الرئيسية / شبهات وردود / شبهات حول حجية السنة / أخبار الآحاد في الحديث النبوي عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين

أخبار الآحاد في الحديث النبوي عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين

 

أخبار الآحاد
في الحديث النبوي

عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين

مقدمة
تمهيد

المقدمة: وتشتمل على ستة فصول:

الباب الأول: في تعريف الخبر وأقسامه وفيه ثلاث فصول :

الباب الثاني: شروط العمل بخبر الواحد وفيه ثلاث فصول:

الباب الثالث: ما يفيده خبر الواحد وفيه ثلاث فصول:

الباب الرابع: في حكم قبول الآحاد في العقائد وفيه فصلان:

الباب الخامس: حكم العمل بخبر الواحد وفيه فصلان:

الباب السادس: جملة من أخبار مختلف فيها

خاتمة: وجوب التمسك بالحديث الصحيح وإن خالف المذاهب والآراء

 

المقدمة

الحمد لله الذي أرسل محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، وأمره ببيان ما نزل إليه من الكتاب، فامتثل ذلك و وضح لأمته ما أرسل به من الشريعة، و ما كلفت به من العبادات، و ما يصلحها و يحفظ لها كيانها من المعاملات و المعاهدات، فأكمل الله به لنا الدين، وأتم علينا النعمة، و تبعه صحابته رضي الله عنهم الذين تقبلوا شريعته و طبقوا تعاليمها وساروا على نهجه و حفظوا لمن بعدهم ما تلقوه من نبيهم، وبلغوا ما سمعوه و لم يكتموا شيئاً من العلم الذي عرفوه، و سار على نهجهم أتباعهم إلى هذا اليوم، في حفظ نصوص هذه الشريعة، و في إيضاح معانيها و تطبيقها والعمل بما تقتضيه، فلم يظهر أي نقص أو خلل في هذا الدين، و لم يحتج أهله إلى تحكيم عقل ولا رجوع إلى رأي، أو نظر قاصر، فلله الحمد و له الشكر و له الثناء الحسن.

وبعد:

فلما كنت في سن الطلب والإعداد لنيل درجة الماجستير، اخترت أن أكتب الرسالة في أخبار الآحاد في الحديث النبوي، فجمعت في ذلك الحين ما تيسر على عجل كمبتدئ، وقام بالإشراف على البحث فضيلة الشيخ عبدالرزاق عفيفي، و قدمت الرسالة للبحث، فنالت درجة الامتياز لانفرادها في الموضوع لا لقوة الأسلوب و لا لعمق البحث، و كنت بعد ذلك أهم بأن أعيد فيها النظر و أتوسع فيها و أحقق ما يحتاج إلى التحقيق و أزيد في مناقشة بعض تلك الشبهات و أراجع بعض ما فاتني من المراجع، و لكن الانشغال بالأعمال الإدارية حال دون تحقيق ما أتمنى.

و توالت الأيام و الشهور و مضت الأعوام سنة بعد سنة، و لم يتيسر لي المراجعة، فاستحثني بعض الإخوان أن أنشرها، ليعم نفعها، ويطلع عليها من لم يعرف شيئاً عن هذا الموضوع، و يزول عن القلوب بعض تلك الشبهات التي يروجها أعداء الدين قديماً و حديثاً، فلم أجد بداً من تلبية هذا الطلب و الإذن بطبعها كما كانت، ولعل نشرها يلفت أنظار أكابر العلماء إلى أهمية هذا الباب، فيحققوا فيه البحث، ويوفوه حقه من الكتابة لتنقطع جذور تلك الشبهات التي تتردد على الألسن و في الصحف و الإذاعات من أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، و أنها لا تعتمد في الأصول.. إلخ. و لعل من يكتب في هذا الباب أن يتتبع الأحاديث الصحيحة التي يروجونها و يطعنون فيها من حيث المتن، ويعيبون بها كتب الصحاح، كحديث السحر و الذباب.. الخ.

وبعد:

فهذا جهد مقل و قدرة مفلس كتبه لنفع نفسه ثم لإخوانه المسلمين، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، و ما كان من خطأ فمني و من الشيطان، و الله و رسوله بريء من ذلك و الله الموفق و المعين و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.

عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين

في 23/11/1404هـ

التمهيد

 مما يعلم ببداهة العقول تفاوت الناس في العلم بالشيء قوة و ضعفاً، بحسب تفاوتهم في الإقبال عليه و الاشتغال به.

و لما كان أهل الحديث مكبين على طلبه و قد أفنوا أعمارهم في تعلمه و تعليمه، و تتبع رواياته، و المقارنة بينها، و سبر موافقة الرواة بعضهم بعضاً، و تواردهم على الحديث الطويل بسياق واحد أو متقارب، مع تنائي الديار و تفاوت الآراء، فلا جرم عرفوا من أثر هذا التتبع رواية الموثوق المقبول من ضده، و حصل لهم العلم اليقيني بالكثير من الآحاد التي تمت فيها شروط القبول؛ و من المعلوم أيضاً بداهة وجود التفاوت العظيم بين نقلة الأخبار، و رواة الحديث، مما سبب الجزم لأول مرة بصدق الخبر الذي نقله من عرف بالصدق و الأمانة، و الصلابة في الدين، و اشتهر عنه الحفظ و الفهم بأدائه للخبر كما هو في كل وقت، مع التثبت و الاحتياط الذي يحجزه عن التحديث بما لا صحة له، أو بما يتوقف في ثبوته كما هو حال الأئمة المشهورين من الصحابة و من تبعهم.

