الرئيسية / حديث تصفيد الشياطين في رمضان / تصفيد الشياطين وواقع الأمة تحرير معنى حديث: «وصفدت الشياطين»

تصفيد الشياطين وواقع الأمة تحرير معنى حديث: «وصفدت الشياطين»

ظهرت المدرسة العقليَّة محاولةً التشكيكَ في كثيرٍ من الثَّوابت الدينية المتعلِّقة بالاستسلام للوحي والتمسُّك به، فغدت هذه المدرسة تلقِي الشبهات مرةً بعد المرة، وكلُّها تهوِّن من شأن التمسُّك بنصوص الكتاب والسنة، وتدعو إلى إخضاعها للعقل، وجعلها تحت وصايته، وبهذه الطَّريقة ردُّوا كثيرًا من الأحاديث النبوية الصحيحة بحجة معارضتها للعقل، أو تأوَّلوها تأويلات بعيدة باطلة، ولا زالت المدرسة العقليَّة تخرج لنا غثاءً من الشبهات كل يوم وتلقيه في قلوب المسلمين.

وتلك الشبه العقلانية التالفة التي يتفوَّه بها هؤلاء ليست مبتدَعة من عندهم، ولا هم بأوَّل منِ اخترعها، بل هي من الشبهِ العقلية التي تفوَّه بها من قبلهم من أهل الضَّلال، وقد تولى أهل العلم الإجابة عنها بالأجوبةِ الدامغة، وكل هذه الشبه مردُّها إلى استعمال العقل في غير محلِّه، فهم جعلوا العقولَ هي المهيمنة على النُّصوص، وهي الحاكمة على الدليل الشرعيّ.

ومن ضمن تلك الشبه: ادِّعاء التعارض بين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر رمضان فتِّحت أبواب السماء، وغلِقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» وبين الواقع، إذ الواقعُ يشهد وجودَ المعاصي والذنوب، فكيف صفدت الشياطين والذنوب لا زالت حاصلةً؟! ومن أجل هذا التعارض المزعوم يردّ كثير من الناس هذا الحديث([1]).

ويمكننا أن نناقش هذه الشبهة من خلال الأوجه الآتية:

الوجه الأول: صحة الحديث:

هذا الحديث من جهة الثبوت في أعلى درجات الصحة، فقد أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب جهنَّم، وسُلسِلت الشياطين»([2])، وفي لفظ: «صفِّدت الشياطين»([3]).

فالحديث إذن في الصحيحين، وهو في أعلى مراتب الصحة.

الوجه الثاني: تأويل أهل السنة لهذا الحديث:

قد درس العلماء هذا الحديث وشرحوه، واستحضروا مثل هذه الشبهات وردُّوا عليها، ومجمل الأقوال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وصفِّدت الشياطين» يمكن بيانها في الآتي:

القول الأول: خصصه بعض العلماء بأنَّ التصفيد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّة ولَن يقع بعدَه، وأن المراد من الشياطين مسترقُو السمع مِنهم، فإنهم مُنِعوا زمَن نزول القرآن من استراقِ السمع، فزيدَ سلسلتهم مبالغةً في الحفظ.

يقول الطيبي مبينًا ذلك: “«وصفدت الشياطين» أي: شُدَّت وأُوثقت بالأغلال… روى البيهقي عن الإمام أحمد عن الحليمي أنه قال: تصفيد الشياطين في شهر رمضان، يحتمل أن يكون المراد به أيامه خاصَّة، وأراد الشياطين التي هي مسترقةُ السمع، ألا تراه قال: «مردة الشياطين»؟! لأن شهر رمضان كان وقتًا لنزول القرآن إلى السماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب، كما قال تعالى: {حَفِظْنَاهَا} الآية، والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ”([4]). فالتصفيد إذن لنوع خاصٍّ من الشياطين وهم مسترقو السمع، وفي زمن خاصٍّ وهو زمن نزول الوحيِ على النبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثاني: أن المراد بالتصفيد معنى آخر غير الظاهر:

فالمراد: أنَّ انشغال المسلمين بالطاعات والصيام وقراءة القرآن وعدم إقبالهم على المعاصي يجعل الشيطانَ وكأنه مصفَّد مسلسل؛ إذ ليست له حرّيّة الوسوسة والأخذ بالأمَّة إلى موارد الهلاك والإثم، يقول الحليمي: “يحتمل أن المراد أن الشياطين لا يخلُصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلُصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قَمع الشهوات، وقراءةِ القرآن والذكرِ”([5]).

