فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من وراء الحجب ما ستؤول إليه أحوال أمته، فحذرها من كثير من الفتن، ونبهها إلى المخارج الشرعية منها والتي بها تنال سعادة الدارين، تلكم السعادة المقصورة على من تمسك بكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله عليه السلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض[1]“. وفي رواية أخرى، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن، فقال: ” كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى، وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض[2]“. ومن هنا نعلم أنه لا نجاة لأحد إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبفهم العلماء العاملين الربانيين المقصودين بقوله عليه السلام فيما ورد عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين[3]“.
التحذير من التمسك بغير السنة:
ومن الأمور التي حذر منها صلى الله عليه وسلم الإعراض عن سنته الشريفة والتمسك بغير هديه عليه السلام ولو كان ذلك بنية الاجتهاد والاستغراق في الطاعة، “فمن رغب عن سنتي فليس مني[4]“. أما الإعراض عن سنته بالطعن فيها وعدم التصديق بها فأشد وأنكى، فعن المقدام بن معدي كرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة مال معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يطلبهم بمثل قراه[5]“.
ولقد ظهر مثل هؤلاء – الذين ينكرون السنة – قديما وحديثا، ولو قبل قولهم لذهب الدين كله، لأن كل ما ورد في القرآن مجملا كالصلاة والصيام والزكاة والحج جاءت السنة بتفصيله، فالإعراض عن السنة هو في الحقيقة إعراض عن الدين.
حجج المنكرين للسنة النبوية:
ومن بين هؤلاء الذين رفضوا السنة في الزمن المعاصر محمد عابد الجابري ولكنه – بدهائه المعروف – لا يرفض السنة جملة بل يقر بحجيتها، فقد جاء في تعليقه على قوله تعالى:{يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً }[6]، قال الجابري: » فالرجوع بالخلاف والتنازع إلى ما في القرآن والسنة وطلب رأي المختصين منكم فيما اختلفتم فيه، هو خير، هو أحسن مآلا وأفضل مصيرا« [7]، فالجابري ومن خلال ما سبق لم يسلك هذا المسلك – أقصد مسلك رفض السنة جملة –، بل تفتقت عبقريته عن منهج آخر سلكه، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.
فالجابري وفي مواضع كثيرة من كتبه المطبوعة يرد أحاديث صحيحة مما رواه البخاري وغيره بشبه لا قيمة لها في الميزان العلمي، ثم يحتج في مواطن أخرى بروايات واهية أو مكذوبة، معتمدا في ذلك ميزانا خاصا به سماه شهادة القرآن، فما شهد له القرآن– بفهم الجابري – من أخبار فهو مقبول ولو كان في ميزان المحدثين من نوع الموضوع، وما لم يشهد له القرآن – بفهم الجابري – فهو مردود ولو كان في ميزان المحدثين خبرا متواترا، فالجابري يزعم دائما أن القرآن »هو المرجع المعتمد أولا وأخيرا« [8].
وهذا منهج فاسد، لم يقل به أحد من أهل العلم من قبل، لأن هناك أخبارا يشهد القرآن بصحتها ولكنها عند العلماء النقاد موضوعة، وقد ظهرت طائفة تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنكر عليهم العلماء ذلك زعموا أنهم يكذبون له لا عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحتاج لا إلى من يكذب له ولا إلى من يكذب عليه.
ولكن الجابري فعل أسوأ من ذلك بإخراج للسنة من دائرة الوحي، فقد ذهب الجابري إلى أن السنة ليست حجة ما لم يشهد لها القرآن بالصحة، لأنها ليست وحيا في الأصل بل هي كلام يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، ف »الحديث الذي يحدث به النبي عليه الصلاة والسلام، صنفان: صنف يوحى إليه، فهو قرآن، وقسم من عنده، يبين به ما ورد في القرآن، أو يخبر به هو عن أشياء تتعلق بالدين« [9]. وحتى الآية التي وردة في سورة الحشر والتي يأمر الله تعالى فيها عباده المؤمنين بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي في قوله جل وعلا: {وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [10] – حتى هذه الآية – حرف الجابري فهمها بزعمه أنها تتعلق بالعطاء، وهكذا يصبح معنى الآية – عند الجابري – » وما آتاكم الرسول من العطاء فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا « [11].
