هل السنة مثل القرآن؟

هل السنة مثل القرآن؟

المقَدّمَة:

كانت طفلةٌ صغيرةٌ لم تبلغ الثالثةَ من العمر تقرأ سورة الفاتحة، فقالت بعدها: آمين، فقيل لها: اقْرئِي بدون آمين، فجعلت تقرأ الفاتحة وتقول بعدها: بدون آمين!

إنَّ هذا الفهم السّطحيَّ مقبولٌ لو كان من عقل لم يبلغِ الثالثةَ من العمر، ولكن العجب من بلغ مبلغَ العقلاء وهو على مثل ذلك، فلو قال قائل عن أحد أساطين الجامعة وهو يتحدَّث عن صفاته الخَلْقية: “هو مثلُ أخيه الذي يدرس في المرحلة المتوسِّطة”، فإنه لا يتبادر إلى ذهن من له ذِهن أن ذلك البروفيسور مثلُ أخيه في مستواه العلميّ أو في مستوى تفكيره وتطلُّعاته.

إنَّ من يفهم هذا يسخَر منه الصغارُ قبل الكبار، ويضحَك منه بُلداء القوم قبل أذكيائهم، وكما أنَّ الفرقَ واضحٌ بين بروفيسور الجامعة وبين أخيه الذي ما زال في مقاعد الدراسة حيث لا يخطر على بال أحدٍ أنه مثلُه في ذلك، فكذلك الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلّم واضحٌ يعرفه كلُّ عاقل.

ولا يتبادر إلى عقل عاقلٍ حين يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه»([1]) أنه مثلُ القرآن في نظمِه ومعانيه وإعجازه، الذي تحدَّى به الله سبحانه وتعالى أساطينَ العرب على أن يأتوا بمثله، وأخبر عن عجز الإنس والجن عن ذلك فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

فإن لم تكن المماثلةُ في الإعجاز والنظم ففي أيّ شيء كانت المماثلة بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله الله؟ وما مقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلّم حين قال: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه»؟ وهل يتعارض مع الآية الآنفة الذكر؟

نص الحديث:

عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه، ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموه، ألا لا يحلّ لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروهم، فإن لم يقروهم، فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم»([2]).

شرح الحديث وبيان معنى كون السنّة مثلَ القرآن:

نفهَم من سياقِ الحديث والنظَر في سباقه ولحاقه أنَّ الكلام هنا في قضيَّة واحدةٍ بيَّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا يصحُّ لنا أن نجتزئ جزءًا من الحديث لنعترض عليه دون النظر في تتمتِّه وسياقه، فالمشكِّك في هذا الحديث وفي السنة النبوية المطهَّرة اجتزأ هذا الحديثَ ليبعد الذهنَ عن الفهم الصحيح للحديث، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلّم في هذا الحديث يحذِّرنا من ترك العمل بالحديث النبويِّ بحجَّة أنه لم يرد في القرآن الكريم، وبدعوى من يدَّعي أن الحجةَ في القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وأنه الذي أمرنا بالعمل به، ودعوى أننا غيرُ مأمورين بالعمل بسنته عليه الصلاة والسلام.

فالنبيّ صلى الله عليه وسلّم يخبر هنا أن السنةَ مثل القرآن في الحجِّية والعمل، فلو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بأمر أو نهى عن شيء فإننا مأمورون بالامتثال له عليه الصلاة والسلام، ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم بخبر ماضٍ أو حاضر أو مستقبل فنحن مأمورون بالتصديق به، تمامًا مثل القرآن ولا فرق.

يقول الخطابي (388هـ) رحمه الله في شرح معنى المثلية في هذا الحديث: “قوله: «أوتيتُ الكتاب ومثله معه» يحتمل وجهين من التأويل:

أحدهما: أن يكون معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلوّ مثل ما أعطي من الظاهر المتلو.

