تقسيمُ السنةِ إلى سنةٍ تشريعيَّة وسنة غيرِ تشريعيَّة بين تقرير الأصوليِّين واحتيال المعاصرين
تمهيد:
في عصر الأنوار والرقيِّ والازدهار كان من المناسِب ظهورُ حركةٍ دينيَّة زاهِدة تحاول صدَّ الناس أو تهذيب توجُّههم نحو المادَّة؛ حتى لا ينسَوا الشرعَ، لكن طغيان المادَّة وعلوّ صوت الرفضِ للوحي أتى بنتيجةٍ عكسية، فظهرت حركاتٌ تصالحية مع الواقعِ تسعَى إلى إيجاد ملاءمة بين الشرع والواقع، تمنع اصطدامَهما، وتوقف الشرعَ عند حدِّ التأقلُم مع المادّة، وتحجزه عن الإصلاح والتغيير، فيكفي الشرعَ علوًّا وصلاحيةً ألا يتعارض مع معطيات الحضارة، وألا يثور على ضغطِها المهيمِن، فكان من نتاج هذا التوجُّه الزهد المبكِّر في النصوص الشرعية، ومحاولة الالتفاف على أكبر نسبةٍ منها، فعمد أصحاب هذا التوجُّه -بحسن نيةٍ أحيانًا وبنياتٍ مبيَّتَة أحيانا أخرى- إلى الحدِّ من سلطةِ السنّة، وإلى تقسيمها تقسيمًا ثنائيًّا إلى: سنة تشريعيةٍ، وسنة غير تشريعية، وتوسيع دائرة الأخيرة؛ ليتمكَّن التفلُّتُ منها، ويسهلَ عدمُ الانضباط بها انضباطًا كليًّا. وقد حاول أصحابُ هذا القول إيجادَ موافقٍ لهم من الأقدمين، فخلطوا بين التقسيم العلميّ للسنة عند الأصوليين الذي لا يتعارض مع ما تقرِّره الحقول المعرفية الأخرى، وبين التقسيم مبيَّت المقاصد الذي يقرِّره المعاصرون، وقد كُتبت أبحاث ومقالات حول هذه الموضوعات، ووقع فيها أخذٌ وردّ بين منكِر لها ومستجيز([1]).
لكنَّ العناوينَ التي بحثت الرّدَّ على هؤلاء ناقشتهم من زاويتين: إما زاوية العموم فتورد السنة عند أهل الحديث والفقهاء وعند الأصوليين، وإما من ناحية خاصَّة وهي التشكيكُ في نيات هؤلاء وإثبات تناقُضهم فقط. ونحن في هذا المقال نخصُّه بالبحث في السنة في المفهوم الأصولي ودلالتها، ثم نناقش هؤلاء فيما يذهبون إليه.
السنة في العرف الأصولي:
لا بدَّ من التنبيه على أن التعريفَ المصطلحيّ يهدف إلى تحقيق الغاية منه بالنسبة لأهل الفنّ، ولأن الأصولَّي يُعنى بما مِن شأنه أن يكونَ دليلًا يستعمله المجتهدُ للاستنباط فإنَّ الغاية من تعريفه ترنو إلى هذا المعنى، وقبل التعريفِ لا بد أن يُعلم أن السنةَ عند الأصوليين من حيث ترتيبُ الأدلة تعدُّ في المرتبة الثانية بعد القرآن، وحجَّتها تشمَل أمورًا منها: تخصيصُ العامّ، وتقييد المطلق، وبيان المجمل([2]). هذا مع الاستقلال بالتشريع، فقد تنشِئ السنةُ أحكامًا جديدةً.
والناظر في كتب الأصوليّين يجد أن الأصوليين حين يُطلقون السنةَ فإنما هو باعتبارها دليلًا مجملًا، لا يقصدون به كونَ المسألة واجبةً أو مندوبةً، بل مقصودُهم بذلك عمومُ الأحكام الشرعية، فقد نقل أبو الحسين البصري المعتزليُّ اصطلاحَهم في السنة فقال: “إن قَوْلنَا: سنَّة لَا يخْتَصّ بالمندوب إِلَيْهِ دون الْوَاجِب، وَإِنَّمَا يتَنَاوَل كل مَا عُلم وُجُوبه أَو كَونه ندبًا بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبإدامة فعله؛ لِأَنّ السّنةَ مَأْخُوذَة من الإدامة؛ وَلذَلِك يُقَال: إِن الْخِتَان من السّنة، وَلَا يُرَاد أَنه غير وَاجِب”([3])، وقال القاضي أبو يعلى: “وأما السنة: فما رسم ليُحتذَى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سنَّ سنة حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عمِل بها إلى يوم القيامةِ، ومن سنَّ سنَّة سيئةً فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة»([4])، ولا فرقَ بين أن يكونَ هذا المرسوم واجبًا أو غير واجب. يدلّ عليه ما روي عن عبد الله بن عباس أنه صلَّى على جنازةٍ جهر بقراءة فاتحة الكتاب، وقال: إنما فعلت ذلك لتعلموا أنها سنة([5]). وقراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة”([6]).