دلائل قرآنية في وجوب التمسك بالسنة النبوية:
وهذا الفهم للآية الذي ذهب إليه الجابري مخالف لفهم الصحابة الذين شهدوا النزول وهم أعلم بما يحيط بآيات القرآن الكريم من قرائن وأحوال تعين على الفهم الصحيح والسليم، فعن مسروق قال: »جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت: بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة، أشيء وجدته في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول! قال: فما وجدت فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟ قالت: بلى. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة« [12].
ولقد جاء في كثير من الآيات الأمر الصريح بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنها دائما ترد مقرونة بطاعة الله جل وعلا، كقوله سبحانه: {مَنْ يُّطِعِ الرَّسُولَ فَقَدَ اَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىا فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[13]، وكقوله تعالى: {قُلَ اَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[14].
وما كان الله جل وعلا ليأمر المؤمنين بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به والتأسي به قولا وفعلا لولا علمه سبحانه وتعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بأمر الله جل وعلا ولا ينهى إلا بنهيه، ولا يأتي بشيء من عنده البتة – كما يزعم الجابري -.
ولقد جاء التصريح بشكل لا لبس فيه ولا غموض مؤكداً بالقسم أن الكل وحي من عند الله تعالى قرآنا وسنة، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىا مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىا وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىآ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىا عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىا ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[15]، فقد أقسم الله تعالى بالنجم على نفي الضلال والغواية عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يقول قولا عن هوى وغرض، بل إنما يقول ما أمر به عن طريق الوحي، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا أنه عليه السلام إنما يتكلم بالوحي، وبالوحي وحده، وأنه لا يقول إلا حقا في الغضب والرضى، فعن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الرضاء والغضب؟ قال: فأمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ” اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق ” وأشار بيده إلى فيه[16]“.
فالسنة النبوية وحي من الله تعالى، منها ما جاء مؤكدا أو مبينا لكلام الله جل وعلا مصداقا لقوله تعالى:{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِـتُـبَـيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[17]، ومن السنة ما جاء مؤسسا لحكم جديد لم يرد في القرآن الكريم كالنهي عن الواصلة والواشمة والنامصة كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفا عن عبد الله بن مسعود، وبالتالي فالعمل بالسنة واجب كوجوب العمل بالقرآن، لأن الكل وحي من عند الله، ولأن الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من آيات القرآن الكريم.
وجوب العمل بخبر الواحد وإن لم يفد العلم:
لقد أوجب العلماء العمل بخبر الواحد وإن لم يكن يفيد العلم. وقد قسم الغزالي رحمه الله تعالى الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى ما يجب التوقف فيه، وقسم ما يجب تصديقه إلى سبعة أقسام منها: ما أخبر عنه عدد التواتر فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر، فليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الإخبار إلا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر، فالسنة المتواترة لا يحل لأحد ردها لأنها حجة بذاتها، أما خبر الواحد فالصحيح »الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يجب التعبد به عقلا وأن التعبد به واقع سمعا «[18]، فالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد دليل سمعي.
وقد سلك الغزالي رحمه الله تعالى في إثبات ذلك »مسلكين قاطعين أحدهما: إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد. والثاني: تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع«[19].
وقد قرر الغزالي المسلك الأول بما » تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر وإن لم تتواتر آحادها فيحصل العلم بمجموعها «[20]، ثم أورد الغزالي نماذج من ذلك قائلا: » ونحن نشير إلى بعضها فمنها: ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة، من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول أذكر الله امرءا سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا في الجنين، فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جارتين ( يعني ضرتين ) فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة، فقال: عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا: أي لم نقض بالغرة أصلا وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته… ومنها ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها، وقولها فعلت ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا…وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق، وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء ولم ينكر عليهم أحد في عصر، ولو كان نكير لنقل، ولوجب في مستقر العادة اشتهاره وتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به، فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف وإنما الخلاف حدث بعدهم « [21].
أما المسلك الثاني الذي يقرره الغزالي في إثبات حجية خبر الواحد ووجوب العمل به فهو: »ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع، فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع، وإنفاذه سورة براءة مع علي وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه و سلم، ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات، وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها، ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه حتى بلغه أن قريشا قتلته فقلق لذلك وبايع لأجله بيعة الرضوان وقال والله لئن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا، ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم ومالك بن نويرة والزبرقان بن بدر وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص وعمرو بن حزم وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان صلى الله عليه وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه، ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعا، فإن قيل كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة وإنما بعثهم لقبضها قلنا ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد، ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع « [22].