فالشياطين مصفَّدة باعتبار أن المسلمين منشَغِلون بالطاعات، ومن جهة حفظ الله لهم أو أكثرهم من أن يقعوا في المعاصي، ولكثرة الثواب والعفو في هذا الشهر، فيصبح الشيطان وكأنه مصفَّد، يقول ابن عبد البر: “«صفِّدت الشياطين» وجهه عندِي -والله أعلم- أنه على المجاز وإن كان قد روي في بعض الأحاديث «سلسلت» فهو عندي مجازٌ، والمعنى فيه -والله أعلم- أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، ولا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليهم في سائر السنة”([6]).

القول الثالث: أنَّ ذلك في حق الصائمين الذين حافظوا على شروط الصوم وراعوا آدابه:

واختار هذا القول أبو العباس القرطبي حيث قال في المفهم: “إنما تُغلُّ عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، أمَّا ما لم يحافظ عليه فلا يغل عن فاعله الشياطين”([7]). واختار هذا القول أيضًا بدر الدين العيني([8]).

 القول الرابع: أنَّ الحديث ليس على عمومه، وإنما تخصصه الرواية الأخرى التي جاء فيها ذكر المردة، فالمردة هي التي تصفَّد وليس كل الشياطين:

وهذا القول اختاره القاضي أبو بكر ابن العربي ردًّا على عين هذا الإشكال الذي يوردونه اليوم، فقال: “قال: إنا نرى المعاصي في رمضان كما هي في غيره، فما أفاد تصفيد الشياطين؟! وما معنى هذا الخبر؟! قلنا له: كذبتَ، أو جهلتَ، ليس يخفى أن المعاصي في رمضان أقلُّ منها في غيره، ومن زعم أن رمضان في الاسترسال على المعاصي وغيره سواء فلا تكلِّموه، فقد سقطت مخاطبته، بل تقل المعاصي ويبقى منها ما بقي، وذلك أن يكون المعنى صفِّدت وسُلسلت ويبقى ما ليس بماردٍ ولا عفريتٍ، ويدل على ذلك الحديث الآخر”([9]).

ووافقه أبو العباس القرطبي فقال: “أن يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين والمردة منهم، وأما من ليس من المردة فقد لا يصفد”([10]).

واختار هذا القول أيضًا العيني([11]).

القول الخامس: أن التصفيد يمنع الاستطالة البدنية ويبقى الاسترسال على وسوسة القلب:

وبناء عليه فالوسوسة الحاصلة هي من الشيطان بلا شك، وهو ما أشار إليه ابن العربي والطيبي، وأنه ليس من شرط وسوسة الشيطان وإغوائه اتصاله، بل يحتمل أن يوجد كما يوجد الألم في جسد المسحور والمعيون عند تكلم الساحر أو العائن، فكذلك يوجد عند وسوسته من خارجٍ.

قال القاضي ابن العربي: “أن يكون المعنى: أنها بعد تصفيدها كلها وسلسلتها تحمل المرء على المعاصي بالوسوسة، فإنه ليس من شرط الوسوسة التي يجدها المؤمن في نفسه من الشيطان الاتصال، بل هي بالعبد صحيحة؛ فإن الله هو الذي يخلقها في قلب العبد عند تكلم الشيطان بها، كما يخلق في جسم المسحور عند تكلم الساحر، وعند تكلم العائن في جسم المعين”([12]).

ويقول أيضًا: “قلنا: ليس من شرط التصفيد عدم الوسوسة؛ لأن الوسوسة لا تكون باليد والرجل”([13]).

القول السادس: التوقف في المسألة:

وهذ ما اختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، فقد سئِل -رحمه الله تعالى- فقيل له: بالنسبة لأيام رمضان الجليل يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيه: «تصفد الشياطين»، ومع ذلك نرى أناسًا يصرعون في نهار رمضان، فكيف تصفد الشياطين وبعض الناس يصرعون؟! ثم هل معنى الحديث أنه إذا كان هناك بيت مسكون أو من الجن من يتعرض للناس في البر، ويظهر بأشكال مختلفة من حيات وكلاب أنها لا تظهر في رمضان مع العلم أن هناك منزلًا في منطقة… يضع أهله الأغراض فيه، وإذا أتى المساء لا يجدون الأغراض، بل يجدونها خارج المنزل، فهل مثل هذه الحالات فقط تظهر في رمضان، وأن مسألة الصرع هي التي تظهر؟

فأجاب بقوله: “في بعض روايات الحديث: «تصفد فيه مردة الشياطين» أو «تغل» وهي عند النسائي، ومثل هذا الحديث من الأمور الغيبية التي موقفنا منها التسليم والتصديق، وأن لا نتكلم فيما وراء ذلك، فإن هذا أسلم لدين المرء وأحسن عاقبة، ولهذا لما قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل لأبيه: إن الإنسان يصرع في رمضان! قال الإمام: هكذا الحديث، ولا تكلم في ذا”([14]).