ويحتمل أن يكون معناه: أنه أوتي الكتاب وحيًا يتلى، وأوتي من البيان، أي: أذن له أن يبيّن ما في الكتاب، ويعمّ ويخصّ، وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن”([3]). وبمثل ذلك شرحه الشراح، يقول الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ): “«ومثلَه» أي: ومثل الكتاب «معه» وهو الحديث؛ لأنه الوحيُ غيرُ الْمَتْلُوّ، والمماثلة في وجوب العمل والاعتقاد بهما؛ لأن الحديث إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهو قطْعيٌّ مثل القرآن”([4]).

وهذا المعنى هو ما يدلّ عليه سياق الحديث؛ ففي أوله تقعيد للقاعدة والأصل الذي فيه أنه أوتي القرآن الذي أمرنا باتباعه والعمل به، وأوتي مثله معه وهي السنة، ونحن أيضًا مأمورون بالعمل به، ثم انتقَل صلى الله عليه وسلّم إلى التحذير من نقضِ هذا الأصل الذي أصَّله بدعوى الإيمان بالقرآن وتعظيم القرآن دون شيءٍ غيره، وهو الباب الذي ينحرف من ينحرف دومًا عن شرع الله سبحانه وتعالى حيث يتمسَّك بأصل من الأصول، ثم هو في سبيل الدفاع عنه وتثبيت أركانه وتعظيمه ينقض الأصول الأخرى، فلا يلبث أن يعودَ على الإسلام كلّه بالهدم والنقض.

وهذا ما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلّم بعد قوله «أوتيت القرآنَ ومثلَه معه» حيث أمرنا بالتمسُّك بالدّين كلِّه، بالقرآن الكريم وبسنته صلى الله عليه وسلّم، وقال: «ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه»: يقول الخطابي رحمه الله: “«عليكم بهذا القرآن» فإنه يحذر بذلك مخالفةَ السنن التي سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما ليس له في القرآن ذكرٌ”([5])، فهم يدَّعون تعظيمَ القرآن الكريم، ولكنهم لا يشغلون أنفسَهم بفهمه والبحث عن معانيه والعمل به([6]).

وهذا النوع من الزيغ حصَل أوَّل ما حصل في الأمّة منَ الخوارج والروافض، وهم من أشهر الفرق والطوائف التي زاغت في ذلك الأصل الذي ذكرناه، وهو التمسك بأصل من الأصول ونقض أصول الدين الأخرى على حسابه، فيأتي على الدين كلِّه بالنقض والتقويض، حيث إن هؤلاء تعلَّقوا بظاهر القرآن وعظَّموه، ولكنهم تركوا السننَ التي قد ضمنت بيانَ ذلك القرآن، فضلّوا وأضلوا.

وهو ما نلمس شيئًا من آثاره في وصف النبي صلى الله عليه وسلّم للخوارج حيث يقول في الحديث الصحيح: «إنه يخرجُ من ضئضئ هذا قومٌ يتلون كتاب الله رطبًا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرمية»([7]).

فهم يقرؤون القرآن، ويدَّعون تعظيمه، ولكنهم أبعدُ الناس عن العمل بحدوده وأوامره ونواهيه، يقول الخطابي رحمه الله: “وفي الحديث دليل على أنه لا حاجةَ بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجَّه بنفسه”([8]).

فالسنة وحي من الله كما أن القرآن وحي من الله، وكما أننا متعبَّدون بتحكيمه والعمل به، فكذلك السنة نحن متعبدون بتحكيمها والعمل بها، ولا فرق بين السنة والقرآن في وجوب التحكيم والعمل، وهذا الفهم لم يصل إليه العلماء بأهوائهم، ولا بمجرد تفكيرهم في نصّ الحديث المقصود بالشرح هنا، بل بالنظر إلى كافّة النصوص التي وردت في هذا الموضوع، وهو ما يحسن بنا استعراضه هنا.