و هكذا الحكم برد الخبر عندما يعرف ناقله بتعمد الكذب، أو خفة الديانة أو يعلم منه سوء الحفظ، أو مخالفة الثقات، أو نحو ذلك من القرائن و الأمارات التي برع فيها أئمة هذا الشأن.

و حينئذ فمن الخطأ إطلاق القول بأن خبر الواحد يفيد العلم أو الظن.

والصواب أن يحكم على كل خبر بما يليق به من ظن أو يقين، مما قد تكفل به جهابذة العلماء من صدر هذه الأمة، حيث تتبعوا كل حديث مرفوع يدور على الألسنة أو يوجد في دواوين السنة، فبينوا درجته، و حكموا عليه بما يستحقه من جزم أو تردد أو ظن غالب.

و لم يجعلوا مستندهم دائماً عدالة الراوي أو ضعفه فقط، بل أضافوا إلى ذلك ما يتصل بالخبر من قرائن تقوي أحد الاحتمالين.

 

المقدمة: وتشتمل على ستة فصول:

وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

واتباع سنته والتحاكم إلى ما جاء به

            لا شك أن دخول أي عاقل في هذا الدِّين يتوقف على شهادته لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم اعتقاده لمعنى هذه الشهادة دائماً، واطمئنان قلبه بأَنها تتضمن الإقرار بأَنه صلى الله عليه وسلم قد جاء برسالة ربه إلى المكلفين، التي توجب تعبدهم بكل ما يتقربون به إلى ربهم من أَفعال وأَقوال واعتقادات، وما يترتب على متابعته أو مخالفته في ما بلَّغه من الثواب أَو العقاب.

          ومع أَن هذا المعنى هو المفهوم من هذه الشهادة، والمدلول للفظها، فقد صَّرح الله تعالى به في القرآن، ونوَّعه بعبارات تؤدِّي هذا المعنى، وتدور عليه، وإليك بعض هذه العبارات من القرآن، وما يشهد لها من السنة مع وجه دلالتها.

  1. الأَمر بالإيمان به:

          كما أمر بالإِيمان بالله، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وتهديد من أَبى ذلك، وتوعده بالعذاب، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا امِنُوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيدا)(النساء:136). وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم)(الحديد:28). وقال تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا)(التغابن:8). وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون)(الأعراف:158). وقال تعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)(الفتح:13).

          وهكذا أيضاً صرح النبي صلى الله عليه وسلم في سنته بلزوم ذلك، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به).

          وفسر الإيمان في حديث جبريل المشهور بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) الحديث.

          ولا شك أن الإيمان به صلى الله وسلم يستلزم تصديقه فيما جاء به، ذلك أن الإيمان به هو يقين القلب بصحة رسالته، فباجتماع القلب واللسان يتم الإيمان به، ويعتبر، وبتخلف تصديق القلب لا تعتبر الشهادة ولا تنفع، ولهذا كذب الله المنافقين الذين قالوا: نشهد إنك لرسول الله. قال تعالى: (إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)(أول سورة المنافقون).

  1. الأمر بطاعته التي هي من أَثر الإيمان به:

          ذلك أَن التصديق الجازم بصحة نبوته يستلزم طاعته فيما بلَّغه عن الله، فمن خالفه في ذلك أو شيء منه عناداً لم يكن مؤمناً به الإيمان الواجب.

          ولقد أمر الله بطاعته في مواضع كثيرة من القرآن كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)(النساء:59). وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين)(المائدة:92). وقال تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين)(النور:54). وقال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم)(محمد:33). وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين)(التغابن:12). وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(الحشر:7).

          بل قد رتب على طاعته الثواب الجزيل كما في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)(النور:56). وقوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما)(الأحزاب:71). وكذا توعد على معصيته وأخبر بعقوبة من عصاه كما في قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين)(النساء:14). قوله: (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا)(الأحزاب:66).

          وهكذا ورد في الحديث بيان الثواب على طاعته وعقوبة من عصاه، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله) وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني دخلَ الجنة ومن عصاني فقد  أَبي) رواه البخاري.

          ومعلوم أن طاعته هي فعل أمره وتجنب نهيه، والتسليم لما جاء به، والرضى به رسولاً نبياً.

  1. الأمر باتباعه والتأسي به:

          قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ، قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)(آل عمران:31-32). وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنةُ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً )(سورة الأحزاب:21).

          ولا شك أن محبة العبد لربه واجبة، وقد وقف حصولها وقبولها على اتباع هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وجعل من ثواب اتباعه حصول محبة الله ومغفرته للعبد، وهذا الاتباع له والتأسي به يوجب تقليده، والسير على نهجه، والاقتداء به في تقرباته، وتجنب كل ما نهى عنه، والحذر من مخالفته التي نهايتها الخروج عن التأسي به.

          كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (فمن رغب عن سنتي فليس مني).

  1. محبــته:

          وقد أمر الله بها في قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)(التوبة:24).

          فوبخهم على تقديم محبة شيء من هذه الأصناف التي تميل إليها النفس طبعاً، وتؤثر الحياة لأجلها، على محبة الله ومحبة رسوله، وتوعدهم بقوله (فتربصوا) ففي هذا أبلغ دليل على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم.

          وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث المتفق عليه عن أنس: (لا يؤمن أحدكم حتى أَكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). ومن ثواب محبته الحشر في زمرته، كما قال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) متفق عليه عن أنس وغيره، وكفى بذلك شرفاً وثواباً لهذه المحبة.