مع أنه لا مشاحَة في الاصطلاح، إلا أن هذا التعبير شائعٌ عندهم، وهو الذي يتناسب مع تعريفهم الاصطلاحي حيث عرفوا السنة بأنها: “أقوال النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن، وأفعاله، وتقريراته التي يمكن أن تكونَ دليلًا لحكم شرعي”([7]).
فكلُّ ما يصلح أن يكونَ دليلا لحكم شرعيّ -بغضِّ النظر هل هو واجب أو مندوب أو مباح – فهو سنَّة عند الأصوليين؛ ولذلك يطلقون المشروع على المباح والواجب والمندوب، قال في المراقي:
وربما أُطْلِقَ في المأذون كالشرب والعشاء والعيدين([8])
“يعني أنه قد يطلق الشرعيّ -أي: لفظ الشرعي- على ما أذن فيه الشرع من واجب ومندوب ومباح، فالشرعي في البيت قبله مراد به المعنى، وهذا مراد به اللفظ، ففيه استخدام، فالأول كصلاة العشاء، يقال: العشاء مشروعة، أي: واجبة، ومن الثاني قولهم: من النوافل ما تشرع فيه الجماعة، أي: تندب كالعيدين، ومن الثالث أن تقول: في الشرب الجائز هذا الشرب مشروع”([9]).
ومن ثمَّ فإن كلَّ ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم صالح للتشريع إذا انتفت الخصوصيَّة؛ لأنه في أقلّ مراتبه يدلّ على الإباحة؛ ولذلك لا يوجد كلام للأصوليين في تجاوز السنة. ولتحرير محلِّ النزاع لا بدَّ من تبيين أنَّ غير الإلزام في التشريع لا يمكن تطرُّقه للأقوال إلا بالقرائن، وتبقى الأفعال والتصرفات هي محلّ النظر؛ لدورانها بين الخصوصية وبين الجِبِلِّية وبين السنية التي تعني المندوب، ومن ثم تكلَّم الأصوليون عن حكم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ودلالتها التشريعية، فقسموها باعتبار القصد وعدَمه، فما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل القَصد دائرٌ بين ثلاثة احتمالات: الندب والإباحة والوجوب، أمّا ما صدر عنه مما من شأنه ألا يصدُر عن مثله فقد اختلفوا في دورانه بين هذه الوجوه:
فقال قائلون: واجب علينا أن نفعل مثلَه، حتى تقوم الدلالة على أنه غير واجب.
وقال آخرون: ليس منها شيء واجبٌ علينا فعلُه، حتى تقوم الدلالة على وجوبه، ولنا فعله على وجه الإباحة؛ إذ كان ذلك أدنى منازل أفعاله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: نقف فيه، ولا نفعله، لا على وجه الإباحة ولا غيرها، حتى تقوم الدلالة على شيء من ذلك([10]).
وحاصل فقه المسألة أنّ ما صدر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأفعال التي لم يقصدها لا بدَّ من قيام القرينة على عدم القصد حتى ينتفي التشريع فيها، وهو ما أسماه بعضُ الأصوليين -كالسرخسي- بالزلة، واشترط فيها قيام القرينة، فقال: “ثم لا بد أن يقترن بالزَّلَّة بيان من جهة الفاعل أو من الله تعالى، كما قال تعالى مخبرًا عن موسى عليه السلام عند قتل القبطي: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الْآيَة [القصص: 15]، وكما قَالَ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} الْآيَة [طه: 121]، وإذا كان البيان يقترن به لا محالةَ علم أنه غير صالح للاقتداء به”([11]).
ثمَّة قسمٌ آخر من الأفعال، وهو ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلية، والمقصود بالأفعال الجبلية: الأفعال التي لا يخلو منها ذو روح؛ كالأكل والشرب والقيام والقعود، وكل ما تدعو إليه حاجة الإنسان الجبلية؛ من النوم واللباس والمشي والجلوس والركوب والتزاور وقضاء الحاجة واتخاذ المنازل ونحوها([12]).