هذه مجموعة من الأقوال في شرح الحديث، وبيان معنى «صفدت الشياطين»، والقول الراجح -والله أعلم- هو: أن التصفيد على ظاهره وحقيقته، وأن صدور المعاصي في رمضان ليس من أثر الشيطان، بل من أثر النفس اللوامة التي تشرَّبت من أثر الشيطان في سائر السنة.

    فإن النفس لما تصبَّغت بلونه تصدر منها أفعاله، والفائدة إذ ذاك في تصفيد الشيطان ضَعف التأثير في ارتكاب المعاصي، فمن أراد التجنب عن ذلك يسهل عليه، وهذا أمر مشاهد.

وهذا ما اختاره القرطبي فقال: “لو سلمنا أنها صفدت عن كل صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين أن لا يقع شرّ؛ لأن لوقوع الشر أسبابًا أخَرَ غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسية”([15]).

قال السندي: “قوله: «صُفِّدت» بضم المهملة وكسر الفاء المشددة أي: شدت وأوثقت بالأغلال، والمردة جمع ماردٍ وهو العاتي الشديد، ولا ينافيه وقوع المعاصي؛ إذ يكفي في وجود المعاصي شرارة النفس وخباثتها، ولا يلزم أن تكون كلّ معصيةٍ بواسطة شيطانٍ، وإلا لكان لكل شيطانٍ شيطانان، ويتسلسل، وأيضًا معلومٌ أنّه ما سبق إبليس شيطانٌ آخر، فمعصيته ما كانت إلا من قبل نفسه”([16]).

وفي ذلك يقول ابن الجوزي: “فإن قيل: إذا سلسلت الشياطين فكيف تقع المعاصي؟! فالجواب: أن المعاصي تقع بميل الطبع إلى الشهوات المحرمة، وليس للشيطان إلا التزيين والتحريض، وإذا بعد المحرِّض عن المقدام لم يبطل إقدامه”([17]). واختار هذا القول أيضًا العينيّ([18]).

وعليه فإن التعارض بين الحديث وبين الواقع غير حاصل حتى نتكلف الإجابة عنه، فإن الخطأ منشؤه من اعتبار الذنوب صادرة من وسوسة الشيطان فقط، وحين نعلم أن الذنوب لا تقتصر على الوسوسة وإنما النفس اللوامة لها دور ينحل الإشكال، ولا يبقى وجه لمعارضة.

ويظهر من خلال هذا أن الحديث لا يعارض الواقع، وإنما خطأ هؤلاء في التسرع في رد الحديث من أدنى معارضة ظاهرة، وليس هذا منهج المؤمن في التعامل مع الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث يثبت أن الشياطين تصفد حقيقة -على القول الراجح-، لكن تبقى النفس اللوامة تبعث على ارتكاب المعاصي، فالحديث إذن على ظاهره.

والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) وقد ذُكرت المسألة في عدة كتب منها: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس للقاضي محمد بن عبد الله أبي بكر ابن العربي (ص: 280-281)، والمسالك في شرح موطأ مالك له أيضًا (4/ 244-245)، وشرح المشكاة للطيبي: الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1575-1576)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (9/ 103) ، وفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (6/ 136).

([2]) أخرجه البخاري (1899، 3277)، ومسلم (1079)، وغيرهما.

([3]) أخرجه مسلم (1079).

([4]) الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1575-1576).

([5]) انظر: شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 299).

([6]) الاستذكار (3/ 377).

([7]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (9/ 103).

([8]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10/ 270).

([9]) المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 247-248).

([10]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (9/ 103).

([11]) انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10/ 270).

([12]) انظر: المسالك في شرح موطأ مالك للقاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي (4/ 247-248)، وانظر: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس للقاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي (ص: 281).

([13]) المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 248).

([14]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (20/ 75).

([15]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (9/ 103).

([16]) حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 503).

([17]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 409).

([18]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (10/ 270).

 

المصدر : مركز سلف للبحوث والدراسات الإسلامية

عن الإدارة

اترك تعليقاً