الأدلَّة على أن السنَّة وحيٌ مثل القرآن في الحجية والاتباع:

لما كانتِ السنة أصلًا من أصول الدين الإسلاميّ تنوَّعت الدلائل والنصوص الدالّة على ذلك، فإنّ ما اشتدَّت حاجة الناس إليه تنوَّعت دلائله وتضافرت براهينه وتيسرت حججُه بحيث يدركها كلّ أحد، قال ابن تيمية (728هـ): “وما اشتدَّت الحاجة إليه في الدين والدنيا فإن الله يجود به على عباده جودًا عامًّا ميسَّرا، فلما كانت حاجتهم إلى النفَس أكثرَ من حاجتهم إلى الماء، وحاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الأكل، كان سبحانه قد جاد بالهواء جودًا عامًّا في كلِّ مكان وزمان لضرورة الحيوان إليه، ثم الماء دونه، ولكنه يوجد أكثر مما يوجد القوت وأيسر؛ لأن الحاجة إليه أشد، فكذلك دلائل الربوبية حاجة الخلق إليها في دينهم أشدُّ الحاجات، ثم دلائل النبوة؛ فلهذا يسرها الله وسهَّلها أكثرَ مما لا يحتاج إليه العامة”([9]).

ولذا تكاثرت الدلائل على حجية السنة سواء في القرآن أو السنة نفسِها أو العقل؛ فالقرآن تارة يأمر بطاعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم واتِّباعه، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59]، قال ميمون بن مهران وغيره: “الردُّ إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والردُّ إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته”([10]).

وتارة يأمر بالتسليم للنبيّ صلى الله عليه وسلّم تسليمًا مطلقًا ظاهرًا وباطنًا، لا يقبل الله إيمانَ المؤمن دونه كما قال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وتارة يجعل طاعةَ الرسول من طاعة الله، فمن أطاع الرسول فهو مطيع لله تعالى؛ لأنه هو عز وجل من أرسله، يقول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وأخرى يأمر الله سبحانه وتعالى صراحةً باتباع كلّ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم والامتثال لأمره، ويحذِّر من مخالفته، قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

فكلُّ تلك الآيات دالَّة على ما دلَّ عليه الحديث من أن السنَّة مثلُ القرآن في الحجية والاتباع، وفي وجوب بالعمل بهما.

ومن تلك الآيات آية مشهورة عند أهل العلم، استدلَّ بها الإمام الشافعي (204هـ)، وأخَّرتها هنا لما لها من مزيد دلالةٍ على ما نرنو إليه في هذا البحث من بيان معنى المثلية بين القرآن والسنة، وهي قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، قال الشافعي رحمه الله: “سمعت من أرضَى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله”([11]).

ثم بيَّن الإمام الشافعي وجهَ هذا التفسير لِمَا بين القرآن والسنة من التماثل فقال: “لأنَّ القرآن ذُكِر وأُتبِعَته الحكمةُ، وذَكَر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتابَ والحكمة، فلم يجز -والله أعلم- أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله؛ لما وصفنا من أن اللهَ جعل الإيمانَ برسوله مقرونًا بالإيمان به، وسنةُ رسول الله مبيِّنة عن الله معنى ما أراد: دليلًا على خاصّه وعامّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فأتبَعَها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله”([12]).

ثم أورد جملة من الآيات التي جعلت السنة مثل القرآن في الطاعة والامتثال، وقرنت بينهما في الطاعة؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، وغيرها من الآيات.

وأما الأحاديث في هذا المعنى فكثيرة أيضا، نكتفي بعرض شيء منها:

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن طاعته من طاعة الله حيث قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله»([13]).

وأخبر أن الجنة إنما يدخلها من يطيعه ويتّبعه فقال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»([14]).

وجاء في امتثال أمره ونهيه قوله صلى الله عليه وسلّم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم»([15]).

ومِن لطيف الاستنباط ما نص عليه الإمام البيهقي (458هـ) رحمه الله حيث قال: “ولولا ثبوت الحجة بالخبر لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة بعد تعليم من شهد أمر دينهم: «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع»([16])”([17]).

وكل هذه الأحاديث تبيِّن لنا أنَّ السنة مثلُ القرآن في كونهما وحيًا، وأننا متعبَّدون بامتثالها واتباعها، ومأمورون بالتسليم لها.