فهذه يتكلَّم عنها الأصوليون من حيث عدم إلزامها، بمعنى أنها لا تجب ولا تندب ما لم يقترن بذلك دليل يدلُّ على أحد الأحكام، وهي بمنزلة المباح أو المأذون فيه أو الأولى([13]).
ونأتي إلى قضية مهمَّة، وهي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدينية أو الدنيوية، وهذا الأصلُ فيه أنه تشريعٌ ما لم يقترن بما يلغِي ذلك، واجتهادُ النبي صلى الله عله وسلم ثابتٌ بالكتاب والسنة، وهو إما أن يصيبَ فيه فهو تشريع ملزم، وإما ألا يصيبَ فيه فيأتي توجيه الشارعِ وتصويبُه كما في قوله تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِين} [التوبة: 43]، وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [الأنفال: 67]. واجتهادُ النبي صلى الله عليه وسلم مقدَّم على غيره؛ لأنه لا يقَرُّ على خطأ من الشارع([14]).
ويمكن ملاحظةُ أمورٍ في البحث الأصوليّ في السنة، وهي أن مصطلح السنة غير التشريعية حديثُ النشأة، ولم يكن له أيّ ذكر عند متقدِّمي الأصوليين، ومن ناحية أخرى فإنَّ الأصوليين حين تعاملوا مع السنة على أنها دليلٌ كانوا يناقشون دلالتها على الأحكام التشريعية بجميع أقسامها الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم، وحين عبَّروا بعدم الإلزام لم يقصدوا به عدم التشريع، وإنما قصدوا به عدَم الوجوب في الفعل أو الترك، فيبقى الندب والكراهة قائمين، وعادةً ما يسندون عدم الإلزام إلى القرائن، ولا يتكهَّنون به فقط؛ لخطر ترك التأسِّي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والسنن التي يرَونها من قبيل العاداتِ خصُّوها بالجبلِّية، ولم يوسِّعوا دائرتها إلى القضاء وسائر الأحكام غير التعبُّديّة.
السنة غير التشريعية في اصطلاح المعاصرين:
مع أن هذا المصطلحَ حادثٌ، إلا أن مُنشئيه -ومن بِينهم علماء- حاولوا إيجادَ سندٍ تاريخي له، والحالة التي نناقشها هي التي ترى أن السنةَ التشريعية خاصّة بأمور العقائد والعبادات، أما أمور الدنيا من سياسة وحكم ومعاشٍ فما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها ليس تشريعًا، وإنما يفعله انطلاقا من الأعراف والاجتهاد والعادات، ومن ثم فهو غير ملزمٍ، فقد صرَّح الدكتور محمد عمارة في بحثٍ له بعنوان: “السنة التشريعية وغير التشريعية” بحصر السنة التشريعية في أمور الغيب والثوابت التي لا يستقلُّ العقل بإدراكها، وسنة غير تشريعية وهي في فروع المتغيرات الدنيوية، فما يفعله النبي صلى الله عله وسلم في أمور الحرب والسِّلم والقضاء والإمامة والأموال كلها سنن غير تشريعية([15])، وحاول تسويغَ ذلك بالاستدلال بما أورده القرافي في كتابه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام” ونصه: “وأما تصرُّفُه صلى الله عليه وسلم بالحُكم فهو مغايرٌ للرسالة والفُتيا؛ لأنَّ الفُتيا والرسالة تبليغٌ محضٌ واتِّباعٌ صِرْف، والحكمُ إِنشاءٌ وإِلزامٌ من قِبلَهِ صلى الله عليه وسلم بحسب ما يَسْنَح من الأسباب والحِجَاج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إِنكم تختصمون إِليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعض، فمن قَضَيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذْه؛ إِنما أقتطع له قطعةً من النار»([16])، دَلَّ ذلك على أن القضاءَ يَتْبَعُ الحِجاجَ وقوَّة اللَّحَنِ بها، فهو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام مُنشِئ، وفي الفُتيا والرسالةِ مُتَّبِعٌ مُبلِّغٌ، وهو في الحكم أيضًا مُتبعٌ لأمرِ الله تعالى له بأنْ يُنشِئَ الأحكام على وَفْق الحِجَاجِ والأسباب، لا أنه مُتَّبعٌ في نَقْلِ ذلك الحكمِ عن الله تعالى؛ لأنَّ ما فُوِّضَ إِليه من الله تعالى لا يكون منقولًا عن الله تعالى.
