الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
من المسلم به أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم محمول على التشريع والإخبار، ويستحيل في حقه الكلام بالظن والتخمين وإن جوز أنه من باب الاجتهاد، فيمتنع إقراره من القرآن ولذلك أمثلة كثيرة في القرآن منها قضية أسرى بدر فقد أنزل الله فيهم قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [سورة الأنفال:67].
وفي الصلاة على المنافقين أنزل الله عليه قال تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُون} [سورة التوبة:84]. وقد وجه القرآن سياسة النبي صلى الله الله عليه وسلم في التعامل مع الأعمى قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [سورة عبس:3].
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم في الطب هو داخل في التشريع لكنه على سبيل الإرشاد والتوجيه، ومع ذلك لا يمكن رده ولا تكذيبه ولا التغافل عما يخبر عنه إلا أن أصحاب النظرية المادية إذا لم يجدوا للخبر أثرا ماديا ملموسا فإنهم يردونه وأحيانه يجعلونه دليلا إما على كذب المحدثين أو تكذيب النبي صلى الله عليه فيما أخبر به زمن الأحاديث التي تناولها التكذيب والرد حديث: “من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر”([1]).
فوقف أحدهم متحديا وقال إنه مستعد يعطي شكا أبيض لكل من يأكل سبع تمرات ويشرب سما ولا يضره وظن أنه بهذا الكلام الذي لا علاقة له بالعلم ولا بالعقل قد أثبت كذب المحدثين وطعن في السنة والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: في الكلام على الاحتمالات في الحديث: ونحن لسنا بصدد استقصاء تخريج الحديث فقد كفانا مؤنة ذلك الإخوة في بعض مقالاتهم التي كتبوا([2]) وإنما يهمنا الكلام على الحديث والمعاني القريبة التي يحتملها وجواب الاعتراض عليه وتبيين ضعفه، ومن أمعن النظر في الحديث يجده يتكلم عن قضية معينة وهي وقاية التمر من تأثير السم والسحر في جسد الإنسان وهذا منطوق الحديث ولفظه الذي لا يحتل سواه، لكن يبقى السياق محتملة لعدة معان:
منها تخصيص الحديث بتمر المدينة والعجوة منه خاصة، واعتبار السبع في العدد، وكون ذلك في أول النهار وتكون هذه الوصفة على هذه الهيئة، وهذا الرأي صرح به الخطابي ومال إليه النووي وتبعه ابن حجر رحمهم الله([3]) ولهذا القول نظائر في الشرع خصوصا في التبرك بالعدد قال العراقي قلت:” والظاهر أن لذلك مدخلا في الطب ومنه قوله – عليه الصلاة والسلام – من تصبح بسبع تمرات من عجوة المدينة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر ومنه تكرير عائد المريض الدعاء له بالشفاء سبع مرات، ومنه الحديث المتقدم من طريق قاسم بن ثابت فإن لم تذهب فاغتسل سبعا والله أعلم”([4]). والذين قالوا بهذا قالوا بأنه لا يعقل له معنى فهو تعبدي محض ثم اختلفوا في هذا النفع فمنهم من خصه بزمن النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من حمله على الغلبة قال المازري:” هذا مما لا يعقل معناه في طريقة علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار منه على هذا العدد الذى هو السبع، ولا هذا الجنس الذى هو العجوة، ولعل هذا كان لأهل زمنه خاصة أو لأكثرهم؛ إذ لم يثبت عندي استمرار وقوع الشفاء بذلك في زمننا غالباً، وإن وجدنا ذلك في زمننا في أكثر الناس حمل على أنه أراد وصف غالب الحال”([5])
ومنهم من مال إلى نفع التمر خاص بالمدينة فاستعماله في غيرها لا ينفع قال ابن القيم رحمه الله:” وهذا الحديث من الخطاب الذي أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم، ولا ريب أن للأمكنة اختصاصا بنفع كثير من الأدوية في ذلك المكان دون غيره، فيكون الدواء الذي ينبت في هذا المكان نافعا من الداء، ولا يوجد فيه ذلك النفع إذا نبت في مكان غيره لتأثير نفس التربة أو الهواء، أو هما جميعا فإن للأرض خواص وطبائع يقارب اختلافها اختلاف طبائع الإنسان، وكثير من النبات يكون في بعض البلاد غذاء مأكولا، وفي بعضها سما قاتلا، ورب أدوية لقوم أغفية لآخرين، وأدوية لقوم من أمراض هي أدوية لآخرين في أمراض سواها، وأدوية لأهل بلد لا تناسب غيرهم، ولا تنفعهم”([6]).
