مقدمة:
المسلم يسلِّم بصدق الوحي في الأخبار وعدله في الأحكام، وهذه إحدى المحكمات الشرعية التي يُتمسَّك بها عند الاشتباه، ومن الوارد شرعًا والجائز عقلًا أن تتعارض بعض الأدلة تعارضًا ظاهريًّا قد يُربِك غيرَ الراسخ في العلم ويجعله أحيانًا في حيرة؛ لكن ميزة الشريعة أنَّ الحيرة التي تَقع في أدلَّتها لا تعُمُّ الأمةَ ولا تدوم كذلِك، بل هي عارضةٌ وبحسَب الشخص وحالِه، وهذا التعارض هو ميدان الفقهاء ومجال العلماء، وفيه يتفاضل الناسُ في الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فأُمِّيَّةُ الشريعة لا تُنافي عمقَها المعرفيّ، ولا سموَّها العلميّ، بل من إعجازها أن تجمع بين تكليفِ العامَّة واجتهاد الخاصّة، فالكلُّ مخاطَب بالشرع، فالأول مخاطَبٌ بتطبيقِه، والثاني بالتطبيق والبيان، وقد أخذ الله الميثاقَ في ذلك عليه، وهذا الميدانُ بابٌ من أبواب الابتلاء للناسِ في الإيمان بالشرع؛ لأنه لو شاء الله أن ينزلَ قواطعَ من الأدلة لا شبهة فيها ولا اعتراض عليها لفَعل؛ لأنه على كلِّ شيء قدير؛ لكن اقتضت سنته أن تكون الحجةُ بقدر منَ الإقناع يُدركه المؤمن بعقله وتوفيق الله لَه، والشبهةُ بقدرٍ لا تكون غالبةً، لكن يتَّبعها من صُرِف عن الحقِّ، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [الأنعام: 105]، قال الطبري: “يقول تعالى ذكره: كما صرفت لكم -أيها الناس- الآياتِ والحججَ في هذه السورة وبيَّنتها، فعرفتكموها في توحيدي وتصديقِ رسولي وكتابي، ووصيتكم عليها، فكذلك أبيِّن لكم آياتي وحجَجِي في كلّ ما جهلتموه فلم تعرفوه من أمري ونهيي”([1]).
وهذا التصريفُ والتكرير والتغيير في العبارة بحسب المقام ومقتضى الحال كلُّه قد يؤدِّي ببعض أهل الباطل إلى اعتقادٍ خاطئ في الحقِّ ومعارِض للشرع.
أقسام الناس في الموقف من أحاديث الدجال:
من بين بعضِ الأدلة التي وقع فيها ما يوهِم التعارضَ أحاديثُ الدّجّال، وقد تكلَّم الناسُ فيها، فخفضوا ورفعوا، وانقسموا فيها إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم كفر بالشرع وبالنبوة، واتخذ هذه الأحاديث حجةً في دعواه.
2- وقسم كفر بالسنة أو ببعضها، واتخذ كذلك هذا التعارض حجة لزعمه.
3- وقسم وهم الراسخون في العلم، بيَّنوا الأحاديث ومعانيَها، ودفعوا عنها الإشكالَ الوارد عليها.
ونحن بعون الله نبيّن هذا المسلك الأخير، ونوضِّحه للقارئ، بعد ذكر الشبهةِ وتصويرها وإخضاعها للبحث العلمي من خلال هذه المباحث:
المبحث الأول: مفهوم التعارض في اللغة والاصطلاح:
أصل التعارض في اللغة من العرض، وهو ذو دلالة متعددة، فيطلق على معان عدة، منها: الظهور، فعرض الشيء إبرازه وإظهاره، وعرَضَ المتاع أي: أظهره للبيع والشراء، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100]. ومنه: المقابلة، عارضه في الطريق: سلك طريقا غير طريقه، وعارضه في الحديث أي: خالفه([2]).
أما في الاصطلاح فله تعاريف عدة منها: “تقابل الدليلين على سبيل الممانعة”([3]).
وبعضهم يختصر فيقول: التعارض هو التناقض([4]).
وبعض التعريفات ليست من صلب الموضوع؛ لأنها تتكلم عن تعارض البينات في باب القضاء؛ فلذلك أهملناها، وحاصل قولهم في التعارض أنه يقع بين الأدلة الشرعية، لكن وقوعه مقيد بأمور منها:
- أنه لا يقع بين قطعيَّين.