ثم الفَرْقُ من وجه آخر بين الحكم والفُتيا: أن الفُتيا تَقْبَلُ النَّسْخ، والحكمُ لا يقبلُهُ، بل يقبلُ النقضَ عند ظهور بطلان ما رتِّبَ عليه الحكم، والفُتيا لا تَقْبلُه، فصار مِن خصائص الحكم: النقضُ، ومن خصائص الفُتيا: النَّسخُ.
وهذا في فُتياه صلى الله عليه وسلم خاصّةً ومَنْ كان في زمانه، وأمّا الفتيا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا تَقبل النسخ لتقرُّر الشريعة. فهذا أيضًا فَرقٌ حسن بين القضاء والفُتيا من حيث الجملةُ في جنسيهما، غير أنه لا يتَقرّرُ في كل فردٍ من أفراد الفُتيا، ومتى ثَبَت الفرقُ بين الجنسين حصَلَ الفرقُ بين الحقيقتين، فلا لَبْس.
وأما الرِّسَالةُ من حيث هي رسالة فقد لا تَقبلُ النسخ، بأن تكون خبرًا صِرْفًا. فإنه تقبل التخصيص دون النسخ على الصحيح من أقوال العلماء، وقد تَقبَلُه إِن كانَتْ متضمِّنةً لحكم شرعي. فصارت الرسالةُ أعمَّ من الفُتيا ومُبايِنةً لها. فظهرت الفروق بين الرسالة والفتيا والحكم”([17]).
وقد توصَّل عمارة إلى حكم يخالف تقرير القرافي الذي استشهد به، وهو أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب -بما في ذلك الحدود وقسم الغنائم وغيرها- كلّها غير ملزمة([18])، ومثل كلام عمارة تفوَّه به سليم العوَّا وعليّ الخفيف([19]).
وعمارة لم يحسن فهمَ كلام القرافي؛ ولذا خالفه في التقرير، فالقرافي تكلَّم عن إنزال الحكم على الأعيان، فهذا محض اجتهاد؛ لأنه مبنيّ على الاستدلال والقرائن والبينات، وصلاحية الشريعة لكل زمان تجعل الحكم أعمَّ من إنزاله؛ لأنه يصلح لكل من كان هذا وصفه؛ ولذا ورد في أثناءِ كلامه التفريقُ بين الفتيا والحكم، وأن الفتيا صالحة لكل زمان، وهذا لم يخصّه بزمان دون زمان. والسؤال المطروح الذي لم يجب عنه عمارة هو: هل الحدود فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الاجتهاد أم تنفيذًا للأحكام القرآنية من قطع يد السارق وقتل القاتل وجلد الزاني؟
لا شكَّ أن الجواب عن هذا السؤال لا يحتاج عناءً من باحثٍ كبير بحجم محمد عمارة؛ لأنَّ عوامَّ المسلمين يعلمون أن هذه الأحكامَ متقرِّرة في القرآن، ومحلُّ الاجتهاد فيها هو إنزالها على الأعيان فقط.
كما يَرد إشكال قويّ على تقسيم السنة الذي ذهب إليه محمد عمارة وغيره، مفاده استشكال ضابط السنة غير التشريعية، فإن قالوا: ما كان في الأمور الدنيوية والأموال فغير تشريع، فهذا منقوض بالإجماع؛ فالبيوع والمواريث والطلاق والعِدد والهبات والمأكل والمشرب كلها من أمور التشريع، وللنبي صلى الله عليه وسلم فيها أحكام لا يمكن تحيينها أو إلغاؤها، فقد أحلَّ ميتة السمك والجراد والدم والطحال، وحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وشرع الطلاق والنكاح على وجه لا يقع إلا به وإلا صار باطلا، وعين البينات في الحدود التي لا يمكن تطبيقها إلا بها، فهل كل هذا مما يمكن إلغاؤه واعتباره غير تشريعي؟!
إن القول بهذا يلزم منه إسقاطُ نصف الشريعة؛ لأنها عباداتٌ ومعاملات، فحين تكون المعاملات غيرَ تشريعية وما كان في معناها كذلك فإنَّ الشريعة بهذا المعنى ليست شاملة ولا مستقرة، وفي هذا القول إبطال لها، واستدراك على النبوة، فأين هؤلاء من أحكام المواريث الشرعية؟! وأين هم من الأخلاق والآداب ومن التسليم للنبي صلى الله عليه وسلم وتحكيمه في كلّ ما شجر بين الناس كما قال الله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]؟!