وقد أجمع الصحابة -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- على الاحتجاج بالسُنة والعمل بها، ولو لم يكن لها أصل على الخصوص في القرآن، ولا يُعلم أحد خالف ذلك قطّ([18]).

دعوى وردُّها:

بعد استعراض الحديث، وبيان معنى المثلية فيه عند السلف والعلماء، وبيان تضافر الآيات على ذلك المعنى، ننتقل إلى ما يُدَّعى من تعارض هذا الحديث مع كلام الله تعالى، فقد قررنا أن السنة مثل القرآن في كونها وحيًا يُتعبَّد الله به، فادَّعى من ادَّعى أن ذلك مناقض لما في القرآن حيث ينفي أن يكون شيء مثله، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فهل هناك تناقض بين هذه الآية وذاك الحديث كما يقولون؟!

لنعرف هذا دعونا نستعرض معنى هذه الآية وسياقها وتفسيرها.

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:86-89].

يخبرنا المولى جل وعلا في هذه الآية بأنَّ هذا القرآنَ من أعظم الآيات الدالة عليه وعلى نبيه صلى الله عليه وسلّم، فهو كلام منزَّل من عنده سبحانه وتعالى، الخالق العليم الخبير، وهو الذي أوحى به، ولو شاء لذهب به ولم يستطع النبي صلى الله عليه وسلّم أن يأتي بكلام معجز مثله بمجرَّد قواه البشرية، بل لو اجتمعتِ الخليقة جمعاء على أن يأتوا بكلام معجز مثله في لفظه ومعناه ونظمه وسبكه وحلاوته لم يأتوا بمثله.

وأقوى دليل على كونه من الله أن الخلق كلَّهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله؛ لأنه من الخالق سبحانه، “فأخبر من ذلك الزمان أن الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يقدرون على معارضة القرآن بمثله، فمعجزة لفظه ومعناه ومعارفه وعلومه أكمل معجزة وأعظم شأنا، والأمر كذلك فإنه لم يقدر أحد من العرب وغيرهم مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكلّ طريق وقدرتهم على أنواع الكلام أن يأتوا بمثله”([19])؛ ذلك أن “القرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة، لا يشبه كلام الخلق؛ لأنه غير مخلوق، ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله”([20])، فالمماثلة المنفية في الآية المماثلة في الإعجاز بأنواعه وتقسيماته، كما قال الطاهر بن عاشور (1393هـ) رحمه الله: “والمراد بالمماثلة للقرآن: المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع، وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي”([21]).

وهذا من آيات نبوّته صلى الله عليه وسلّم، بل من أعظم دلائلها؛ “فإقدامه على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجنّ إلى يوم القيامة بأنهم لا يفعلون هذا، بل يعجزون عنه، هذا لا يقدم عليه من يطلب الناس أن يصدِّقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك؛ إذ لو كان عنده شكّ في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر، فيفسد عليه ما قصده، وهذا لا يقدم عليه عاقل، مع اتفاق الأمم -المؤمن بمحمد والكافر به- على كمال عقله ومعرفته وخبرته؛ إذ ساس العالم سياسة لم يسسهم أحد بمثلها، ثم جعله هذا في القرآن المتلوّ المحفوظ إلى يوم القيامة -الذي يقرأ به في الصلوات، ويسمعه العام والخاصّ، والولي والعدو- دليل على كمال ثقته بصدق هذا الخبر، لا يفعله من يقصد أن يصدِّقه الناس، فمن يقصد أن يصدقه الناس لا يقول مثل هذا، ويظهره هذا الإظهار، ويشيعه هذه الإشاعة، ويخلده هذا التخليد، إلا وهو جازم عند نفسه بصدقه، ولا يتصوّر أن بشرًا يجزم بهذا الخبر إلا أن يعلم أن هذا مما يعجز عنه الخلق؛ إذ علم العالم بعجز جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة هو من أعظم دلائل كونه معجزًا”([22]).