- ولا بين قطعي وظنيّ سواء كان شرعيّا أو عقليّا إذ القطعيّ مقدَّم مطلقًا.
- وأن يكون تقابُل الدليلين في وقتٍ واحد، وفي محل واحدٍ؛ لأنّ المضادة والتنافي لا يتحقق بين الشيئين في وقتين، ولا في محلّين حسًّا وحكمًا.
- ولا بين الأخبار؛ لأن الأخبار لا تحتمل إلا الصدق والكذب، ولا وجه للتعارض بينهما مع استحالة الكذب في الشرع([5]).
فإذا تبين هذا علم أن التعارض خارج عن ذات الأدلة، وراجع إلى نظر المكلَّف مجتهدًا كان أو مستشكِلًا، وما يقع في أخبار الشرعِ فإنه أحظَى بالإشكال من التعارض، ويُمكن نقاشُه في هذا الإطار، وهو ما نبيِّنه في المبحث الآتي في قواعد التعارض:
المبحث الثاني: قواعد التعارض:
وهنا ندرس ضوابط التعامل مع النصوص وأسباب الإشكال فيها؛ وذلك أن المسلم لديه محكماتٌ شرعية مسلَّمة، هي الأصل في كلّ شيء، وهذه المحكمات هي:
أولا: أن أخبار الشرع كلها صِدق؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا} [النساء: 122] أَيْ: لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ قِيلًا([6]).
فمتى ما صحت نسبة الخبر إلى الشرع جُزِم بصدقه وعدم تخلُّفه إن كان وعدًا، ووقوعه إن كان خبرًا سابقًا أو لاحقًا.
وقد تكلم العلماء عن صور إمكان التعارض بين الأخبار وطرق التعامل معها، يقول الباقلاني رحمه الله: “الأخبار على ضربين: ضرب منها يُعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم به، إما بضرورة أو دليلٍ، ومنها ما لا يُعلم كونُه متكلِّما به، فكل خبرين علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلَّم بهما فلا يصحّ دخول التعارض فيهما على وجه وإن كان ظاهرهما متعارضين؛ لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك أن يكون موجب أحدهما منافيا لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كانا أمرا ونهيا وإباحة وحظرا، أو يوجب كون أحدهما صدقا والآخر كذبا إن كانا خبرين، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة وكل مثبت للنبوة، وإذا ثبت هذه الجملة وجب متى علم أن قولين ظاهرهما التعارض ونفى أحدهما لموجب الآخر أن يحمل النفي والإثبات على أنهما في زمانين، أو فريقين، أو على شخصين، أو على صفتين مختلفتين، هذا ما لا بد منه، مع العلم بإحالة مناقضته عليه السلام في شيء من تقرير الشرع والبلاغ، وهذا مثل أن يعلم أنه قال: الصلاة واجبة على أمتي، وقال أيضا: ليست بواجبة، أو الحج واجب على زيد هذا، وهو غير واجب عليه، وقد نهيته عنه، ولم أنهه عنه، وهو مطيع لله فيه وهو عاص به، وأمثال ذلك، فيجب أن يكون المراد بهذا أو نحوه أنه آمر للأمة بالصلاة في وقت، وغير آمر لها بها في غيره، وآمر لها بها إذا كانت متطهرة وناه عنها إذا كانت محدثة، وآمر لزيد بالحج إذا قدر، وغير آمر إذا لم يقدر، فلا بد من حمل ما علم أنه تكلم به من التعارض على بعض هذه الوجوه، وليس يقع التعارض بين قوليه إلا بأن يقدر كونه آمرا بالشيء وناهيا عنه لمن أمر به على وجه ما أمره به”([7]).
ويقول الشاطبي رحمه الله: “لا تجد البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف؛ لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم”([8]).
ثانيا: ظواهر الوحي كلها حق وصدق، فالوحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد وصف الله أحكامه وآياته بالصدق والعدل، فقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 115].
ثالثا: الأخبار المتعارضة من المتشابه، فترد إلى المحكم لتتبين، يقول القرطبي مبيِّنًا بعضَ أنواع المتشابه: “ومنه أيضا: تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه”([9])، فإن اتضح المتشابه فبها ونعمت، وإن لم يتَّضح فيوكل أمره إلى الله، قال الحسن في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [البقرة: 121]: “يعملون بمحكمِه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكِلون ما أشكَل عليهم إلى عالمه”([10]). يقول ابن القيم رحمه الله: “وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق، وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتَّفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضًا، ويصدق بعضُها بعضا، فإنها كلّها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره”([11]).