إن هذا التقسيمَ غير منضبط، ولا هو مبنيٌّ على أثارة من العلم، بل الحماس للفكرة أدَّى إلى التفوُّه به قبل اختباره، والناظر في كلام العلماء والفقهاء يجد أن هذا التوجُّه لا يستقيم مع تقريراتهم، فهم قصدوا بيان الأحكام وتجليتَها، وتغطية أفعال المكلّف بنصوص الشرع، فعمدوا إلى النصوص، وحاولوا تبيين شموليتها لأفعال المكلَّف عبر التقسيم لأحكام التكليف المعروف، وحين نرجع إلى القرافي المالكي نجد أن مقصودَه من كتابه آنفِ الذكر هو التمييز بين الحكم الشرعي المقرَّر وبين اجتهاد الحاكم، لا أنّ ما في هذه الأبواب من الأقضية والأحكام غير تشريعيّ، فهذا لم يخطر للقرافي على بال، ولا للأصوليين كذلك، يقول القرافيّ مبينًا لمقصد الكتاب وغايته: “أما بعد: فإنَّه قد وَقَع بيني وبين الفُضَلاءِ مع تطاول الأيامِ مَباحثُ في أمر الفَرْقِ بين الفُتْيا التي تَبْقى معها فُتْيا المخالِف، وبين الحُكم الذي لا يَنقضُه المخالِف، وبين تصرُّفاتِ الحُكام وتصرُّفاتِ الأئمة، ويُختلَفُ في إِثباتِ أهِلَّة رمضان بالشاهد الواحد، هل يَلْزَمُ ذلك من لا يَرى إِثباتَه إِلَّا بالشاهدينِ أم لا؟ ويُختَلفُ إِذا باع الحاكمُ مِن مالِ الأيتام شيئًا، هل ذلك حُكمٌ بصحةِ ذلك البيع فلا يَنقضُه غيرُه أم لا؟ وهل إِذا حَكَم بعدالةِ إِنسانٍ هل لغيره أن يُبطلها أم ذلك حكمٌ لا يُنقَض؟ ونحو هذه المسائل”([20]).
وبهذا يتبيّن لك أن القومَ راموا أمرًا لا يوجد ما يشهَد له؛ مما اضطرَّهم إلى تحريف مقاصد المؤلّفين بغير قصد حتى تستقيم مع تقعيدهم؛ فالمصرَّح به في نصوص الشرع وفي كلام العلماء هو أن السنة كلّها تشريع، لكن التشريع ليس على درجة واحدة، وأبواب الفقه كلها محكومة بنصوص الشرع، ومن أراد تجاوز السنة في القضاء والأحكام فلن يستقيم له الفقه، وكذا في المعاملات، هذا بالإضافة إلى مخالفة إجماع الأمة وعمل المسلمين على مدى القرون التي مضت.
والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) من الأبحاث المميزة بحث بعنوان: “السنة التشريعية وغير التشريعية”، جمع بحوثًا مشتركة لعلماء وباحثين معاصرين. ومن البحوث المهمَّة في الردود على أصحاب هذا القول بحث بعنوان: “أثر القول بالسنة غير التشريعية في الاحتجاج بالحديث على الأحكام غير العبادية”، تأليف الدكتور عبد اللطيف بن سعود بن عبد الله الصرامي.
([2]) ينظر: الرسالة للشافعي (1/ 66).
([4]) أخرجه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
([5]) أخرجه الشافعي في الأم (1/ 270)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (4/ 39)، وصححه ابن الجارود (536، 537).
([6]) العدة في أصول الفقه (1/ 166).
([7]) ينظر: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت (2/ 96)، والتحرير في أصول الفقه لابن الهمام (3/ 19).
([10]) الفصول في الأصول للجصاص (3/ 215).
([12]) ينظر: شرح المختصر في أصول الفقه للشيرازي (2/ 118).
([13]) ينظر: أصول الأحكام للآمدي (1/ 173)، شرح تنقيح الفصول (2/ 9)، مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (2/ 178).
([14]) ينظر: الردود والنقود على شرح المختصر (2/ 715)، وبذل النظر في الأصول (ص: 607)، الإحكام في أصول الأحكام الآمدي (4/ 177).
([15]) السنة التشريعة وغير التشريعية (ص: 17).
([16]) أخرجه البخاري (7169)، ومسلم (1713)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
([17]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص: 103).
([18]) ينظر: السنة التشريعية وغير التشريعية (ص: 20).
([19]) ينظر: المرجع السابق، فالبحث مشترك.
([20]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص: 30).
المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات
تقسيمُ السنةِ إلى سنةٍ تشريعيَّة وسنة غيرِ تشريعيَّة بين تقرير الأصوليِّين واحتيال المعاصرين