          ومعلوم أن المراد المحبة الصادقة التي تستلزم الاقتداء به، والتأدب بآدابه، وتقديم سنته على رضى كل أحد، وتستلزم أيضاً محبة من والاه وبغض من عاداه ولو كان أقرب قريب؛ فمن استكمل ذلك استكمل المحبة، ومن نقص منه شيئاً نقصت محبته له بقدر ذلك.

  1. احترامه وتوقيره:

          قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عِند رسول الله أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم)(الحراجات:1-3). وقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً)(النور:63). وما ذاك إلا لما خص به من الفضل والرفعة، ففي تعزيره وتوقيره وتبجيله تعظيم لسنته، ورفع لقدرها في نفوس أتباعه، مما يعرف به لزوم اتباعه، وامتثال ما أمر به وتجنب ما نهى عنه.

  1. الأمر بالتحاكم إليه، ولزوم الرضا بحكمه:

          قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)(النساء:59). وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم)(النور:63). وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويُسلموا تسليما)(النساء:65). أجمع العلماء على أن هذا الرد والتحاكم بعده يكون إلى سنته، ففي هذه الآيات أعظم برهان على تحريم مخالفته، والاستبدال بسنته، فانظر كيف حذر المخالفين له بالفتنة التي هي الشرك، أو الزيغ، وبالعذاب الأليم، وكيف أقسم على نفي الإيمان عنهم إذا لم يحكموه في كل نزاع يحدث بينهم، ويسلموا لقضائه، ولا يبقى في أنفسهم حرج من قضائه، وكفى بذلك وعيداً وتهديداً لمن ترك سنته بعد معرفة حكمها، تهاوناً واستخفافاً، واعتاض عنها العادات والآراء.

منزلة السنة من القرآن الكريم

  لما كان محمد صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين الله وعباده في تبليغ شرعه ودينه، كانت هذه الشريعة كلها متلقاة عنه.

  ولكنها تنقسم إلى وحي مُنزَل، متعبد بتلاوته، وهو القرآن الكريم، وإلى بيان له وتمثيل وتقرير، وتشريع منه، ليس له حكم القرآن في التعبد بتلاوته، وهو السنة النبوية.

 ولما كان في القرآن أحكام مجملة لا تعرف كيفيتها، كان إيضاحها مما وكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)(النحل:44). وقال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه)(النحل:64).

  وقد امتثل عليه الصلاة والسلام هذا الأمر من ربه فبين للناس بسنته كيفية الصلوات وعدد ركعاتها وأوقاتها، وما يُقال فيها … إلخ. كما بين أنصبة الزكاة، والأموال الزكوية، ومتى تجب … إلخ. وكذا الصيام والحج وأكثر المعاملات، والعقود والحدود، وغيرها مما تُلُقي بيانه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يوضح أن أغلب أحاديث السنة النبوية بيان لكتاب الله، وإيضاح لمجمله، وتقييد لمطلقه، ونحو ذلك.

    وقد تأتي زائدة على ما في القرآن، كإحداد المتوفي عنها، وتحريم كل ذي ناب من السباع، والحمر الأهلية، وغير ذلك، وكلها من السنة النبوية.

   وإذ قد عرف وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه، فإن هذه الأوامر والتعليمات التي تُلُقِّيَتْ عنه هي مما يلزم الأُمة فعله وقبوله، تأسياً بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

احترام السنة وفضل الحديث والمحدثين

لما كانت السنة مصدراً تشريعياً، ومتلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الله قد أَمر المؤمنين بتعزيره وتوقيره، ومدح الذين يغضون أصواتهم عنده، لا جرم كان لها من الحرمة مثل ما لمن تلقيت عنه، مما حمل العلماء عن أن بالغوا في احترامها وإعظامها، وإليك أمثلة من ذلك: روى عمرو بن ميمون عن ابن مسعود أَنه حدَّث يوماً، فجرى على لسانه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم علاه كرب، حتى رأيت العرق ينحدر عن جبهته، وفي رواية: وقد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه. وكان ابن سيرين إذا ذُكر عنده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك خشع، واشتهر عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك أَكثر من غيره، فكان إذا أَراد الحديث اغتسل وتطيب، ولبس ثياباً جدداً وتعمم، وجلس على منصة، خاشعاً، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من الحديث، ويقول: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يكره أَن يحدِّث وهو قائم أو مستعجل، ذكر هذه الآثار القاضي عياض في الشفاء؛ وما ذاك إلا تعظيماً لمن صدر عنه، وإجلالاً لتلك الألفاظ الشريفة التي هي من أشرف الكلام وأعلاه قدراً. وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه، وهو المبين له والموضِّح لمقاصده، وهو المصدر الثاني لأَدلة الأحكام، وهو من الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً.

ولقد حث الله تعالى على تعلم العلم ومدح العلماء ونوه بذكرهم، حيث قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته على وحدانيته، وحصر خشيته فيهم، ونفى المساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حث على العلم، وأخبر أن حملته هم ورثة الأنبياء، وأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، ونحو ذلك كثير.

 فمن تحمل هذا الحديث واشتغل بتعلمه وتعليمه فله الحظ الأوفر من هذا المدح للعلماء، وكفى بهذا شرفاً للحديث وحملته، فصرف العمر في تعلمه ونشره أفضل من الاشتغال بنوافل القربات، وما ذاك إلا لما فيه من بيان القرآن، وإحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتأسي به في الدعوة والتبليغ، ولو لم يحصل لأهله من الفضل إلا كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي ورد فيها الفضل الجزيل، كقوله صلى الله عليه وسلم: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة). أخرجه الترمذي عن ابن مسعود وحسنه.