رابعا: الإشكال أو التشابه يَرِد على المكلف من جهات: غرابة اللفظ، وسوء الفهم، وشبهة في نفسه تمنعُه من الحقّ، وعدم التدبر([12]). ولا يزول الإشكال عن الإنسان إلا بزوال الأسباب المسَبِّبة له، وقد تكلم العلماء في طرق دفع التعارض بين الأحاديث.
وقبل ذلك لا بأس أن نُفهِم القارئَ أن التعارض لا يمكن أن يكون تناقضًا إلا إذا شمل أمورا عدة: “اتحاد الموضوع، والمحمول، والإضافة، والجزء، والكل، وفي القوة، والفعل، وفي الزمان والمكان، وزاد بعض المتأخرين تاسعا وهو اتحادها في الحقيقة والمجاز؛ ليخرج نحو قوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2] وهو راجع إلى الإضافة، أي: يراهم بالإضافة إلى أهوال يوم القيامة سكارى مجازا، وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر”([13]).
ولدفع التعارض طرق كثيرة، منها: النظر إلى سند الحديث، فلا تعارض بين صحيح وضعيف، ولا بين رواية محفوظة وأخرى شاذة، ومنها الجمع والترجيح، ولا كلام على النسخ؛ لأنه لا يدخل الأخبار الشرعية، ونحن بعون الله نَعرض الأحاديث المتعارضة في خروج الدجال على القواعد التي مرت.
المبحث الثالث: تعارض الأحاديث في خروج الدجال:
الناظر في النصوص الشرعية يجدها سارية على التدرج في بيان القضايا بحسب ما يقتضيه الحال والمقام، فهي لم تنزل دفعة، ولا بيَّنت كل القضايا جملةً، بل أجملَت وفصَّلت، لكنها أحكَمت كلَّ الأحكام، وصدَّقت في كلّ الأخبار. وحين ننظر في الأخبار نجد أنها تفصِّل لكلٍّ بحسب الحاجة، فجميع الأنبياء أخبروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمبعثه، قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81]، قَالَ قَتَادَة: “هَذَا مِيثَاق أَخذه الله على النَّبِيين أَن يصدق بَعضهم بَعْضًا، وَأَن يبلغُوا كتاب الله ورسالاته إِلَى عباده، وَأخذ مِيثَاق أهل الْكتاب فِي كِتَابهمْ فِيمَا بلغتهم رسلهم أَن يُؤمنُوا بِمُحَمد ويصدقوه وينصروه”([14]).
وهكذا في قضية المسيح الدجال، فإنه ما من أمة إلا وكان لها به علم بحسب حالها، لكن أخباره عند أمة محمد أوسع وأوضح؛ لأنه يخرج فيها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلاَ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ»([15]).
ومع ذلك فقد تدرجت الأخبار، وكانت تفصِّل في أمره شيئًا فشيئًا، وهذا ما أوهم التعارضَ فيها عند من لم يُحكم أبواب العلم، وحاصل التعارض يقَع في شيئين:
الأول: أحاديث تخبر أنه يمكن أن يخرجَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث تثبِت أنه لا يخرجُ في عهد رسول الله بل بعده.
الثاني: أحاديث تَنفي دخولَه لمكَّة، وأخرى يُفهَم منها خلافُ ذلك.
أما الأحاديث الأولى: التي تخبر بخروجه فمنها قوله عليه الصلاة والسلام: «غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شابّ قَطَط، عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشأم والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا»([16]). وكون النبي صلى الله عليه وسلم ظنَّه ابنَ الصياد.
وأحاديث أخَر أن عيسى هو من يقتُله ويؤمّ الأمَّة رجل منها([17])، وكلها تدلّ على أن خروج الدجال ليس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في حياته.