وهذا ما ذكره أساطين التفسير في معنى الآية، يقول الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله: “يقول جلّ ثناؤه: قل -يا محمد- للذين قالوا لك: إنا نأتي بمثل هذا القرآن: لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله، لا يأتون أبدا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض عونا وظهيرا”([23]).

ويقول ابن كثير (774هـ) رحمه الله: “نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم، فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتضافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له، ولا مثال له، ولا عديل له؟!”([24]).

وما أروع ما سطره بنان أبي السعود (982هـ) رحمه الله حيث قال: “قل للذين لا يعرِفون جلالةَ قدرِ التنزيل ولا يفهمون فخامةَ شأنه الجليل بل يزعُمون أنه من كلام البشر: {لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ وَالجِنُّ} أي: اتفقوا {عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ} المنعوتِ بما لا تدركه العقولُ من النعوت الجليلةِ في البلاغة وحسن النظم وكمالِ المعنى، وتخصيصُ الثقلين بالذكر لأن المنكِرَ لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما، لا لأن غيرَهما قادرٌ على المعارضة، {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أوثر الإظهارُ على إيراد الضميرِ الراجع إلى المِثْل المذكورِ احترازًا عن أن يُتوَّهم أن له مِثْلًا معينًا، وإيذانًا بأن المرادَ نفيُ الإتيانِ بمثْلٍ ما، أي لا يأتون بكلام مماثلٍ له فيما ذُكر من الصفات البديعةِ وفيهم العربُ العاربة أربابُ البراعةِ والبيانِ”([25]).

ويتضح لنا هذا المعنى أكثر إذا التفتنا إلى سبب نزول الآية.

سبب نزول الآية:

يتَّفق المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقرآن، وطلبوا منه أن يأتي بآية غير القرآن تشهد له على نبوته وصدقه -مع أن دلائل نبوته وصدقه لا حصر لها- بدعوى أنه كلام مثله مثل غيره، يستطيع كل أحد من الخلق أن يتكلم بمثله، ومن المفسرين من يحدّدهم ويقول بأنهم قوم من أهل الكتاب، زعموا أنه كتاب غير متناسق ولا ذلق ولا فصاحة فيه ولا بلاغة، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكتاب منزل من عند الله خاص لكل أحد منهم يقرؤونه ويؤمرون فيه باتباع النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأن القرآن الذي يتلوه والكلام الذي يقوله يستطيعون أن يقولوا مثله وأن يأتوا بمثله إن أرادوا، وهذا ما نصَّ عليه أهل التفسير، يقول الإمام الطبري: “هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قوم من اليهود جادلوه في القرآن، وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة له على نبوّته؛ لأن مثل هذا القرآن بهم قُدرة على أن يأتوا به… -ثم قال:- عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان وعمر بن أضا وبحري بن عمرو وعزيز بن أبي عزيز وسلام بن مشكم، فقالوا: أخبرنا -يا محمد- بهذا الذي جئتنا به حقّ من عند الله عز وجل، فإنا لا نراه متناسقًا كما تناسق التوراة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤوا به»، فقال عند ذلك -وهم جميعا: فنحاص، وعبد الله بن صوريا، وكنانة بن أبي الحقيق، وأشيع، وكعب بن أسد، وسموءل بن زيد، وجبل بن عمرو-: يا محمد، ما يعلمك هذا إنس ولا جان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل»، فقالوا: يا محمد، إن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما شاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا تقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله عز وجل فيهم وفيما قالوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]”([26]).

ويقول ابن عطية (542هـ) رحمه الله: “سبب هذه الآية أن جماعةً من قريش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنا نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنسًا وجنًّا على ذلك لم يقدروا عليه، والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم والرصف لمعانيه، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص، فإذا نظم كلمة خفي عنه للعلل التي ذكرنا أليق الكلام بها في المعنى”([27]).