 ثم فيه استحقاق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المسند والسنن عن زيد ابن ثابت وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وأَدَّاها كما سمعها)، ثم فيه امتثال أمره صلى الله عليه وسلم بقوله: (بلغوا عني ولو آية) رواه أحمد والشافعي بأسانيد صحيحة عن عبدالله بن عمرو وغيره.

 ويكفي في شرف المحدثين أن قد رُويَ تعديلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) رواه العقيلي وابن أبي حاتم، وابن عبدالبر وغيرهم عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري مرسلاً وصححه أحمد.

  وإن في تعظيمهم للحديث النبوي وحرصهم على نقله والتحديث به لعلامة على قوة محبتهم لمن قاله، وإيثارهم للتأسي به، مما يسبب حشرهم معه، فإن من أحب قوماً حشر معهم، فهو إمامهم وقدوتهم، وقد قال تعالى: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم).

 

اعتناء السلف بالحديث النبوي  

         لما عرف الصحابة رضي الله عنهم أهمية هذا العلم حرصوا على تلقيه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، فأكثروا ملازمته، وآثروا مجالسته على العمل في أموالهم، وأسباب ارتزاقهم، وربما أناب بعضهم من يحضر مجلسه ويبلغه ما فاته من العلم، كما فعل عمر بن الخطاب مع جاره الأنصاري.

    ولقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن تعليمهم، وإيصال المعنى إلى أفهامهم فكان يستعمل ألواناً من وسائل الإيضاح والبيان، كالعرض والمناقشة وضرب الأمثلة، وتكرير الكلام ليفهم عنه، فكانوا يتلقون عنه في المجالس والنوادي وعلى المنابر، في السفر والحضر، فما قبضه الله إلا وقد علمهم كل شيء يحتاجون إليه كما شهد له بذلك بعض أعدائه من اليهود، كما روى مسلم عن سلمان أن بعض اليهود قالوا له: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل. الحديث.

   وبعد أن توفاه الله عرف أصحابه أن هذا العلم الذي تلقوه عنه أمانة في أعناقهم، يلزمهم بيانه للناس كي لا يلحقهم وعيد الذين قال الله فيهم: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(البقرة:159).

  وهكذا عرف تلامذتهم منزلة هذا العلم من الدين الذي كلفوا به، مما حمل الجميع على بذل الجهد في التعلم والتعليم فعمروا بهذا الحديث مجالسهم، وصار طلبه جل مقاصدهم، وتحملوا في تحصيله المشاق وقطعوا المراحل الكثيرة، كما روي عن ابن عباس أنه قال: (كان يبلغني الحديث عن بعض الصحابة فآتي إليه وهو قائل، وأجلس عند الباب، تسفي الريح في وجهي التراب حتى يستيقظ). رواه الحاكم. واشتهر عن جابر رضي الله عنه أنه سافر إلى الشام لأخذ حديث واحد من عبدالله بن أنيس، كما رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما. وكذا أبو أيوب سافر إلى مصر من المدينة ليروي حديثاً واحداً عن عقبة بن عامر ذكره ابن عبدالبر في جامع بيان العلم.

  وكانوا بعد سماعه يتذاكرونه، ويعرضه بعضهم على بعض ليتأكد كل منهم صحة ما حفظه، وربما كرره الواحد زمناً طويلاً حتى يحفظه، كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يجعل جزءاً من الليل لدراسة الحديث ليبقى في ذاكرته. ذكره ابن جريج وغيره.

  وقد خصهم الله بزيادة في الحفظ فاقوا بها من بعدهم بكثير وعنهم في ذلك روايات عجيبة، وربما استعان بعضهم على الحفظ بالكتابة حتى يحفظ، وبالجملة فقد أثر عن سلفنا من العناية بالحديث والاهتمام بشأنه ما به حقق الله حفظ هذه الشريعة وحماية مصادرها، فرحمهم الله وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.

جهود علماء السنة في حفظ الحديث

 في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم ظهر من يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم ما ورد عنه من الوعيد على ذلك والتحذير منه، وكان أغلب من اشتهر بوضع الحديث قوم من الملاحدة دخلوا في الدين تستراً، فأَرادوا إفساد العقيدة، والتشكيك في الإسلام.

 وآخرون (من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً)(الروم:32)، قصدوا التعصب لو لا تهم وقبائلهم وبلادهم.

 ونوع ثالث وهم القُصاص الذين أرادوا الشهرة بكثرة المرويات، وغرائب الحكايات التي تستثير النفوس وتحرك القلوب.

