مما يُرمى به السلفيون في الآونة الأخيرةِ أنهم يخترعون قواعدَ لا أصلَ لها عند الأصوليين، ويدلِّل أصحابُ هذا الاتهام على ذلك بمسألة التَّرك، فإذا ما استدلَّ السلفيون على بدعيَّة بعض الأمور بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تركها وأعرض عنها، وأن تَرْكه حجة؛ فيزعمون أنَّ هذه قاعدةٌ منِ اختراع السلفيين، وأنَّ الترك لا يدلُّ على شيء، وأن الأصلَ في الأشياء الإباحة، وهذا يدلُّ على أن التركَ لا يُنتج حكمًا، وأن الأصوليِّين لم يقولوا بأن التركَ له دلالة شرعية معتبرة([1]).
وقد سبق لمركز سلف أن تناول دلالة الترك النبوي إجمالا([2])؛ وعليه فليس هذا هو هدف هذا المقال، وإنما هدفه هو الردُّ على من يقول: إن مذهب الأصوليين هو أن الترك لا يدلُّ على شيء، وأن دلالة الترك أمرٌ اخترعه السلفيّون، وسوف يتركَّز الرد في النقاط التالية:
أولًا: معنى الترك في اللغة والاصطلاح:
الترك في اللغة معناه: عدم فعل المقدور، سواء كان غفلةً عنه، وهو ما يسمَّى بالترك العدمي المحض؛ لأنه لم يقم الداعي إلى الفعل، أو كان بالإعراض عنه، وهو ما يُسمَّى الكفّ([3]).
والترك عند الأصوليين قد استعمل في المعنى الثاني الذي هو الكف بصورة أكبر، وإن كان هذا لا ينفي أن المعنى الأول موجود في استعمالات الأصوليين.
أما عدم فعل ما ليس بمقدور كونًا فلا يدخل في الترك لا لغة ولا اصطلاحًا.
وممن صرح بذلك عضد الدين الإيجي فقال: «الترك هو عدم فعل المقدور، سواء كان هناك قصد من التارك أو لا، كما في حالة الغفلة والنوم، وسواء تعرَّض لضدِّه أو لم يتعرَّض، وأما عدم ما لا قدرةَ عليه فلا يسمَّى تركًا؛ ولذا لا يقال: ترك فلان خَلقَ الأجسام»([4]).
ومن أمثلة الترك المقصود الذي هو الكفُّ: ترك تغسيل الشهيد، وترك الصلاة عليه، وترك الأكل من الضبِّ، وترك الأذان ليوم العيد.
ومن أمثلة الترك العدَمي: ترك ركوب السفن، وترك أنواع الطعام التي لم يتعرَّض لها النبي صلى الله عليه وسلم، وترك أنواع من التعبُّد لم يقم بها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: هل الترك فعلٌ؟
الترك الذي بمعنى الكف هو في حقيقته نوع من الأفعال، وهذه مسألة مشهورة عند الأصوليين في قولهم: إنَّ الترك فعل، ولا شكَّ أن مرادهم هو الكفُّ؛ لأن الترك العدميَّ ليس بفعل، وللأصوليين من كلِّ المذاهب تصريحٌ بأن الترك فعل، فيكون حكمه حكم الفعل.
ودونك -أيها القارئ- بعضًا ممن صرح بأن الترك فعل من علماء المذاهب الأربعة:
فمن الحنفية: علاء الدين البخاري([5]) وابن نجيم([6]).
ومن المالكية: ابن بطال([7]) وابن الحاجب([8]) وابن رشد([9]) والشاطبي([10]).
ومن الشافعية: الرازي([11]) والآمدي([12]) والزركشي([13]) وابن حجر([14]).
ومن الحنابلة: ابن تيمية([15]) وابن اللحام([16]).
ثالثًا: دلالة الترك المقصود:
إذا كان الترك المقصود فعلًا فإنه يأخذ ما يأخذه الفعل من الأحكام، وهذا هو الغرض من بحث كونه فعلًا أم لا؛ ولذا فقد ذكر الصنعاني عند ذكر تعريف السنة أن أهل الأصول لم يذكروا التروك؛ لأنها داخلة في الأفعال([17]). وقد تناول الأصوليون الكثير من المسائل المبنية على ذلك، مثل التكليف بالفعل، ووجه التكليف بالترك، وغير ذلك، فلا يصحُّ أن يقال: إن الترك لا ينتج حكمًا لأنه عدميّ محض، وكأن الترك كله عدمي محض! ثم عند ذكر أمثلة الترك العدمي تذكر أمثلة الكفّ! فهذه مغالطة لا تصح، وهي سبب فساد التصوُّر عن كل من يسوِّغ البدع بدعوى أن الترك لا يدلُّ على شيء، فكما أن حكم الأفعال فيه تفصيل عند الأصوليين، فكذلك حكم الكفُّ فيه نفس التفصيل.
ومما يستدلّون به في هذا الموطن: حديث أكل خالد الضبّ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كمثال على أن الترك لا يدلُّ على التحريم.