سياق الآية:

سياق الكلام في هذه الآيات كما هو واضح هو في باب التحدي والإعجاز بالقرآن الكريم، وأنه كلام الله الخالق سبحانه وتعالى الذي لا يستطيع أحد من الخلق أن يأتي بمثله، لا ملك ولا رسول ولا غيرهم من المقربين عنده سبحانه، ففي الآية التي قبلها يذكر الله سبحانه وتعالى نبيه بالفضل العظيم والخير الجسيم الذي اختصَّه به من بين سائر البشر ومن بين سائر أنبيائه ورسله؛ أن جعل كلامه عز وجل موحى إليه وإلى أمته، وجعله محفوظًا رغم كثرة أعدائه وتنوع أساليبهم لتضييعه وتحريفه أو إتلافه ومحوه، وهذا من رحمته سبحانه وتعالى به وبأمته من بعده، قال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86].

يقول ابن كثير (774هـ) رحمه الله: “يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد”([28]).

فالسياق في الكلام عن إعجاز القرآن وتفرده في ذلك مما يدلّ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وصدقه وصحَّة ما جاء به من الدين الإسلامي؛ ولذلك كان التحدّي بهذه الآية أنه لن يأتي أحد بمثل هذا القرآن، لا في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم ولا بعده، والتحدِّي قائم اليوم وإلى قيام الساعة، فلن يأتي أحد بمثل القرآن، ولا بسورة من مثله، ولا بآية في إعجاز لفظه ومعانيه ونظمه وترتيبه وتناسقه. ثم أخبر الله أنه جاء في القرآن بكل طريق من طرق الاعتبار والتذكير، ولكنهم لا يواجهون ذلك كله إلا بالكفر والاستكبار، بل ويفتعلون في سبيل ذلك الأسئلة التعجيزية التي لم يسألوها إلا تعنتًا وعنادًا، لا طلبًا للحقّ، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 89-93].

وكانت قريش قد اجتمَعت للنبي صلى الله عليه وسلّم تنكِر عليه ما جاء به وتقول له: “فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا”([29])، وعرضت عليه المال والنساء والسلطان -وهذه الثلاث هي مطلوب النفوس من الدنيا([30])- ليعرض عن دعوته والقرآن الذي جاء به، فأخبرهم أنه جاء بهذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وهي آية كافية في الدلالة على نبوته، ولكنهم تعنتوا واستكبروا، وقال قائلهم: “إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلادًا ولا أشدّ منا عيشًا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال”، وقال آخر: “فسل ربك أن يبعث لنا ملكًا يصدِّقك، واسأله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها”، وقال ثالث: “فأسقط السماء كما زعمت”، وقال رابع: “لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا”، فهذا سياق الآية في التحدِّي بإعجاز القرآن عن أن يأتوا بمثله، ودلالة عجزهم، وهم أهل اللغة على أنه كلام منزل من عند الله سبحانه وتعالى، لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله في الإعجاز والتحدي([31]).

السنة وحي مثل القرآن ولكنها ليست مثل القرآن في الإعجاز:

لا يشكّ من عنده شيء من العقل في أن السنة ليست مثل القرآن، بل يظهر الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلّم لكلّ أحد، فالقرآن لا يستطيع أحد من الخلق أن يتكلَّم بمثله؛ لأنه كلام الخالق، والنبي صلى الله عليه وسلّم كان يخبر به على أنه مبلّغه عن الله سبحانه وتعالى بلفظه ومعناه دون أن يكون له أدنى تدخّل، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، فهو صلى الله عليه وسلّم كان يبلغ القرآن عن ربه، وكان يفرق بين القرآن الذي هو كلام الله وبين كلامه صلى الله عليه وسلّم، فلم يكن يأمر عليه الصلاة والسلام بأن يقرأ بكلامه في الصلاة كما أمر بقراءة كلام الله تعالى في الصلاة، ولم يكن يتحدَّى بكلامه ولا يدَّعي فيه الإعجاز كما أخبر عن القرآن أن الخلق أجمع لن يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولم يكن يدَّعي أن كلامه مثل القرآن في نظمه أو لفظه أو سبكه أو تناسقه، ولم يدع أن كلامه وألفاظه مثل القرآن الذي ترتيب ألفاظه وآياته توقيفي، ولم يدَّع يومًا من الأيام بأن القرآن كلامه أو مثل كلامه، بل يخبر بأنه كلام الله سبحانه وتعالى كما في كثير من الآيات والأحاديث، وإنما أخبر في هذا الحديث أنه أوتي القرآن وأوتي معه مثله في الاحتجاج والعمل به، فكما أن القرآن حجَّة يعمل بها فكذلك قوله وسنته حجة يعمل بها، ولا أدلَّ على ذلك من نص الحديث نفسه، حيث حذَّر ممن يترك قوله وسنته بحجة أنه لم يرد في القرآن، ثم ليؤكد هذا المعنى وأن السنة مثل القرآن في كونه حجة يعمل بها نصَّ على جملة من الأحكام التي أمر بها صلى الله عليه وسلّم، ولم ترد في القرآن، ويجب على المسلمين العمل بها، فقال: «ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم، فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه»([32]).