ولكن علماء الحديث عندما أحسوا بهذا الخطر قابلوه بما يبطله ويرده من حيث جاء، ليسلم الحديث النبوي من كل دغل وكدر، ويبقى معيناً صافياً لمن يرتاده، وقد وضعوا لذلك قواعد، وابتكروا طرقاً كانت سبب نجاح فكرتهم:

  1. فمنها التزام الأسانيد وتسمية الرواة، وهذا من خصائص هذه الأُمة، وبه يعرف مصدر الحديث، ومرتبة رجاله، فيحكم بقبوله أو رده، قال عبدالله بن المبارك: الإسناد من الدين لو لا الإسناد لقال من شاء ما شاء. رواه مسلم في مقدمة صحيحه، وكان من نتيجة ذلك أن توقف الكثير عن الوضع مخافة ظهور كذبه، مما يسقط به قدره عند من يعظمه.
  2. تتبع أحوال الرواة، والبحث عن مكانتهم في الحديث وأهليتهم لتحمله، وقد أقدموا على الكلام فيهم من باب النصيحة للأُمة، حيث إنهم تولوا نقل شيء من أمر الدين له حكم. وقد خصصوا هذا النوع من عموم النهي عن الغيبة لما فيه من المصلحة العامة للأُمة.
  3. التثبت في الرواية تحملاً وأداء، فكان أحدهم لا يقدم على ذكر الحديث إلا بعد إتقانه، ولا يحدثون به إلا من هو أهل لسماعه، ويتحاشون تحديث السفهاء وأهل الأهواء، وقد نتج عن هذه الجهود ونحوها أن ميزوا الحديث النبوي، وأخرجوا الموضوع عن مسمى الحديث، وعرفوا الكذابين، وبينوا حالهم، وكشفوا عوارهم، مما جعلهم يتوارون أمام هؤلاء الجهابذة الأعلام، حتى لقد قال سفيان الثوري: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث، وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له الحافظون)(الحجر:9). ذكره العراقي عنهما في فتح المغيث وغيره.

 

تدوين الحديث النبوي

    لقد ورد النهي عن كتابة الحديث في آثار مرفوعة وموقوفة، كما ورد الإذن بها صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان ولبعض الأشخاص، ومن الخطأ حمل النهي عن الكتابة على عدم حجية الأحاديث، كما توهم ذلك بعض الزنادقة. وكذا حمله على أن السبب الوحيد قلة أدوات الكتابة والكتاب، فقد كان في الصحابة وأبنائهم الكثير ممن يحسن الكتابة.

وأصح ما حمل عليه النهي عن كتابة الحديث أن ذلك خاص بأول الإسلام، ليشتغلوا بحفظ القرآن ويقبلوا على دراسته من الألواح والصحف، ويكون أخذهم للحديث بالممارسة والمجالسة.

أو أن النهي خاص بكتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، مخافة الاشتباه على الجهلاء به، ويكون الإذن فيها لمن عرف منه عدم الاشتباه، كعبدالله بن عمرو وعند الحاجة كأمره بالكتابة لأبي شاه.

 ولقد اشتهر أنه صلى الله عليه وسلم كتب صحائف كثيرة لبعض المعاهدين وفي بعض المناسبات، وبعث كتباً إلى رؤساء الدول في عهده يدعوهم إلى الإسلام: وذلك دليل جواز الكتابة لجنس الحديث.

ثم إن الصحابة عرفوا العلة في النهي، فتوقف بعضهم كما استعمل الكتابة آخرون للحاجة. ولما أن زال المحذور وتميز القرآن عن غيره، واشتدت الحاجة إلى الكتابة، ابتدئ في تدوين السنة، وذلك في أواخر القرن الأول بأمر عبدالعزيز بن مروان، ثم ابنه عمر، ثم اشتهرت الكتابة في القرن الثاني فكانوا يكتبون ويحدثون من كتبهم مع المحافظة عليها.

إلى أن وصلت هذه الأحاديث إلى علماء أجلاء كالبخاري ومسلم، وأهل السنن، فدونوها في مؤلفاتهم تدويناً عاماً أو خاصاً، مع بيان صحيحها من ضعيفها ونحو ذلك.

وقد وصلت إلينا تلك الدواوين بحمد الله كما كتبوها، مصونة عن التغيير والتبديل، وبهذا تحقق ضمان الله بحفظ مصادر الشريعة، وقامت حجة الله على العباد، والحمد لله رب العالمين.

مقدمة البحث

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، و أتم علينا النعم و رضي لنا الإسلام ديناً. و أشهد أن لا إله إلا الله، و لا رب لنا سواه، الإله الحق، المالك المتصرف في الخلق. و أشهد أن محمداً عبده و رسوله الذي عرفنا ديننا، و أوضح لنا الطريق إلى ما فيه من الهداية و النجاة و الحياة الطيبة، صلى الله و سلم عليه و على آله و صحابته الذين بلغوا عنه دينه، و ساروا على نهجه، و على أتباعهم بإحسان أبداً و سرمداً.

أما بعد:

فقد كان الناس في جاهلية جهلاء، و ضلال عن الصراط السوي، فبعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم بالهدى و دين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، و أمره بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و المجادلة بالتي هي أحسن، و لقد امتن الله على المؤمنين ببعثته، فقال تعالى: ((لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يُعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين))(سورة آل عمران:164)، و إذا كانت هذه وظيفة هذا النبي الكريم، و رسالته التي تحملها من الله إلى عباده، فقد قام بأدائها أتم قيام، فبلغ ما أنزل إليه، وعلم الناس كل ما فيه نفعهم و صلاحهم، قال صلى الله عليه و سلم: “قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك”، رواه أحمد وابن ماجة (هو في مسند أحمد 4/126، و ابن ماجة برقم 43 عن العرباض بن سارية رضي الله عنه). و قال فيما صح عنه: “إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، و ينذرهم شر ما يعلمه لهم”، رواه مسلم و النسائي عن عبدالله بن عمرو (كما في صحيح مسلم 12/232 كتاب الإمارة، و سنن النسائي 7/152 كتاب البيعة في حديث طويل)، فكان حقاً على الأمة السير على نهجه، و اتباع سنته، مما يسبب لهم النصر و الرفعة في الدنيا، و حصول رضى الرب و ثوابه في الدار الآخرة.