التدوين المبكر للسنة النبوية:
الأمر الثاني الذي أود التنبيه عليه هنا هو حرص الجابري الدائم على التشكيك في السنة النبوية الشريفة ووسمها بالوضع[23]، فهو يرى أن القيم الكسروية قد غزت الدولة الإسلامية في العصر العباسي الأول فنتج عن ذلك ردود فعل مضادة لهجمة القيم الكسروية تجلت فيما سمي بعصر التدوين، وبالتالي فتدوين السنة النبوية جاء في سياق عام هو سياق رد الفعل وليس الفعل، يقول الجابري: » ومع مرور الزمن أخذت ردود الفعل المضادة تتمثل في التجنيد لتدوين الموروث العربي والإسلامي في اللغة والشعر وأخبار العرب، كما في الحديث والتفسير والفقه « [24]، هذا التدوين وبما أنه ناتج عن رد فعل وليس عن فعل رصين فقد اعتورته عدد من الاختلالات وفي جميع المجالات.
وهذا الذي قاله الجابري تكذبه الأحداث والوقائع والتاريخ، فقد ثبت اهتمام الصحابة – رضوان الله عليهم – المبكر بالسنة النبوية وكتابتهم لها، و » الأقرب إلى المنطق والصواب أن أفرادا منهم وجدوا من البواعث النفسية ما حملهم على العناية بكتابة أكثر ما سمعوه – وربما كل ما سمعوه – وأقرهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُمِن التباس السنة بالقرآن « [25].
وقد وردت عدد من الآثار التي تؤكد ذلك، فعن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الرضاء والغضب؟، قال: فأمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ” اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق ” وأشار بيده إلى فيه “[26].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبة ” فقام رجل من أهل اليمن، يقال له أبو شاه، فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اكتبوا لأبي شاه[27]“. وقد ترك عدد من الصحابة صحائف فيها ما كتبوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلتنا أخبارها وإن لم تصلنا آثارها منها:
صحيفة لسعد بن عبادة رضي الله عنه »جمع فيها طائفة من أحاديث الرسول وسننه، وكان ابن هذا الصحابي الجليل يروي من هذه الصحيفة ويروي البخاري أن هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده، وكان الناس يقرؤون عليه ما جمعه بخطه. وسمرة بن جندب كان قد جمع أحاديث كثيرة في نسخة كبيرة ورثها ابنه سليمان ورواها عنه…وكان لجابر بن عبد الله صحيفة أيضا…ومن أشهر الصحف المكتوبة في العصر النبوي ” الصحيفة الصادقة ” التي كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اشتملت على ألف حديث…وكذلك تلفت الصحف الكثيرة التي جمعها الصحابي الجليل أبو هريرة إلا صحيفة واحدة رواها عنه تلميذه التابعي وهب بن منبه ثم نسبت إليه فقيل: صحيفة همام وهي في الحقيقة صحيفة أبي هريرة لهمام« [28].
وبهذا يتضح إن الأمر الشائع من أن عصر عمر بن عبد العزيز هو عصر تدوين السنة فيه مغالطة كبيرة ومجازفة خطيرة، بله القول إن كتابة السنة لم تحدث – كما يزعم الجابري- إلا في عصر التدوين. إن الزعم بأن كتابة السنة النبوية حدثت في عصر التدوين يروم أصحابه – والجابري واحد منهم – الطعن في السنة النبوية باعتبار أنها جاءتنا عن طريق الرواية الشفوية »فتأثرت بشيء غير قليل من التبديل والتحريف مما أدى بها إلى الغموض والإبهام، فشوهت معانيها والظروف التي أحاطت بوقوعها وقولها« [29]، وبالتالي فإن طرحها أسلم للدين وأنفع للمسلمين وهذه رؤية استشراقية تلقفها الجابري وغيره ممن لا حظ لهم في علم الحديث، فقرروا أن السنة أغلبها موضوع، يقول الجابري: »الأدعية التي ينبغي أن ينطق بها ” المسلم”: قبيل النوم، وحين يصحوا، وأثناء الاستحمام والتمنطق بالحزام[30]، وأثناء الأكل[31]، وحين يذهب إلى الضرورة، وإذا عطس، وإذا حلق شعر رأسه وقلم أظافره[32]، وحين يضيء السراج الخ، مما لم يكن معروفا زمن النبي والصحابة فصار جزءا من الأخلاق الدينية منذ عصر التدوين !؟« [33]. هكذا يخلص الجابري إلى أنه ليس في الإسلام أخلاق وكل الأحاديث النبوية المتعلقة بالأخلاق موضوعة، بل يزعم أنه »قد تزايد عددها مع العصور بسبب أن بعض علماء الإسلام قد أجازوا وضع الحديث في مجال الترغيب والترهيب أي في مجال الأخلاق « [34].