المعنى الثاني: أن ما ورد من تخصيص التمر بتمر المدينة كان على سبيل التمثيل وإلا فقد وردت أحاديث في عموم نفع التمر في الوقاية من السم والسحر وهؤلاء رأوا أن الحديث معقول المعنى وهذه المعقولية تنفي الخصوصية وقد لخص هذه الاحتمالات أبو العباس القرطبي فقال:” وظاهر هذه الأحاديث: خصوصية عجوة المدينة بدفع السُّم، وإبطال السحر. وهذا: كما توجد بعض الأدوية مخصوصة ببعض المواضع، وببعض الأزمان. وهل هذا من باب الخواص التي لا تدرك بقياس طبي، أو هو مما يرجع إلى قياس طبي؛ اختلف علماؤنا فيه، فمنهم من تكلَّفه وقال: إن السموم إنما تقتل لإفراط برودتها، فإذا دام على التصبُّح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة، واستعانت بها الحرارة الغريزية، فقابل ذلك برودة السُّم ما لم يستحكم، فبرأ صاحبه بإذن الله تعالى.
قلت: وهذا يرفع خصوصية عجوة المدينة، بل خصوصية العجوة مطلقًا، بل خصوصية التمر، فإنَّ هناك من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك منه، كما هو معروف عند أهله. والذي ينبغي أن يقال: إن ذلك خاصة عجوة المدينة كما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم.
ثم هل ذلك مخصوص بزمان نطقه -صلى الله عليه وسلم -أو هو في كل زمان؟ كل ذلك محتمل، والذي يرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة، فإنَّ وجدنا ذلك كذلك في هذا الزمان؛ علمنا أنها خاصة دائمة، وإن لم نجده مع كثرة التجربة؛ علمنا أن ذلك مخصوص بزمان ذلك القول. والله تعالى أعلم”([7]).
الوجه الثاني: وهو مبني على ما سبق وفيه جواب اعتراض المعترض فنقول كيف علمنا أن التمر يقي من السم والسحر؟
لا شك أن الجواب أن ذلك عن طريق خبر الصادق صلى الله عليه وسلم بقي لنا أن نعرف حكمه كذلك في شرب السم والتعرض للتهلكة؛ لأن الحكم مرتبط بموافقة الشرع ويوجد فرق بين التسبب في الهلاك بالسم وبين التعرض له مصادفة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن شراب السم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا([8])
فهذا التحدي غير مشروع وغير وارد وهو طفيلي أكثر منه علميا.
والسم المعهود على عهد رسول الله صلى الله عليه يحتمل أن يكون مخصوصا به إلى غير ذلك من المعاني المحتملة للحديث والتي تجعل تكذيبه مجازفة وحمله على معنى معين والتحدي على أساسه مجازفة كذلك.
الوجه الثالث: من المعلوم أن الأدوية للأمراض سواء كانت وقائية أو علاجية ليس من سبل إثبات مصداقيتها التحدي؛ فهذا المتحدي لا يستنكف أن يستعمل أدوية لأمراض يطلق عليها الأطباء أمراضا مزمنة يعني أنها لا تفارق صاحبها ولها أدوية هذه الادوية هي مهدئات أو مسكنات ومن العبث إنكارها أو نفي فائدتها والعبرة كما قال العلماء بالتجربة وتحديد معنى الحديث قبل خوض في تحد حماسي لا يستد إلى عقل ولا إلى تجربة مجازفة كذلك.
ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مسلم(2047)
([2]) هذا مقال للمركز تكل فيه على روايات الحديث وبعض الأوهام في فهمه
([3]) شرح النووي لمسلم(2/14) فتح الباري لابن حجر(1/276)
([4]) طرح التثريب(8/191)
([5]) إكمال المعلم بفوائد مسلم(6/531)
([6]) الطب النبوي(1/74)
([7]) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم(5/322)
([8]) البخاري(5778).
المصدر : مركز سلف للبحوث و الدراسات الإسلاميـة