يقول ابن تيمية رحمه الله: “الخلق كلهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد صلى الله عليه وسلم نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبّر، كما قد أخبر الله به في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، والقرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة للموافق والمخالف أن محمدًا صلى الله عليه وسلّم كان يقول: إنه كلام الله لا كلامه، وأنه مبلغ له عن الله، وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلَّم به من السنة، وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقًا وعملًا. فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلَّم أمته الكتاب والحكمة، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]… وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»“([33]).

فهو هنا بيَّن حجية السنة النبوية، وأنها مثل القرآن في الاحتجاج، مع بيانه أن القرآن يختصّ عن السنة بكونه معجزًا، فليس هو مثل القرآن، والفرق بينه وبين كلام رسول صلى الله عليه وسلّم ظاهر لكل أحد.

ثم قال مفصِّلًا التفريق بين القرآن والسنة: “فكان يعلِّم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه، وهو الذي قال عنه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم، فلا تصحّ صلاة إلا به، وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه، وفرَّق بينها وبين القرآن من وجوه:

منها: أن القرآن معجز.

ومنها: أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها.

ومنها: أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات، فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين، ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العربي.

وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها فلا يجوز باتفاق المسلمين، بخلاف ما علمهم من الحكمة، فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن.

ومنها: أن القرآن لا يمسّه إلا طاهر، ولا يقرؤه الجنب كما دلّت عليه سنته عند جماهير أمته، بخلاف ما ليس بقرآن.

والقرآن تلقته الأمة منه حفظًا في حياته، وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه، وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه، وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر، فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر، وهو يقول: إنه مبلغ له عن الله، وهو كلام الله لا كلامه.

وفي القرآن ما يبين أنه كلام الله نصوص كثيرة… وما قاله [أي: المسيح] -عليه السلام- فهو مبلغ له عن الله، يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره، كما قاله الرسول من السنة، فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة، فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب»([34]) ونحو ذلك.

ومنها ما يقوله هو، ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله”([35]).

وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن هذا الحديث فقال: “فهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعنى «ومثله معه» يعني: أن الله أعطاه وحيًا آخر وهو السنة التي تفسر القرآن وتبين معناه… فأحاديثه ﷺ وحي ثان غير وحي القرآن، ومعناها وحي، وألفاظها من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون بعضها أحاديث قدسية من كلام الرب عز وجل أوحاها الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام، فتسمى أحاديث قدسية، وهي من كلام الله عز وجل، وهي وحي ثان غير وحي القرآن. فالقرآن أنزل للإعجاز، وأما الأحاديث القدسية فهي أنزلت لما فيها من العظة والتذكير والأحكام التي تنفع الأمة، فهي وحي ثان من الله عز وجل للرسول عليه الصلاة والسلام… فالوحي على هذا أنواع ثلاثة:

الأول: القرآن الكريم، وهو الذي جعله الله معجزة عظيمة مستمرة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لفظه ومعناه، وبين فيه أحكامه…

والوحي الثاني: أحاديث قدسية من كلام الله عز وجل، أوحاها الله لنبيه ﷺ وليس من القرآن…

والوحي الثالث: وحي أوحاه الله إليه وخبر عنه النبي ﷺ وبينه للأمة، فهو من الله وحي وهو من كلام النبي ﷺ لا من كلام الله…

فهي كلها وحي، لكنها وحي بالمعنى، وألفاظها ألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام. وهي من جهة الله أوحاها الله إلى نبيه، وأخبره بها ونزل بها الوحي إليه عليه الصلاة والسلام ليبلغها الناس في أحكام دينهم من العبادات وغيرها”([36]).