الإعراض عن السنة بدعوى تعرضها للوضع:
لقد كذب الجابري على علماء الإسلام عندما نسب إليهم تجويز وضع الحديث في مجال الترغيب والترهيب بدليل أنه لم يذكر لنا أي اسم من أسماء هؤلاء العلماء الذين فعلوا هذا الفعل القبيح وقالوا هذا القول الشنيع، وهذه سقطت سقطها الجابري كعادته في السقوط عندما يتكلم فيما لا يتقن وينشغل بما لا يحسن.
لقد أجمع علماء الإسلام على حرمة الكذب، فعن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا [35]“. وإذا وقع الاتفاق على حرمة الكذب فيما بين الناس فإن تحريمه فيما يتعلق بالدين أشد، ولذلك لا تقبل توبة من تاب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد تبوأ مقعده من النار، فعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تكذبوا علي، فإنه من كذب علي فليلج النار[36]“. وقد كان عدد من الصحابة الكرام يتهيبون من التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان ؟ قال: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: ” من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار [37]“.
ورغم هذا الوعيد الشديد فقد ظهر بالفعل كذابون يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يفلحوا فقد فضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد وتم التنكيل بكثير منهم، قال إسحاق بن إبراهيم »أخذ الرشيد زنديقا فأراد قتله فقال له: أين أنت من ألف حديث وضعتها، فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفا حرفا « [38]. فالذين كانون يضعون الحديث هم الزنادقة وليس العلماء، أما العلماء فقد كانوا يذبون عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعبدون الله تعالى بالتمييز بين الغث والسمين والصحيح والمكذوب، وكانوا على ثقة من توفيق الله وعونه لأن الله تعالى تكفل بحفظ دينه، والسنة جزء من الدين، فقد »قيل للإمام عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة ؟ فقال: تعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}“[39]« [40].
وقد وردت مجموعة من الآثار عن عدد من العلماء تظهر يقينهم في حفظ الله تعالى للسنة النبوية الشريفة لدرجة أن مجرد التفكير في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم تستوجب الفضح من الله تعالى، فعن عبد الله بن المبارك قال: » لو هم رجل في السَحر أن يكذب في الحديث لأصبح الناس يقولون فلان كذاب « [41].
وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: » من هم[42] بهذا الحديث أبدى الله خزيه، فكيف بمن كذب. وفي رواية عنه ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث« [43].
وابن الجوزي رحمه الله تعالى ممن صنف في الحديث الموضوع بتشدد لم يوافق عليه في بعض الأحيان، وقد ورد عنه أنه قال: » وقد رد الله كيد هؤلاء الوضاعين والكذابين بأخبار أخيار، فضحوهم وكشفوا قبائحهم، وما كذب أحد قط إلا افتضح، ويكفي الكاذب أن القلوب تأبى قبول قوله، فإن الباطل مظلم، وعلى الحق نور، وهذا في العاجل، وأما في الآخرة فخسرانهم فيها متحقق « [44].
هؤلاء علماء الإسلام وكبار المحدثين يتبرؤون من الكذب ومن الكذابين على رسول الله صلى الله عليه فمن أين جاء الجابري بهذا الافتراء؟ ومن أين غرف هذا الزور؟ وما مصدر هذا البهتان؟
والحق أنه لا يوجد عالم قال بهذا الذي نسبه لهم الجابري زورا وبهتانا، ولو اطلع الجابري على علم الحديث بموضوعية وتجرد لأنصف، ولقال فعلا إنه قد عاش للسنة النبوية الشريفة الجهابذة حقا، فوضعوا منهجا علميا دقيقا، يميزون به الرواية الصحيحة من المختلقة المفتراة، ينخلانها حرفا حرفا، وقواعد المنهج التي وضعها العلماء لمعرفة الخبر المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة أشهرها »الخمس التالية التي يكفي وجود إحداها في خبر ما للحكم بوضعه. اعتراف الواضع نفسه باختلاق الأحاديث…أن يكون في المروي لحن في العبارة أو ركة في المعنى…أن يكون المروي مخالفا للعقل أو الحس والمشاهدة، غير قابل للتأويل…أن يتضمن المروي وعيدا شديدا على أمر صغير، أو وعدا عظيما على أمر حقير…أن يكون واضع الخبر مشهورا بالكذب…« [45].