و لكن الله من حكمته أن يتبلي عباده بأعداء من جنسهم، يشككونهم و يُلبسون عليهم، و يقدحون في دينهم، و يعيبونهم بالجمود و التأخر و الرجعية كما يعيبون دينهم بما هو بريئ منه بما يروجونه من شبه و تضليلات. و كثيراً ما يسددون سهامهم إلى أصل من أصول الدين، كالحديث النبوي، فيلقون في ذلك الشبه، و يولدون الشكوك، خداعاً للطغام، و صرفاً لضعفاء العقول و الأفكار عما فيه سعادتهم و هدايتهم إلى الطريق المستقيم.

فراجت على بعض ضعفاء البصائر ممن يدعي الإسلام، فتقلوها من أولئك الأعداء، و تقبلوها بصدور رحبة، إحساناً للظن بأولئك الأعداء المارقين مما هان به في النفوس الضعيفة قدر هذ الشريعةو خف به وزنها في قلوب من قلت معرفته بأدلة الدين، و عميت بصائرهم عن الحق المبين، و لكن الله صدق وعده بحفظ دينه من عبث العابثين، و لما كان الدفاع عن الدين واجباً على كل مسلم، رأيت أن أقوم بقسط في هذا السبيل. و قد رأيت أن يكون موضوع رسالتي خبر الواحد، و بيان حجيته، و صحة أحاديث الآحاد النبوية، المعمول بها بين المسلمين، و المتلقاة منهم بالقبول سلفاً وخلفاً، و ما ذاك إلا أن الأخبار، فتحقيق ثبوته يلزم ثبوت السنة بأكملها.

و قد بدأت البحث بمقدمة في أهمية السنة و اعتناء السلف بها، ثم ضمنت البحث ستة أبواب.

الباب الأول: في تعريف الخبر و أقسامه، و فيه ثلاثة فصول.

     الفصل الأول: في ماهية الخبر.

     الفصل الثاني: في تعريف المتواتر و شروطه.

     الفصل الثالث: في تعريف الآحاد و أقسامها.

الباب الثاني: في شروط العمل بخبر الواحد، و فيه ثلاثة فصول.

     الفصل الأول: في شروط الراوي.

     الفصل الثاني: في طرق معرفة أهلية الراوي.

     الفصل الثالث: في الشروط المعتبرة في متن الخبر.

الباب الثالث: في ما يفيده خبر الواحد، و فيه تمهيد، و ثلاثة فصول.

     الفصل الأول: في أدلة من قال: إن خبر العدل يفيد العلم، و بيان ما يرد عليها و الجواب عنه.

     الفصل الثاني: فيمن قال: خبر الواحد يفيد العلم بالقرائن، و بيان أنواع القرائن.

     الفصل الثالث: في مستند من قال إن الآحاد لا تفيد إلا الظن، ومناقشة شبههم.

الباب الرابع: في حكم قبول الآحاد في العقائد، و فيه فصلان.

     الفصل الأول: في أدلة من قال بالجواز.

     الفصل الثاني: في شبه المخالفين و مناقشتها.

الباب الخامس: في حكم العمل بخبر الواحد، و فيه فصلان.

     الفصل الأول: في دلالة العقل على العمل بخبر الواحد.

     الفصل الثاني: في الخلاف في دلالة السمع على وجوب العمل بخبر الواحد.

الباب السادس: في جملة من أخبار الآحاد مختلف فيها.

     ثم ختمته بخاتمة في وجوب التمسك بالحديث الصحيح  و إن خالف المذاهب و الآراء و الله المستعان و به الثقة.

 

 

الباب الأول

في تعريف الخبر وأقسامه

 

ماهية الخبر

تعريف الخبر:

   الخبر لغة مشتق من الخبار، وهي الأرض الرخوة ذات الحجارة، ومنه الحديث: (نهى عن المخابرة).

وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار.

 وسمى الخبر خبراً لأنه يثير العلم في النفس، كما تثير الأرض الغبار عندما يقرعها الحافر ونحوه، وأما في الاصطلاح: فاعلم أن العلماء قسموا الكلام إلى خبر وإنشاء، وذلك أن اللفظ العربي عندما يُصاغ مضمناً معنى مفهوماً للسامع فإن ذلك المعنى إما أن يكون إفادة للمخاطب، وإعلاماً له بما حصل منه، أو من غيره، وهذا ونحوه ما يسمونه خبراً، وإما أن يكون مبتدأ من المتكلم، مطالباً بفعل أو كف ونحوهما، ويسمى إنشاء، وقد أكثر الأصوليون القول في تعريف الخبر، وتوقف بعضهم في حده، إما لظهوره بالضرورة للمخاطب الذي يعرف مفردات ذلك التعريف وإما لكون الحد يلزم أن يكون مسبوقاً بفهم تلك المفردات التي تركب منها، فيلزم منه الدور، والذين عرفوه أورد على تعاريفهم إشكالات ومناقشات دخلتها صناعة الكلام في الرد والعقيب بما لا طائل تحته.

