيد، فدلَّ على أن المقتضِي للمنع قائم، لكن عارضَه معارضٌ وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد. وقد أقرَّ أبا بكر على تسمية الدفِّ مزمور الشيطان، وهذا يدلُّ على وجودِ المقتضِي للتحريم لولا وجودُ المانع”([26]).
والله تعالى أسأل أن يلهمنا رشدَنا، وأن يهديَنا لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) منهم: صلاح الراشد، ودونك بعض كلامه في هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=9De6YKUI8IM
وعدنان إبراهيم، ودونك مقطع من كلامه في هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=vZpaTkuYWkI
([2]) في مركز سلف مقالتان تعالجان هذا الموضوع بشيء من التفصيل:
إحداهما بعنوان: “ذم المعازف وتحريمها في نصوص العلماء”، ودونك رابطها:
والثانية بعنوان: “الغناء من جديد… إخفاء الخلاف.. ودرجة الخلاف.. ومسائل أخرى”، وهذا رابطها:
([3]) فتاوى ابن الصلاح (2/ 500).
([4]) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).
([5]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/ 533).
([6]) ينظر: سنن الترمذي (3/ 410)، والسنن الكبرى للبيهقي (1/ 476).
([7]) أعلام الحديث للخطابي (1/ 591).
([8]) يعني: الفحش في الكلام. ينظر: المعجم الوسيط (1/ 260).
([9]) المجَّان جمع ماجن، وهو: من لا يبالي بما صنع. ينظر: مختار الصحاح (ص: 290).
([10]) المواخير جمع ماخور وهو: بيت الريبة ومجمع أهل الفسق والفساد. ينظر: المعجم الوسيط (2/ 857).
([11]) غريب الحديث للخطابي (1/ 655).
([12]) ينظر: أعلام الحديث للخطابي (1/ 591).
([13]) شرح صحيح مسلم (6/ 182).
([15]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 183)، وفتح الباري لابن رجب (8/ 433).
([16]) ينظر: المفهم (2/ 534)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/ 183).
([17]) أخرجه البخاري (2835)، ومسلم (1805)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([18]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 442).
([19]) فتح الباري لابن رجب (8/ 431).
([20]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 442).
([21]) ينظر: المفهم (2/ 534- 535)، وفتح الباري لابن حجر (2/ 442).
([22]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 257).
([23]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 442).
([24]) أخرجه أحمد في المسند (41/ 349) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة»، وحسن إسناده ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 43).
([25]) مجموع الفتاوى (11/ 566).
([26]) فتح الباري لابن رجب (8/ 433).
المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات