الرئيسية / صحيح البخاري ومسلم / العنايةُ بحِفظ الصَّحيحَين (نماذجُ وصورٌ)

العنايةُ بحِفظ الصَّحيحَين (نماذجُ وصورٌ)

الحمد لله.

اشتغل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلقي السنة من مصدرها، ونقلوها لمن بعدهم امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «تَسْمَعُونَ، وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ»([1])، وقال أيضًا كما في حديث وفد عبد قيس في آخره: «احفظوه، وأخبروا من وراءكم»([2])، وبوب الإمام البخاري عليه بقوله: (باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم، ويخبروا من وراءهم).

وهكذا نشر التابعون السنة لمن بعدهم حتى وصلت إلينا عبر سلسلة من الرواة والحُفَّاظ المتقنين، وقد صنَّف المحدّثون في ذلك المصنفات الكثيرة، وانبثق منها من العلوم والفنون الدقيقة ما لا تجده عند أمة من الأمم، فالإسناد من خصائص هذه الأمة المحمدية.

وبعد أنِ استقرَّتِ السنة في بطون الكتب تداولها العلماء بالتدريس رواية ودراية، حفظًا وقراءة، استنباطًا وفهمًا.

ونظرًا لمكانتها في هذا الدين، وأنها الوحي الذي لا ينطق عن الهوى، كان لمجرد روايتها وحفظها فضل وأيّ فضل؟! إذ بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم من حفظها بالنضارة والحُسْنِ والبهاء، فقال: «نضَّر الله امرأً سمع منا مقالة فحفظها، فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»([3]).

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «رب حامل فقه لا فقه له» دليل على أنَّ مجرَّد الحفظ فضيلة، وأن فاعلَه محمود ومثاب وإن لم يفهم أو يفقه ما يحفظ.

ويفهم من الحديث كذلك: أن من أفنى عمره في حفظ السنة وتحفيظها روايةً لا درايةَ لا يوصف بالذَّمِّ؛ إذ النَّضارة المذكورة في الحديث لا تختصّ بسنٍّ معيّن، بل تشمل الكبار والصغار، النساء والرجال، وبهذا يتبين لنا خطأ من ينكر على المشتغل بالحفظ دون الدراية، مع إقرار الجميع بأهمية الدراية.

وقوله: «وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» فيه أن الطالب الذي يحفظ العلم والسنة بين يدي معلِّمه قد يوفّقه الله ويشتغل بالفهم والدراية ويفوق معلِّمه، ويستفيد من حفظه للسنة واستيعابه لها في الاستدلال والاستنباط، كما هو الحال في حفظ القرآن الكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

عناية علماء الحديث بحفظ السنة:

قام فرسان هذا المضمار بالتسابق في الحفظ، حتى برز لقب (الحافظ) الذي لا ينصرف إلا للمحدِّث، قال الخطيب البغدادي: (الوصف بالحفظ على الإطلاق ينصرف إلى أهل الحديث خاصَّة، وهو سمة لهم لا تتعدَّاهم، ولا يوصف به أحدٌ سواهم؛ لأن الراوي يقول: حدثنا فلان الحافظ، فيحسن منه إطلاق ذلك؛ إذ كان مستعملًا عندهم، يوصف به علماء أهل النقل ونقاده. ولا يقول القارئ: لقَّنني فلان الحافظ، ولا يقول الفقيه: درسني فلان الحافظ، ولا يقول النحوي: علمني فلان الحافظ. فهي أعلى صفات المحدثين، وأسمى درجات الناقلين”([4]).

وذكر ابن الجوزي في كتابه (الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ) والإمام الذهبي في كتابيه (سير أعلام النبلاء) و(تذكرة الحفاظ) عددًا من الحفاظ، مبينين شيئًا من أحوالهم في طلب العلم وسعة حفظهم ومكابدتهم في سبيل تحصيله.

وقد كان الحُفَّاظ الأوائل يحفظون الآلاف من الأحاديث والآثار، بل وبطرقها المتعددة التي قد تصل بمجموعها إلى مئات الآلاف، وسيرهم في ذلك معلومة مشهورة.

المتقدمون كانوا يحفظون السنة مسندة:

وأما حفظهم للأسانيد فذاك منبعثٌ من معرفتهم بأهميتها، وقد اشتهرت عبارة ابن المبارك في هذا المقام، حيث يقول: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”([5]).

وقال ابن تيمية موضحًا سبب اهتمام أهل السنة بالإسناد: (وعِلْمُ الإسناد والرِّواية مِمَّا خَصَّ الله به أُمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وجَعَلَه سُلَّمًا إلى الدِّراية، فأهل الكتاب لا إسنادَ لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المُبتدِعون من هذه الأُمَّة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لـمَنْ أعظم الله عليه المنة أهل الإسلام والسُّنة؛ يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم، وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد، وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحقَّ من الباطل)([6]).

بعض المتقدمين يحفظون الضعيف خشية اختلاطه بالصحيح:

بلغ الشأن ببعض المحدِّثين الأوائل إلى عدم الاكتفاء بحفظ الصحيح فحسب، بل جمعوا معه الأحاديث الضعيفة؛ لتكون مكشوفةً ومتميّزةً لا يختلط بالصحيح عند الرواية، فهذا إسحاق بن راهويه يقول: أحفظ أربعة آلاف حديث مزوّرة، فقيل له: ما معنى حفظ المزوّرة؟! قال: إذا مرّ بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فليتُهُ منها فَلْيًا([7]). وقال الإمام البخاري رحمه الله: (أحفظُ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح)([8]).

والأمثلة على ذلك كثيرة، والمقصود أن الحفظ سمة تميز بها المحدثون، وحفظهم لم يكن مقتصرًا على الصحيح، بل شمل الضعيف، وربما وصل إلى الضِّعْف من المحفوظ! ومع هذا لم يُنكر عليهم هذا الفعل بحجة أنه معيق عن الدراية والفهم!

فالكلام هنا عن الأئمة الحفاظ ومن يحذو حذوهم لا عن العاجز الضعيف، ولكل مقام مقال.

الحفظ خير معين على الفهم:

كم مِنْ مسألةٍ تَرِد ونصوص الوحي تلوح بحكمها، إلا أن ضعف الحفظ والذاكرة تحول بين رؤيتها واكتشافها، ومما ميز علماءَنا الأوائل الحفظُ المقرون بالتدبر؛ فهذا ابن عباس من المكثرين في رواية الحديث نجد أنه استعمل هذا الحفظ وأحسن استغلاله في فهم كتاب الله تعالى، فكان الحفظ من الأسباب النافعة التي هيأها الله له في استجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له حين كان غلامًا: «اللهم علِّمْه الحكمة»، وفي رواية: «علِّمْه الكتاب»([9]).

وقد عقد ابن القيم مقارنة بين أبي هريرة وابن عباس في الحفظ والفهم وأيهما فاق الآخر، فقال: (علم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القرآن كما حفظوا، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟! وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق؛ يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درسا؛ فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وبلّغَ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها)([10]).

وهذا النص يبين لنا بوضوح أهمية الفهم والإدراك للعلوم والمحفوظ، علمًا أن أبا هريرة معدود من الفقهاء؛ كما أشار إلى ذلك ابن حزم([11]) والذهبي([12]) وغيرهما، إلا أن موطن الشاهد الذي نحن بصدده هو أن ابن عباس رضي الله عنهما يُعد من المكثرين في الرواية، وأن هذا الحفظ أعانه على الاستنباط والتدبر بتوفيق الله تعالى.

قال الخليل بن أحمد الفراهيدي مبينًا أهمية الحفظ للفهم: (ما سمعت شيئًا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني)([13]).

والإمام البخاري -وهو قامة في الحفظ- لم يكن منفصمًا ومنفصلًا عن الفهم، بل كانت تراجمه لأبواب الصحيح من أدق التراجم وأنفسها؛ مما يدل على علو كعبه في الفهم والدراية.

ومن تأمل في حال الناس مع الاتكال على الكتب والفهم وإهمال الحفظ وجد أن ذلك قد يصدر ممن لا خبرة له في العلم، أو من العاجز عن الحفظ، فيكونه باعثه الحسد والعياذ بالله.

قال الماوردي: (وربما استثقل المتعلِّم الدرس والحفظَ، واتَّكل بعد فهم المعاني على الرجوع إلى الكتب والمطالعة فيها عند الحاجة، فلا يكون إلا كمن أطلق ما صاده ثقة بالقدرة عليه بعد الامتناع منه، فلا تعقبه الثقة إلا خجلًا والتفريط إلا ندمًا، وهذه حال قد يدعو إليها أحد ثلاثة أشياء: إما الضجر من معاناة الحفظ ومراعاته، وطول الأمل في التوفر عليه عند نشاطه، وفساد الرأي في عزيمته. وليس يعلم أن الضجور خائب، وأن الطويل الأمل مغرور، وأن الفاسد الرأي مصاب، والعرب تقول في أمثالها: حرفٌ في قلبِك خيرٌ من ألف في كتُبِك، وقالوا: لا خير في علم لا يعبُر معك الوادي، ولا يعمر بك النادي)([14]).

الحفظ من منازل العلم:

مكانة الحفظ في علوم الشريعة ليست كمكانتها في العلوم التجريبية، وقد تحدث العلماء عن منازل العلم، مع اختلاف يسير في الترتيب.

قال محمد بن النضر الحارثي: (أول العلم الاستماع ثم الحفظ)([15]). وفي رواية عنه: (الإنصات له، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم بثُّه)([16]).

وقال أبو عمرو بن العلاء: (أول العلم: الصمت, والثاني: حسن الاستماع, والثالث: حسن السؤال, والرابع: حسن الحفظ, والخامس: نشره عند أهله)([17]).

وقال سفيان: (أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)([18]).

وقال فضيل بن عياض: (أول العلم الإنصات، ثم الاستماع، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)([19]).

وقال عبد الله بن المبارك: (أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)([20]).

من هنا نستطيع القول: إن نصوص المحدثين المتقدمين تبرز لنا مكانة الحفظ في علم الحديث الشريف، وبعض هؤلاء من رواة الصحيحين، فكانوا بعد تلقيهم الحديث واستماعهم وإنصاتهم لما يرويه الشيوخ يستعينون بالله في حفظه، ولا نشكّ أنهم لا يقصدون حفظ المتون المختصرة المتأخرة مع أهميتها؛ لأنهم كانوا في عصر الرواية.

أهمية الحفظ في الصغر:

النسيان من غوائل العلم وآفاته، قال الحسن البصري: (لولا النسيان كان العلم كثيرا)([21])، وقال الزهري: (إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة)([22]).

وآفة النسيان لها أسبابها، وهي متنوعة، إلا أن مما يعين على تثبيت العلم حفظه في الصغر، ففي الصِّبا صفاء القلب وقلة الهم وقوة الذاكرة، ولا ينبغي أن تفوت على الطفل، فالحافظة لدى الطفل الصغير أقوى من الفهم؛ لذا كان اعتناء المسلمين بالحفظ في الصغر محط اهتمام الآباء والأمهات، ومن المأثور المشهور في ذلك قول الحسن البصري: “طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر”([23])، وقال علقمة: “ما حفظت وأنا شاب كأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة”([24])؛ لذا كان بعضهم يرى إكراه الصغير على ذلك؛ لأنه لا يعلم فائدة الحفظ حتى يكبر، قال عبد الله بن داود الخريبي (ت213هـ): “ينبغي للرجل أن يكره ولده على سماع الحديث”([25])، وروي مثله عن سفيان الثوري([26])؛ وذلك أن العلم في الكبر سريع التفلّت لا يكاد يثبت، حتى قال بعضهم ما مفاده: “العلم في الكبر كالنقش في النهر، أو كالنقش في البحر”([27]).

ومن لطيف ما ورد في ترجمة شيخ الشام إسماعيل بن عياش الحمصي أنه “كان من الحفاظ المتقنين في حداثته، فلما كبر تغير حفظه، فما حفظ في صباه وحداثته أتى به على جهته، وما حفظ على الكبر من حديث الغرباء خلط فيه وأدخل الإسناد في الإسناد وألزق المتن بالمتن”([28]).

وهذا يؤكد ما ذكرنا من أهمية الحفظ في الصغر ومدى رسوخه، وهذا لا يعني عدم ثبوت الحفظ ورسوخه مطلقًا لدى الكبار، فالصحابة رضوان الله عليهم نقلوا لنا هذا الدين -الكتاب والسنة- وهم كبار، إلا أن حديثنا عن طبيعة الحفظ عامة لدى الناس والخِلقة الجبليَّة أن الصغير مفطور على ذلك، كما أن هذا ليس تزكية عامة لكل الصغار، فقد يوجد منهم من لا يحسن الحفظ؛ كما أن من الصغار من يرزق الفهم ويُستشار في الأمور الكبار، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان, فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم([29]).

صور من عناية العلماء بحفظ الصحيحين أو أحدهما:

أوّلًا: مَنْ حفظ الصحيحين أو أحدهما:

1- عبد الله بن عيسى السرقسطي، أبو محمد الشيباني (530هـ):

كان يحفظ صحيح البخاري وسنن أبي داود عن ظهر قلب، وله على صحيح مسلم تأليف حسن لم يكمله، وله اتِّساع باعٍ في اللغة([30]).

2- أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن، أبو سعد البغدادي ثم الأصبهاني (540هـ):

قال ابن السَّمْعانيّ: (سمعت مَعْمَر بن عبد الواحد يقول: أبو سعد البغداديّ يحفظ صحيح مسلم، وكان يتكلَّم على الأحاديث بكلامٍ مليح)([31]).

وفي “التحبير”: (كان حافظًا كبيرًا، تام المعرفة، يحفظ جميع صحيح مسلم، وكان يملي من حفظه)([32]).

3- عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن حمدان، أبو الخير الأصبهاني ( 568هـ):

قال ابن النجار: (كان من حفاظ الحديث، سمعت جماعة من أصبهان يقولون: إنه كان يحفظ الصحيحين، وكانوا يفضلونه على الحافظ أبي موسى بالحفظ. وقال الإمام عبد الله الجبائي: كان أبو الخير يحفظ البخاري، ويقول: من أراد أن يقرأ الإسناد حتى أقرأ المتن ومن أراد أن يقرأ المتن حتى أقرأ أنا الإسناد)([33]).

4- ابن عبد المؤمن: يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي، صاحب المغرب (580هـ):

قال عبد الواحد بن علي التميمي: (صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين، أظنه البخاري)([34]).

5- القاسم بن فيره بن خلف الرعيني أبو محمد الشاطبي إمام القرَّاء (590هـ):

كان ضريرًا، ولد بشاطبة (في الأندلس)، وتوفِّي بمصر، وهو صاحب “حرز الأماني”.

قال الصفدي: (كان إذا قُرئ عليه البخاريُّ ومسلم والموطأ يصحِّح النُّسَخَ من حفظه)([35]).

6- محمد بن إبراهيم بن خلف الأندلسي المالقي (590هـ):

قال الأبار: (كان صدرًا في الحفاظ مقدمًا معروفًا، يسرد المتون والأسانيد، مع معرفة بالرجال وحفظ للغريب، سمع منه جُلة، وحدث عنه أئمة، سمعت أبا سليمان بن حوط الله يقول عن ابن الفخار: إنه حفظ في شبيبته سنن أبي داود، فأما في مدة لقائي إياه فكان يذكر صحيح مسلم، وكان موصوفًا بالورع والفضل، مسلَّمًا له في جلالة القدر ومتانة العدالة، استدعي إلى حضرة السلطان بمراكش ليسمع عليه بها، فتوفي هناك في شعبان سنة تسعين وخمسمائة)([36]).

7- ابن زهر: أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر الإيادي الإشبيلي ( 595هـ):

قال الأبار: (كان أبو بكر بن الجد يزكيه، ويحكي عنه أنه يحفظ “صحيح البخاري” متنًا وإسنادًا)([37]).

8- عبد الغني بن عبد الواحد الجمَّاعيلي أبو محمد المقدسي (600هـ):

قال الحافظ عبد الغني: (كنت عند الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين رجل منازعة في حديث، فقال: هو في صحيح البخاري، فقلتُ: ليس هو فيه، فكتبه في رقعة ورفعها إلى أبي موسى يسأله، فناولني أبو موسى الرقعة، وقال: ما تقول؟ فقلت: ما هو في البخاري، فخجل الرجل)([38]). وهذا فيه دليل واضح على استحضاره لما في صحيح البخاري.

وقال الضياء: (سمعت إسماعيل بن ظفر يقول: جاء رجل إلى الحافظ عبد الغني فقال: رجل حلف بالطلاق: إنك تحفظ مائة ألف حديث؛ فقال: لو قال أكثر لصدق)([39]).

قال الضياء: (رأيت في النوم بمرو كأن البخاري بين يدي الحافظ عبد الغني يقرأ عليه من جزء، وكان الحافظ يرد عليه، أو ما هذا معناه)([40]).

9- اليونيني: تقي الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الحسين أحمد البعلبكي الحنبلي (658هـ):

قال الحافظ عمر بن الحاجب: (من جملة محفوظه “الجمع بين الصحيحين” للحميدي، وحدثني أنه حفظ “صحيح مسلم” جميعه وكرر عليه في أربعة أشهر، وكان يكرر علي أكثر “مسند أحمد” من حفظه، وأنه كان يحفظ في الجلسة الواحدة ما يزيد على سبعين حديثًا، وقال ولده قطب الدين: حفظ “الجمع بين الصحيحين” وحفظ “صحيح مسلم” في أربعة أشهر، وحفظ سورة الأنعام في يوم واحد، وحفظ ثلاث مقامات من الحريرية في بعض يوم، وكان الأشرف يحترمه ويعظمه، وكذلك أخوه الصالح، وقدم في أواخر عمره دمشق، فخرج الملك الناصر يوسف إلى زيارته بزاوية الفرنثي وتأدب معه)([41]).

10- مُحَمَّد بن أَحْمد بن بدادة المالقي (704هـ):

قال ابن الخطيب: (كان يحفظ “صَحِيح مُسلم” عَن ظهر قلب، ويلقي غالبه سندًا ومتنًا بالجامع، مَعَ عذوبة لفظ وَطيب نَغمَة، ويضيف إِلَى ذَلِك من كَلَام ابن الجوزي أَشْيَاء)([42]).

11- مُوسَى بن يلكحت المعمودي (حدود 730هـ):

كان من أعاجيب الزَّمَان فِي الحفظ يستظهر (صَحِيح البُخَارِيّ) حفظًا حَتَّى لُقِّب (البُخَارِيّ) وَعُرف به، وَكَانَ يعرف الْفُرُوع المذهبية، وَكَانَ يُقْصد للإفتاء بالرخص، فامتحن بِسَبَب ذَلِك مرَارًا، وَكَانَ يعْقد مجَالِس الفقه فِي كل بلد دخله([43]).

12- حسن بن محمد بن مزلق بدر الدين ابن المزلق الشافعي (965هـ):

كان يختم في رمضان كل سنة صحيح البخاري تحت قبة النسر حفظًا([44]).

13- محمد بدر الدين الحسني محدث الشام في عصره (1354هـ):

حفظ الصحيحين غيبًا بأسانيدهما، ونحو 20 ألف بيتٍ من متون العلوم المختلفة([45]).

ثانيًا: مَنْ حفظ الجمع بين الصحيحين ومختصراته:

1- أحمد بن الشهاب محمد بن خلف بن راجح أبو العباس المقدسي ( 638هـ):

كان يحفظ (الجمع بين الصحيحين) للحميدي، قاله الحافظ الضياء والمنذري، وكان يقوم الليل ويداوم على صلاة الضحى صلاة حسنة، وكان لا يترك الاشتغال ليلًا ونهارًا ويطالع كثيرًا ويشتغل، قال العز بن الحاجب: (كان إمامًا ورعًا معظمًا لفضله ودينه، عديم النظير في فنه، بالغ في طلب العلم، وكان وافر الحظ من الخلاف، وكان سليم الباطن ذا سمت ووقار وتعبد)([46]).

2- اليونيني: تقي الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله البعلبكي الحنبلي (658هـ):

سبق معنا أنه حفظ (صحيح مسلم)، وقد ذكر الحافظ عمر بن الحاجب من جملة محفوظه (الجمع بين الصحيحين) للحميدي([47]).

3- محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن ابن مسلمة القيسي ابن الطيب (701هـ):

استظهر في صغره أوان طلبه جملة وافرة من دواوين العلم، فمما أكمله حفظًا: “تيسير” أبي عمرو، ورواية ورش له، و”كافي” ابن شريح، و”المفردات” له ولأبيه شريح، و”غنية من مهر وبغية من ظفر” لأبي الحسن محمد بن عبد الرحمن ابن عظيمة، و”شهاب” القضاعي، و”سيرة” ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، و”رسالة ابن أبي زيد”، و”مختصر الطليطلي”، و”جمل” الزجاجي، و”الفصيح”، و”مثلث قطرب”، و”منظومة” لأبي محمد عبد الوهاب، وشعر امرئ القيس والنابغة، وحفظ أكثر “التقصي”، و”ملخص القابسي”، و”تلقين المبتدي”، وكثيرا من “تفريع” ابن الجلاب، و”الجمع بين الصحيحين” لابن زرقون، ومن مجالس الوعظ، ومن شعر الطيب جد أبيه، ومن “سيبويه” إلى أبواب النداء، وذلك نحو ثلثه، وجملة من “الموطإ”، و”صحيح البخاري”، و”مسلم”، و”جامع الترمذي”، و”سنن أبي داود”، و”النسوي”، و”الدارقطني”، و”إصلاح المنطق”، وطائفة من “أدب الكتاب”، وبعض “الجامع في القراءات” لأبي القاسم عبد الرحمن الطرسوسي، وبعض “الأحكام الصغرى”، ويسيرًا من “مختصر ابن أبي زيد”، ومن “مقامات الحريري”، إلى غير ذلك([48]).

4- شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (728هـ):

قال البزار: (أول كتاب حفظه في الحديث “الجمع بين الصحيحين” للإمام الحميدي. وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، وكان الله قد خصّه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالبًا إلا ويبقى على خاطره؛ إما بلفظه أو معناه. وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره)([49]).

5- ابن الصَّيْرَفِيّ: علاء الدّين علي بن عثمان بن عمر بن صالح الدمشقي (844هـ):

تميَّز على أقرانه ومهر في الفنون، وحفظ (الجمع بين الصحيحين) قبل الفتنة، وعرضه على مشايخ العصر. وصار في الحفظ واحد عصره، ووعظ الناس سنين متطاولة من الفتنة وهلم جرّا، وانتفع عليه الخاصّ والعام([50]).

6- عَليّ بن أبي بكر بن عَليّ الشَّافِعِي (859هـ):

نَشَأ بِالْقَاهِرَةِ فحفظ الْقُرْآن، والعمدة، ومختصر الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ للدشنائي، والشاطبيتين، والمنهاج الفرعي، وألفية النَّحْو([51]).

7- محمد بن محمد بن أبي الحسن أبو عبد الله الجعبري الخليلي (كان حيًّا سنة 889هـ):

حفظ القرآن، وبعض المنهاج، وألفية النحو، ومجمع البحرين في تجريد أحاديث الصحيحين في مجلد مرتب على الكلمات لجده، وقال: إنه عرض الأخير على الشمس المالكي الرملي حين إقامته عندهم بالخليل([52]).

ثالثًا: مَنْ أدام القراءة والسماع في الصحيحين أو أحدهما:

التكرار من أساليب حفظ العلم، فكم من معلم أو متعلم أتقن الحفظ واستحضر مسائل الفن من خلاله، سئل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله عن دواء للحفظ، فقال: إدمان النَّظر في الكتب([53]).

وبين يدينا صور لمن أدام النظر في الصحيحين أو أحدهما، وكرر ذلك عشرات المرات، بل أوصلها بعضهم للمئات!

قراءة البخاري (700) مرة:

من أكثر ما ورد في كتب التراجم في تكرار صحيح الإمام البخاري ما جاء عن ترجمة الإمام غالب بن عبد الرحمن بن غالب ابن عَطيَّة المحاربي (518هـ)، قال ابن بَشْكُوَال: (كان حافظًا للحديث وطرقه وعلله، عارفًا بالرجال، ذاكرًا لمتونه ومعانيه، قرأت بخط بعض أصحابنا أنه سمعه يذكر أنه كرر “صحيح البخاري” سبع مئة مرة، وكان أديبًا شاعرًا لغويًّا ديّنًا فاضلًا، أكثر الناس عنه، وكف بصره في آخر عمره)([54]).

قراءة البخاري (150) مرَّة:

في ترجمة سليمان بن إبراهيم بن عمر نفيس الدين العلوي اليمني (825هـ) أنه مَرَّ على (صحيح البخاري) مئة وخمسين مرة ما بين قراءة وسماعٍ وإسماعٍ ومُقابلة([55]).

قراءة البخاري أكثر من (100) مرة:

وفي ترجمة أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن مقبل القاهري الحنفي المعروف بالتَّاجر (805هـ) قال البرهان الحلبي -تلميذه-: (إنه أخبره أنه قرأ صحيح البخاري إلى سنة ثمانين -أي: وسبع مئة- خمسًا وتسعين مرة، وقرأه بعد ذلك مرارًا كثيرًا)([56]).

من روى صحيح البخاري عن أكثر من (120) شيخًا قراءة وسماعًا:

عبد الرحمن بن محمد الأوجاقي، الشيخ الإمام العالم العلامة المحدث المسند الحافظ الحجة الرحلة الناقد، تقي الدين ابن الشيخ محب الدين الأوجاقي المصري الشافعي (910هـ)، روى صحيح البخاري عن جمع كثير يزيد عددهم على المائة وعشرين نفسًا ما بين قراءة وسماع([57]).

إقراء البخاري أكثر من (60) مرَّة:

جاء في ترجمة أحمد بن أبي طالب الحجار المعروف بابن الشِّحْنَة (30هـ) -وكان قد تفرد بـ(البخاري) وعظم شأنه- قول القاضي تاج الدين: (أما أبو العباس الحجار الذي طار اسمه فملأ الأقطار فهو شيخ الإسناد، ومن تناديه الطلبة من كل ناد… ويقصده كل مسلم لسماع البخاري)([58]). قال ابن كثير: (قُرِئ البخاري عليه نحوًا من ستين مرة، وغيره، وسمعنا عليه بدار الحديث الأشرفية في أيام الشتويات نحوا من خمسمائة جزء بالإجازات والسماع)([59]).

قراءة البخاري أكثر من (60) مرة، ومسلم أكثر من (20) مرة:

وجاء في ترجمة إبراهيم بن مُحَمَّد بن خَلِيل البرهان الحلبي (841هـ) أنه قرأ البخاريَّ أكثر من ستين مرة، ومسلمًا نحو العشرين، سوى قراءته لهما في الطلب، أو قراءتهما من غيره عليه([60]).

إقراء صحيح مسلم أكثر من (60) مرة:

الحافظ عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي (448هـ) كان ملازمًا لإقراء (صحيح مسلم)، فَقُرئ عليه أكثر من ستين مرَّةً، قال حفيده عبد الغافر بن إسماعيل: قرأ عليه الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ (صحيح مسلم) نيِّفًا وثلاثين مرة، وقرأه عليه أبو سعيد البحيري نيفًا وعشرين مرة. قال الحافظ الذهبي: (هذا سِوى ما قرأه عليه المشاهير من الأئمة)([61]).

من سمع صحيح البخاري على أكثر من (70) شيخًا، وصحيح مسلم على (10) شيوخ:

عبد الرحيم بن عبد الكريم بن نصر الله بن سعد الله جمال الدين القرشي البكري الصديقي (828هـ) سمع البخاري على نيف وسبعين شيخًا من قبل الخمسين إلى بعد السبعين، وصحيح مسلم على عشرة([62]).

قراءة البخاري أكثر من (50) مرة:

أحمد بن عثمان بن محمد بن عبد الله، المسند المعمر المحدث، شهاب الدين الكلوتاتي، أبو الفتح الكرماني (835هـ)، قرأ (صحيح البخاري) نحوًا من خمسين مرة. وفي الضوء اللامع والتنبيه والإيقاظ: أكثر من ستين مرة([63]).

قراءة البخاري أكثر من (50) مرة:

قال عبد الحي الكتاني (1382هـ): (وجدت في ثَبَت الشهاب أحمد بن قاسم البوني: رأيتُ خطَّ الفيروزآبادي في آخر جزءٍ من صحيح الإمام البخاري قال: إنه قرأ صحيح البخاري أزيدَ من خمسين مرَّة)([64]).

قراءة البخاري أكثر من (40) مرة:

في ترجمة أحمد بن عثمان بن محمد بن الكُلُوتاتي (835هـ) من “المجمع المؤسِّس”: (ثم حُبِّبَ إليه طلب الحديث، فابتدأ في القراءة من سنة تسع وسبعين -وسبع مئة- وهلُمَّ جرَّا ما فَتَرَ ولا وَنَا، فلعله قرأ البخاري أكثر من أربعين مرَّة)([65]).

التحديث بصحيح البخاري (36) مرة:

يونس بن يحيى بن أبي الحسن بن أبي البركات الهاشمي القصار (608هـ) حدّث بصحيح البخاري 36 مرة، وسمع منه الكثير بمكة وجدة والجعرانة والحديبية والخيف من منى([66]).

إقراء صحيح البخاري (36) مرة:

عناية الله الحنفي الكشميري (1125هـ) قرئ عليه صحيح البخاري ستًا وثلاثين مرة([67]).

قراءة صحيح البخاري أكثر من (30) مرة على أكثر من (30) شيخًا:

فخر الدين أبو عمرو عثمان بن محمد بن عثمان بن أبي بكر بن محمد بن داود المغربي التوزري ثم المصري المالكي، نزيل مكة (713هـ)، سمع الكثير، وأجازه خلق يزيدون على ألف شيخ، وقرأ الكتب الكبار وغيرها، وقرأ “صحيح البخاري” أكثر من ثلاثين مرة على أكثر من ثلاثين شيخًا، من أصحاب البوصيري، وقرأه على الهمداني بإجازته من أبي الوقت، وسمع بقراءته خلق كثير([68]).

من سمع البخاري على (28) شيخًا:

محمد بن أحمد بن منير القواس الدمشقي (738هـ) سمع صحيح البخاري على ثمانية وعشرين شيخًا([69]).