 وأسلم تلك التعريفات ما ذكره الموفق في الروضة وغيره: أن الخبر هو الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب. أي: يصح أن يُقال لصاحبه: صدق أو كذب. ذلك أن المتكلم إن أخبر عن معنى من المعاني مطابق لما في نفس الأمر وهو مع ذلك معتقد لصحة ما أخبر، فهذا هو الصدق، فإن كل من سمعه وقد عرف حقيقة ذلك الأمر سيوافق على ما أفاده. أما إن أخبر بما لا يعتقد صحته، أو أخبر معتقداً صحته ولم يكن في نفس الأمر كما ظن، فإن هذا غير صدق، وسيكذبه كل من سمعه، وقد اتضح له خلاف ما يقول. ولما كان المحدثون قد اصطلحوا على كلمات كثيرة نقلوها من معانيها اللغوية، إلى ما يقاربها في الظاهر من علوم الحديث والإسناد التي لم يكن للعرب بها معرفة من قبل، كان من جملة تلك الكلمات لفظ الخبر، ولفظ الحديث، فمن أهل المصطلح من جعلهما مترادفين، ومنهم من جعل الخبر أعم، فيدخل فيه ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن غيره، ومنهم من خص الخبر بالموقوف على الصحابة ومن دونهم، فلا يعم الحديث الذي هو خاص بالمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وواضح من حيث اللغة صدق الخبر على ما نقله لنا المحدثون بأسانيدهم إلى أن تتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلهذا المعنى أدخلها الأصوليون تحت عنوان الأخبار.

أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا:

عندما تلقَّى الصحابة تلك السنن عن نبيهم صلى الله عليه وسلم طبقوها على أنفسهم، ثم نقلوها إلى من أدركهم واتصل بهم من تلاميذهم، وهكذا من بعدهم، وقد استمر هذا النقل من راوٍ إلى آخر بعده، حتى وصلت إلى العلماء الذين دونوها في مؤلفاتهم كما هي، وقد وصلت إلينا تلك المؤلفات محفوظة كاملة، برواتها ومتونها، بألفاظها ومعانيها، بدون نقص أو تغيير. ثم إن المحدِّثين والأصوليين بعد أن تتبعوا تلك الأخبار ألفوا منها البعض نقله العدد الكثير، ممن تحيل العادة اتفاقهم على الكذب، عن مثلهم إلى آخر السند والبعض الآخر ليس كذلك، فاصطلحوا على تسمية الأول بالمتواتر، والثاني بالآحاد.

ومن المتحقق أن هذا التقسيم لم يكن معروفاً بين الصحابة والتابعين الذين إنما يعتبرون صحة المنقول وبطلانه غالباً باعتبار حال الناقل له من ثقته وأمانته أو ضد ذلك، فاتضح أن هذا التقسيم اصطلاح حادث بين المحدِّثين وأهل الأصول كسائر علوم الحديث، وقد زاد الحنفية قسماً ثالثاً سموه بالمشهور، وعرفوه بأنه ما كان أصل رواته آحاداً ثم تواتر بعد القرن الأول، كحديث عمر: )إنما الأعمال بالنيات) فإنه لم يروه في القرن الأول إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمه بن وقاص الليثي، عن عمر، ثم تواتر في القرن الثاني، حيث رواه عن يحيى العدد الكثير. والجمهور على عده قسماً من أقسام الآحاد كما سيأتي.

تعريف المتواتر وشروطه

 التواتر لغة: التتابع، وهو مجيء الواحد بعد الآخر، ومنه قوله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا تتراً)(المؤمنين:44). وهو مأخوذ من الوتر، وهو الفرد حيث إ ن كل واحد يجيء بعد الآخر منفرداً. (وفي الاصطلاح): المتواتر: ما رواه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه وكان مستند انتهائهم الحس وهذا القسم من الحديث يفيد العلم الضروري عند جمهور الأمة، وإنما خالف في ذلك قوم من عباد الأصنام بالهند يقال لهم السمنية، وهم الذين ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات ولما كان خلافهم تشكيكاً في ضروري لم تلزم مناقشتهم.

وشروط المتواتر المتفق عليها أربعة تستخرج من التعريف:

  1. كثرة العدد، بحيث تحيل العادة والعقل تواطؤهم على الكذب.
  2. استمرار تلك الكثرة في جميع طبقات السند.
  3. إخبارهم عن علم لا عن ظن.
  4. كون مستندهم الحس لا العقل.

 وقد احترزوا بالشرطين الآخرين عما إذا كان إخبارهم عن ظن وتخمين، أو مستند انتهائهم العقل فإن ذلك لا يولد العلم بصحة ما أخبروا به، فلا يصدق عليه حد التواتر، فإن الخلق الكثير لو أخبرونا عن حدوث العالم أو قدمه لم يحصل لنا العلم بذلك، حيث إنهم لم يستندوا في ذلك إلى مشاهدته أو الإحساس به، وإنما اعتمدوا على ما أدَّى إليه تفكيرهم، أو استحسنوه بعقولهم، ولذلك لم يحصل لنا العلم بما تقوله الفلاسفة مع كثرتهم من قدم العالم، حيث إن مستندهم في ذلك النظر والاستدلال، أو الشُّبَه والتوهمات.

وهم كذلك لم يقع لهم العلم بما يخبرهم به المسلمون مع كثرتهم من حدوث العالم، وإذاً فلا بد أن يكون المنقول بالتواتر عند انتهائه مما يدرك بالحواس الخمس كالمشاهدة والسماع، واللمس، ونحوها وهكذا لابد أن يخبروا عن علم و يقين، فإن أهل العراق مثلا لو أخبرونا لو أنهم رأوا رجلاً ظنوه خالداً أو رأوا طائراً حسبوه صقراً لم يحصل لنا العلم بأنهم كما ظنوه.