فكان هذا موهمًا للتعارض، والحقُّ أن لا تعارض؛ لأن النبي صلى الله الله عليه وسلم كان يخبر بما يخبر به عن الدجال ولم يفصَّل له في أمره، وهذا له مصداقٌ في الشرع، فقد مرَّ أن الأنبياء أَخبروا بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد يُبعث في أي وقت، وأنه يجب اتّباعه، وجزم عيسى بمجيئه من بعده؛ لأنه أعطي فيه ما لم يكن عند من سبقه، وهكذا في شأن الدجال، فقد كان عند النبي من أمره أنه يخرج ولا يدري متى يخرج، وكانت بعض أماراته تتحقَّق في بعض الناس، فيظنّه هو، حتى أعطِيَ له فيه قولٌ فصلٌ، وقد تكلَّم العلماء عن ابن صياد وعما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم معه، قال الطحاوي: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من ابن صياد ما رأى من عينه، ولما سمع من همهمته ما سمع، ولما وقف عليه من شواهده المذكورة عنه في هذا الحديث؛ لم يأمن أن يكون هو الدجال الذي قد أعلمه الله خروجه في أمته، فقال فيه ما قال بغير تحقيق منه أنه هو إذ لم يأته بذلك وحي; ولا أنه ليس هو إذ لم يأته بذلك وحي، ووقف عن إطلاق واحد من ذينك الأمرين فيه”([18]).
وقال العلماء: “وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة؛ فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره؛ ولهذا قال لعمر رضي الله عنه: «إن يكن هو فلن تستطيع قتله». وأما احتجاجه هو بأنه مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو، وأنه لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة؛ فلا دلالة له فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض”([19]).
قال الحافظ ابن حجر: “وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا، وأن ابن صياد شيطان تبدَّى في صورة الدجال في تلك المدّة إلى أن توجَّه إلى أصبهان، فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدّة التي قدر الله تعالى خروجه فيها، ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح، فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم”([20]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبيَّن له فيما بعد أنه ليس هو الدجال؛ لكنه كان من جنس الكهان، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد خبأت لك خبئا»، قال: الدخ الدخ. وقد كان خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اخسأ فلن تعدو قدرك» يعني: إنما أنت من إخوان الكهان؛ والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب كما في الحديث الصحيح”([21]).
وقال ابن كثير رحمه الله: “والمقصود أن ابن صياد ليس بالدجال الذي يخرج في آخر الزمان قطعا; لحديث فاطمة بنت قيس الفهرية، فإنه فيصل في هذا المقام”([22]).
أما الشق الثاني من الأحاديث فقد ورد أنه لا يدخل مكة والمدينة كما في الحديث: «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق»([23])، وورد في بعض الأحاديث ما يوهم دخوله لمكة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «وأراني الليلة عند الكعبة في المنام، فإذا رجل آدم، كأحسن ما يرى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح ابن مريم، ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال»([24]).
وقد تكلم العلماء في الحديث، وأجابوا عن التعارض الظاهري بعدة أجوبة:
منها: أن الدجال لا يدخل مكة زمن خروجه وفتنته، ولا ينفي دخوله لها قبل ذلك([25])، وورد حديث بهذا المعنى وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب لكل باب ملكان»([26]).
ومنها: أن طواف الدجال بالبيت رؤيا، ورؤيا المنام جائزة التأويل على خلاف ظاهرها، ولا يلزم وقوعها في الخارج كما رُئِيت.
فمن فهم هذه الأحاديث وفق مراد الشارع، وكان مقصده الصدق والإخلاص، فإن الأمر لا يشتبه عليه ولا يشكل، والتوفيق من الله سبحانه هو المعول عليه في الباب.
ويشهد له أن عيسى عليه السلام على حرب مع الدجال، لا يجتمعان، فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لهما لا شك أنها على خلاف ظاهرها.
والله تعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) ينظر: لسان العرب (7/ 147)، ومختار الصحاح (ص450).
([3]) منتهى السول (ص553)، البحر المحيط للزركشي (4/ 140)، أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1481).
([5]) ينظر: الأصول للسرخسي (2/ 12)، وقواطع الأدلة للسمعاني (1/ 140).
([7]) ينظر: الكفاية في علم الرواية (ص433).
([11]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 210).
([12]) ينظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين (ص74).
([13]) البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 28).
([14]) ينظر: تفسير ابن أبي زمنين (1/ 299).
([15]) أخرجه البخاري (7131)، ومسلم (2933).
([19]) عون المعبود وحاشية ابن القيم عليه (11/ 321).
([21]) مجموع الفتاوى (11/ 283).
([22]) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 108).
المصدر:مركز سلف للبحوث والدراسات الإسلامية