قراءة البخاري على شيخ واحد أكثر من (20) مرة:

جلال الدّين أسعد بن محمد بن محمود الشّيرازي الحنفي (803هـ) كتب نسخة من البخاري في مجلد، وأخرى في مجلدين، وكان قد قرأ صحيح البخاري على الشمس الكرماني أكثر من عشرين مرة([70]).

إقراء صحيح البخاري أكثر من (20) مرة:

إبراهيم بن محمد بن صديق ويدعى أبا بكر بن إبراهيم بن يوسف برهان الدين الدمشقي الشافعي، ويعرف بابن صديق (806هـ)، قرئ عليه البخاري في حلَب أربع مرار، وبمكة أزيد من عشرين مرة، فضلًا عن دمشق والمدينة النبوية([71]).

من ختم البخاري أكثر من (20) مرة:

أبو المواهب جعفر بن إدريس الكتاني الحسني (1323هـ) ختم الصحيح بفاس أزيد من عشرين مرة([72]).

قراءة البخاري (17) مرة قراءة بحث وتدقيق:

علي بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الله ابن السراج أبو الحسن الأنصاري السجلماسي الجزائري (1057هـ) قرأ الستة على مشايخه دراية، وقرأ البخاري سبع عشرة مرة بالدرس قراءة بحث وتدقيق([73]).

من قابل صحيح البخاري وأسمعه (11) مرة في سنة واحدة:

شيخ العلماء أبو الحسين بن اليونيني البعلبكي الحنبلي (701ه) قابل صحيح البخاري في سنة واحدة وأسمعه إحدى عشرة مرة([74]).

مَنْ روى صحيح البخاري مرات كثيرة:

كريمة أم الكرام بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية، المجاورة بحرم الله (463هـ)، وقد بلغت المائة عام. روت صحيح البخاري مرات كثيرة، وماتت بكرًا لم تتزوج أبدًا([75]).

إقراء البخاري مرارًا:

محمد بن أحمد بن محمد بن المحب الزين أبو الخير الطبري الأصل المكي الشافعي (815هـ) حضر مجالس العلم عند صهره القاضي أبي فضل النويري ولازمه، وكان يُقرأ عليه صحيح البخاري في غالب السنين([76]).

من ختم الصحيحين مرات كثيرة:

محمد عابد بن أحمد بن علي بن يعقوب السندي الحنفي (1257هـ) كان مدة مقامه بالمدينة المنورة مثابرًا على إقراء كتب السنة، حتى إنه كان يختم الكتب الستة في ستة أشهر، بل إن الشيخ حسن الحلواني المدني ذكر أنه سمع على الشيخ عابد الكتب الستة في شهر، وأخذها عنه دراية في ستة أشهر([77]).

ختامًا: من لم تصل به همته إلى المعالي فليلزم ما وسعه، ولا يبحث عن شماعة يعلِّق بها عجزه وكسلَه، فيبحث عن جوانب النّقص المتوهَّمة لدى الحُفَّاظ، وكأنهم ارتكبوا حوبًا من الموبقات، بينما الأمر لا يعدو أن يكونوا مأجورين في كلّ الأحوال، فمن بارك الله في فهمه وتقدَّم في العلم وحصلت له الدراية فبها ونعمت، ومن قصرت به همته ولم يتجاوز الروايةَ فخيرًا قدَّم، ولا ينبغي أن نصطنع العداء بين الرواية والدراية، ونفتعل خصومةً بلا معنى وخلافًا بلا ثمرة، والحقيقة أنَّ تبيين أهمية الدراية لا يحتاج إلى كيل الاتِّهامات جزافًا، وافتعال كل تلك الهجمات، فمن الذي يقول: الحفظ مع الفهم دون الحفظ المجرد؟! هل من قائل بذلك حقًّا؟!

إننا حين ننصح بطريقة التّخوين والتحقير لأيّ برنامج علميّ نتسبب في إحداث نفرة من العلوم في نفوس الطلاب، ومن الأمور المذمومة تنفير المتعلمين من بعض العلوم النافعة والأساليب المرضية لدى بعض العلماء.

كما أن على المعلم أن يراعي مراتب الطلاب، فهناك من ذاكرته ضعيفة لا تقوى على الحفظ الكثير، فمثل هؤلاء يقتصر على حفظ الأربعين وعمدة الأحكام وبلوغ المرام، ففيها الخير الكثير، كما أنه لا يمنع من قوي على حفظ الصحيحين أن يحفظ الأربعين والعمدة والبلوغ أيضًا، فهي جامعة للأصول، وسلم للوصول لمراقي العلوم، مع العلم أنه لن يأخذ من وقته إلا النزر اليسير.

ولا تقتصر وسيلة استحضار الأحاديث النبوية بما ذُكر، بل القيام بتدريسها وإدامة النظر فيها أسباب تعين على الضبط، والحمد لله أن جعل أبواب العلم ووسائله متعددة، وكلٌّ ميسر لما خلق له، والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــ

(المراجع)

([1]) رواه أحمد (2945)، وأبو داود (3659)، من حديث ابن عباس، وصححه ابن حبان (62)، وقال الحاكم (1/ 95): “صحيح على شرط الشيخين، ليس له علة”، ولم يتعقبه الذهبي.