الخاتمة:

في نهاية هذه الجولة الماتعة بين كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلّم تبيّن لنا أن قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] أي: في الإعجاز، ولا يزعم أحد أن القرآن مثل السنة في ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»([37])، فأخبر أنه أوتي القرآن وأوتي مثله في كونه وحيًا من الله سبحانه وتعالى، وكوننا مأمورين بتصديقه واتباعه والعمل به، وذكر جملة من الشرائع التي لم ترد في القرآن، وحذَّر من ترك العمل بها بدعوى الاقتصار على القرآن.

وما أحسن أن نختم بما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: “وأي هذا كان، فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله، وأن قد جعل الله بالناس الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من سنن رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته صلى الله عليه وسلم إذا كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب أخرى، فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله، بل هو لازم بكل حال”([38]).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) سيأتي قريبًا نصّه كاملًا وتخريجه.

([2]) أخرجه أبو داود: كتاب السنة، باب لزوم السنة (4604)، وأحمد (17174) واللفظ له، وصحَّح إسناده ابن باز كما في مجموع فتاويه (1/ 220، 245).

([3]) معالم السنن (4/ 298).

([4]) بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 14).

([5]) معالم السنن (4/ 298).

([6]) ينظر: عون المعبود وحاشية ابن القيم (12/ 232).

([7]) أخرجه البخاري (4351).

([8]) معالم السنن (4/ 298).

([9]) الجواب الصحيح (5/ 435).

([10]) ينظر: جامع البيان (8/ 505).

([11]) الرسالة (ص: 78).

([12]) الرسالة (ص: 78-79).

([13]) أخرجه البخاري (2957)، ومسلم (1835).

([14]) أخرجه البخاري (7280).

([15]) أخرجه مسلم (1337).

([16]) أخرجه البخاري (1739)، ومسلم (1679).

([17]) دلائل النبوة (1/ 23).

([18]) ينظر: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين، د. محمد محمد أبو شهبة (ص: 16).

([19]) الجواب الصحيح (1/ 427).

([20]) تفسير البغوي (5/ 127).

([21]) التحرير والتنوير (15/ 203).

([22]) الجواب الصحيح (5/ 409).

([23]) جامع البيان (17/ 546).

([24]) تفسير ابن كثير (5/ 117).

([25]) إرشاد العقل السليم (5/ 193).

([26]) جامع البيان (17/ 547).

([27]) المحرر الوجيز (3/ 483).

([28]) تفسير ابن كثير (5/ 117).

([29]) ينظر: تفسير البغوي (5/ 128).

([30]) الجواب الصحيح (5/ 335).

([31]) ينظر: تفسير البغوي (5/ 128)، زاد المسير في علم التفسير (3/ 52).

([32]) سبق تخريجه.

([33]) الجواب الصحيح (3/ 18) وما بعدها.

([34]) أخرجه البخاري (6502).

([35]) الجواب الصحيح (3/ 20) وما بعدها.

([36]) فتاوى نور على الدرب، على الرابط: https://cutt.us/8teOo.

([37]) سبق تخريجه.

([38]) الرسالة (1/ 104).

المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات

عن

شاهد أيضاً

أنتم أعلم بأمور دنياكم – دراسة تحليلية

[embeddoc url=”https://drive.google.com/file/d/1HtgvzhPzyUQCQrx55y173WrGV__b2LYC/preview?usp=drive_web” viewer=”drive” ]

اترك تعليقاً