هكذا بذل العلماء رحمهم الله تعالى في سبيل الذب عن السنة النبوية النفس والنفيس وما لا يدرك من أوقاتهم وراحتهم وصحتهم حتى تركوا لنا تراثا مجيدا لا يحصى من الأحاديث النبوية الصحيحة – فأغلقوا بذلك كل أبواب التشكيك والتشويش والتشويه – فعليهم رحمة الله ورضوانه إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه الحاكم، كتاب العلم، حديث: 288.
[2] رواه الحاكم، كتاب معرفة مناقب الصحابة رضي الله عنهم، حديث: 4527.
[3] السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الشهادات، باب الرجل من أهل الفقه يسأل.. حديث: 1452.
[4] رواه البخاري ومسلم وهو جزء من حديث طويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: ” أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني “.
[5] رواه أحمد، مسند الشاميين، حديث: 16866. مسند الشاميين للطبراني، حديث: 1031.
[6] سورة النساء، الآية 59.
[7] محمد عابد الجابري، فهم القرآن القسم الثالث، ص 178.
[8] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص 59.
[9] محمد عابد الجابري التعريف بالقرآن، ص 153.
[10] سورة الحشر، الآية 7.
[11] محمد عابد الجابري العقل السياسي العربي، ص 115.
[12] تفسير ابن كثير.
[13] سورة النساء، الآية 80.
[14] سورة النور، الآية 54.
[15] سورة النجم، الآية 1 – 6.
[16] رواه الحاكم، كتاب العلم، حديث: 327.
[17] سورة النحل، الآية 44.
[18] أبو حامد الغزالي، المستصفى من الأصول، ص 148.
[19] نفس المرجع والصفحة.
[20] نفس المرجع، ص 148 – 150.
[21] نفس المرجع ص 148 – 150.
[22] نفس المرجع ص 151.
[23] نفس الموقف نجده عند أركون فهو يرى أن »الحديث ليس إلا اختلاقا مستمرا فيما عدا بعض النصوص القليلة التي يصعب تحديدها وحصرها«. تاريخية الفكر الإسلامي، ص 297 – 298.
[24] محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، ص 198.
[25] د. صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، ص 19.
[26] رواه الحاكم، كتاب العلم، حديث: 327.
[27] رواه البخاري، كتاب في اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، حديث: 2322.
[28] د. صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، ص 24 – 32
[29] حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ج 1 ص 411.
[30] حسب علمي لا توجد أذكار تتعلق بالاستحمام والتمنطق بالحزام فالجابري هنا يخلط الأمور ويهرف بما لا يعرف.
[31] كيف نفهم القرآن بمنطق شخص يرفض حتى ذكر اسم الله تعالى على طعامه وشرابه ويعتبره دخيلا على الأخلاق الإسلامية !!!.
[32] حسب علمي المتواضع لا توجد أذكار خاصة بالحلق وتقليم الأظافر.
[33] محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، ص 170.
[34] نفس المرجع، ص 535.
[35]رواه البخاري، كتاب الأدب، باب قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، حديث: 5749.
[36] رواه البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، حديث: 105.
[37] رواه البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، حديث: 106.
[38] د. محمد الأعظمي ،دراسات في الجرح والتعديل، ص 84.
[39] سورة الحجر، الآية 9.
[40] د. صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، ص 263.
[41] د. محمد الأعظمي، دراسات في الجرح والتعديل، ص 84.
[42]أي من أراد به سوء ولو لم يقدم عليه.
[43]نفس المرجع والصفحة.
[44] نفس المرجع، ص 84 – 85.
[45] د. صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، ص 263 – 266.
المصـدر : مركز سلف للبحـوث و الدراسـات الإسلاميـة