والجواب: أنَّ ترك النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن ليس تركًا عدميًّا، بل هو كفّ، وفعل خالد يدل على أن الأصل هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في فعله وتركه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمسك عن الأكل أمسك خالد بن الوليد أيضًا، ولم يأكل إلا بعد أن بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم سبب امتناعه، ولو كان تركه لا يدلُّ على شيء لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم على امتناعه أولًا، ولما بين له ثانيًا.
رابعًا: منشأ الخلل:
منشأ الخلل الثاني هو ادعاؤهم أن الترك العدميَّ يدلُّ على الإباحة مطلقًا.
وهذا تصوُّر باطل، فإنه إذا قيل: إن الترك العدميَّ المحض لا يدلُّ بمجرده على حكم، فهذا ليس معناه أن كل ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم على الإباحة، بل إن هذا العموم لا يقوله عاقل؛ لأن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم تركًا محضًا يُدَلّ على حكمه بالقواعد الأخرى التي تناولته، ويلزم القائلين بذلك لوازم باطلة لا يقول بها أحد لو أنهم يتنبهون لغوائل أقوالهم!
فمن تلك اللوازم تسويغ كلِّ البدع والمحرمات بأنها كلّها مباحة؛ بدعوى أن الترك يدلّ على الإباحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المحرمات كلّها، ومنها ما كان تركه لها كفًّا، ومنها ما كان تركه لها عدميًّا محضًا، فهل يحكم على هذه المحرمات بالإباحة، أم يحكم عليها بالتحريم للأدلة القاضية بتحريمها؟! وكذلك الشأن في البدع، فقصد التقرب المحض بفعلٍ لا بدَّ له من دليل، وهذا محلُّ اتفاق بين العلماء، سواء من قسم البدعة للأقسام الخمسة ومن لم يقسمها([18])، فكيف يقال: إنه مباح لأن الترك يدل على الإباحة؟!
فإذا قيل: إن المقصود من كون الترك يدل على الإباحة هو أنه لا ينتج حكمًا ولا دلالة شرعية له.
فالجواب: أنَّ العلماءَ لا يفرِّقون بين الوصف الذاتي والوصف اللازم الذي لا ينفكّ في تعليق الحكم عليه، فيقولون مثلًا: النهي يقتضي الفساد، وقد يكون النهي لذات الفعل، وقد يكون لوصفه اللازم غير المنفك عنه.
وتطبيق هذا فيما نحن بصدَده هو أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في جانب التقرب المحض إلى الله تعالى يدلُّ على وجوب الترك والامتناع، لكن هذا الحكم ليس مستفادًا من مجرد الترك العدمي لذاته فقط، وإنما من كون أن إثبات وصف العبادة المحضة لفعل لا بد فيه ثبوت الدليل المجيز له، الناقل عن الأصل -الذي هو المنع من هذه الأفعال-، فلما كان هذا الوصف ملازمًا للترك العدمي في باب التقرب جاز أن يقال: إن الترك العدمي يدل على المنع في جانب العبادات المحضة، وهذا هو معنى أن الأصل في العبادة المنع حتى يرد ما يغيره.
إذن فالخلاصة التي نود أن نصلَ إليها هنا هي: أنَّ كونَ الترك له دلالة أصولية معتبرة هو التطبيق العملي لما ذكره الأصوليون من كل المذاهب، والقول بأنه لا يدلّ على شيء مجازفة عظيمة وبهتان كبير، أما تفصيل دلالته في كل نوع فقد سبقت الإشارة إلى المقالين اللَّذين تناولا ذلك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ألف الغماري رسالة بعنوان: حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، وذهب فيها إلى أن الترك لا يدلّ على حكم، أو يدل على الإباحة، وألف الشريف عبد الله فراج العبدلي رسالة بعنوان: الترك لا يُنتج حكمًا، ورسالة الغماري مرجعٌ لكثير ممن يتناول مسألة الترك.
([2]) انظر مقال: حكم ما ترك النبي صلى الله وعليه وسلم، على هذا الرابط:
([3]) انظر في بيان معنى الترك في اللغة: لسان العرب (1/ 607)، المحكم والمحيط الأعظم (7/ 115)، تاج العروس (27/ 93). وانظر تفصيل الكلام في تعريف الترك في كتاب: التروك النبوية تأصيلًا وتطبيقًا (ص: 39-54).
([5]) انظر: كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي (3/ 137).
([6]) انظر: الأشباه والنظائر (ص: 25).
([7]) انظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 462).
([8]) انظر: القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (ص: 62).
([9]) انظر: بداية المجتهد (1/ 528).
([10]) انظر: الموافقات (1/ 68).
([11]) انظر: المعالم بشرح التلمساني (2/ 29).
([12]) انظر: القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام (ص: 62).
([13]) انظر: المنثور في القواعد (1/ 284).
([14]) انظر: فتح الباري (1/ 21).
([15]) انظر: مجموع الفتاوى (14/ 215).
([16]) انظر: القواعد والفوائد الأصولية (ص: 62).
([17]) انظر: إجابة السائل شرح بغية الآمل (ص: 81).
([18]) انظر تفصيل ذلك في المقال الذي نشره المركز بعنوان: هل في الإسلام بدعة حسنة؟ وتجده على هذا الرابط:
المصدر: مركز سلف للدراسات والبحوث