([2]) رواه البخاري (87).

([3]) رواه أحمد (21590)، والترمذي (2847)، وأبو داود (3660)، وابن ماجه (230)، وصححه ابن حبان (67، 68) والحاكم وغيرهما، وانظر: شرف أصحاب الحديث للخطيب (18)، وموافقة الخُبْر الخَبَر لابن حجر (1/ 364).

([4]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 172).

([5]) صحيح مسلم “المقدمة” (1/ 15).

([6]) مجموع الفتاوى (1/ 9).

([7]) ينظر: تاريخ بغداد (6/ 352).

([8]) انظر: طبقات الحنابلة (1/ 275)، وتاريخ بغداد (2/ 25)، وتاريخ دمشق (52/ 64).

([9]) رواه البخاري (3765).

([10]) الوابل الصيب (ص: 138-139).

([11]) الإحكام في أصول الأحكام (5/ 92).

([12]) تذكرة الحفاظ (1/ 32-33).

([13]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 335).

([14]) أدب الدنيا والدين (ص: 57-58).

([15]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 232).

([16]) انظر: العلل، رواية عبد اللَّه (209، 1150).

([17]) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 199).

([18]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 233).

([19]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 232).

([20]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 232).

([21]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 448).

([22]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 443).

([23]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 357).

([24]) انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 311).

([25]) انظر: شرف أصحاب الحديث للخطيب (ص: 66).

([26]) انظر: شرف أصحاب الحديث للخطيب (ص: 127).

([27]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 355)، والبيهقي في المدخل (ص: 375).

([28]) انظر: المجروحين، لابن حبان (1/ 132).

([29]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 172)، المدخل للبيهقي (ص: 372-373).

([30]) انظر: الوافي بالوفيات (17/ 214).

([31]) انظر: تاريخ الإسلام (11/ 724).

([32]) انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 121).

([33]) انظر: تذكرة الحفاظ (4/ 78-79).

([34]) انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 99).

([35]) نكت الهميان في نكت العميان (ص: 228).

([36]) ينظر: تذكرة الحفاظ (4/ 100).

([37]) ينظر: سير أعلام النبلاء (21/ 99)، التكملة (2/ 555-556).

([38]) ينظر: سير أعلام النبلاء (21/ 448).

([39]) ينظر: تذكرة الحفاظ (4/ 111).

([40]) ينظر: سير أعلام النبلاء (21/ 448).

([41]) ينظر: تذكرة الحفاظ (4/ 155).

([42]) ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (5/ 38).

([43]) ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (6/ 148).

([44]) ينظر: الكواكب السائرة (2/ 137).

([45]) ينظر: الأعلام للزركلي (7/ 158).

([46]) ينظر: طبقات الشافعيين (2/ 219)، تاريخ الإسلام (14/ 263).

([47]) ينظر: تذكرة الحفاظ (4/ 155).

([48]) ينظر: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (4/ 404-406).

([49]) الأعلام العلية (ص: 18).

([50]) ينظر: بهجة الناظرين إلى تراجم المتأخرين من الشافعية البارعين (ص: 236).

([51]) ينظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (5/ 204).

([52]) ينظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (9/ 152).

([53]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 204).

([54]) الصلة (2/ 458)، وانظر: تذكرة الحفاظ (4/ 45).

([55]) انظر: إنباء الغمر (7/ 474)، المجمع المؤسس (3/ 116).

([56]) ينظر: الضوء اللامع (11/ 79).

([57]) ينظر: الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة (1/ 234).

([58]) معجم الشيوخ للسبكي (1/ 64).

([59]) البداية والنهاية (18/ 328).

([60]) انظر: الضوء اللامع (1/ 141)، والبدر الطالع (1/ 28).

([61]) سير أعلام النبلاء (18/ 20)، تاريخ الإسلام (9/ 709).

([62]) ينظر: الضوء اللامع (4/ 181).

([63]) انظر: الضوء اللامع (1/ 378)، وشذرات الذهب (9/ 309)، والتنبيه والإيقاظ (137).

([64]) فهرس الفهارس (2/ 1046).

([65]) المجمع المؤسس (3/ 51).

([66]) ينظر: الوافي بالوفيات (29/ 188).

([67]) ينظر: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر (6/ 769).

([68]) انظر: البداية والنهاية (18/ 133)، وأعيان العصر (3/ 228)، والوافي بالوفيات (19/ 334)، ودرة الحجال في أسماء الرجال (3/ 209).

([69]) انظر: ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد (1/ 38).

([70]) انظر: إنباء الغمر (2/ 157)، وشذرات الذهب (9/ 44).

([71]) انظر: الضوء اللامع (1/ 147).

([72]) ينظر: فهرس الفهارس والأثبات (1/ 186).

([73]) ينظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (3/ 173).

([74]) انظر: معجم الشيوخ للذهبي (2/ 42)، والمعجم المختص بالمحدثين (169)، وذيل طبقات الحنابلة (4/ 330).

([75]) ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 233).

([76]) انظر: فهرس الفهارس (2/ 1045).

([77]) ينظر: فهرس الفهارس والأثبات (2/ 722).


المصـدر : مركز سلف للبحوث و الدراسـات الإسلامية

عن الإدارة

اترك تعليقاً