 ثم إنه لا يلزم من ذلك تصديق النصارى في أن اليهود قتلوا المسيح وصلبوه، لأن مرجع النصارى إلى خبر اليهود الذين دخلوا عليه البيت، وهم عدد قليل لا يبعد تواطؤهم على الكذب، ولأنهم لم يكونوا على علم بمن قتلوه، ولذلك كذبهم الله بقوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)(النساء:157). ولأن المسيح عليه السلام يجري على يديه من الآيات وخوارق العادات التي هي من معجزاته ما لا يُستبعد معه قلب الحقائق في ما يبدو للناظر، وإن كان محسوساً.

ثم مما يلزم أيضاً في رواة المتواتر أن يخبروا طائعين عن جد وقصد، فلا يوثق بخبر عدد كثير أخبروا على طريق المزح أو الإكراه ونحوه.

تحديد العدد في الرواة للمتواتر:

 تقدم أن من شروط المتواتر أن ينقله عدد كثير، وقد اضطربت الأقوال في تقدير العدد الذي يحصل معه العلم اليقيني بالخبر، والأرجح عدم اعتبار عدد معين، لما يشاهد من اختلاف الأحوال والأشخاص الذي يؤثر في حصول العلم أو عدمه، فإن الرواة قد يكونون من أجلاء الأئمة الثقات، وعدول نقلة الأخبار المشهورين، فيحصل اليقين بما أخبروا به وإن قل عددهم، وقد تحتف بخبرهم قرائن ظاهرة فتزداد الثقة بصدقهم أو ضد ذلك، وأنت خبير بتفاوت الناس في الفهم والإدراك، فكم من عدد قليل يحصل العلم بخبرهم، لما اقترن به من عدالتهم ودينهم، واطمئنان النفس إلى ما نقلوه، ولما اشتهر من علمهم وتثبتهم، مع أن مثلهم أو أكثر منهم لا يحصل العلم بخبرهم، لفقد تلك الصفات التي اقترنت بخبر الأولين، وهكذا يتفاوت السامعون في الفهم والإدراك، ومعرفة القرائن وصفات الناقلين، فيسبب ذلك حصول العلم لبعض السامعين دون بعض.

 وبهذا ونحوه يرد على من جعل العدد المفيد للعلم في واقعة مطرد الإفادة في كل واقعة، وقد يسلم هذا أحياناً إذا انتفت القرائن، واتفقت صفات الناقلين والسامعين، ولكن ذلك غير مطرد.

 ثم مع انتفاء القرائن لا يتقدر الرواة الذين يحصل العلم بخبرهم بقدر مخصوص، وقد اشترط القاضي أبو يعلى تبعاً لأبي الطيب الطبري أن يزيدوا على الأربعة؛ لأن الأربعة بينة شرعية لا يصل العلم بخبرهم للحاكم، حيث يتوقف الحكم على تزكيتهم.

وهذا غير صحيح، لأن البينة الشرعية فيها نوع تعبد، ولهذا لو شهد عند الحاكم عشرة أو أكثر لم يكن له الحكم إلا بعد تعديل العدد المشترط منهم، ولو علم الحاكم أن هذا الشخص قد زنى أو سرق لم يكن له أن يقيم عليه الحد إلا بشهادة الثقات، ذلك أن الحاكم إنما يقضي بأمر منضبط لا يختلف.

ثم إن من الأصوليين من قدر عدد الرواة للمتواتر فقيل: خمسة وقيل: عشرة، وقيل: إثناء عشر، وقيل: عشرون، وقيل أربعون، وقيل: سبعون، وقيل: عدد أهل بدر، وقيل: كأهل بيعة الرضوان، إلى غير ذلك من الأقوال التي ليس لها مستند صحيح، وقد استدل كل لقوله بذكر ذلك العدد في نص آية أو حديث حصل العلم بهم في ذلك الأمر، ولكن تلك النصوص لم تتعرض لحصر حصول العلم بذلك العدد، ونفيه عن ما دونه مما هو محل النزاع.

 وأما شرط استمرار الكثرة في جميع طبقات السند، فذلك لأن كل طبقة يمكن أن يطرأ عليها الخطأ عند اختلال شرط الكثرة، فإن أهل كل زمان مستقلون بأنفسهم، ومن بعدهم يعتمد على نقلهم، فلا بد من وجود تلك الكثرة في وسط السند كطرفيه، ولذلك لم يقع لنا العلم بما نقلته الرافضة من النص على إمامة علي رضي الله عنه، حيث إن ذلك النص مما اختلقه الآحاد منهم في أول الأمر، ثم نقل بعد ذلك بينهم بالتواتر، فقد اختل منه شرط الكثرة في أعلى السند، وانضم إلى ذلك قرائن تبين وضعه وهي:

  1. ما فيه من إساءة الظن بالصحابة رضي الله عنهم في مخالفتهم جميعاً لنص نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعدولهم إلى تولية أبي بكر رضي الله عنه.
  2. وموافقة علي رضي الله عنه على ذلك، ورضاه أن يكون تحت ولاية الخلفاء الثلاثة قبله.
  3. وكون هذا النص الصريح في العهد إليه لم يظهر إلا بعد موته بمدة طويلة، وهكذا لم نصدق اليهود في نقلهم عن موسى أنه قال: لا نبي بعدي. حيث أن اليهود لم يكن عندهم من العلم والحفظ والعناية مثل ما عند هذه الأمة، ولم يلتزموا الإسناد، وينقحوا الرواة كما في هذه الأمة؛ وقد أخبرنا الله أن علماء اليهود ( يحرفون الكلم عن مواضعه)(النساء:46)، وأنهم ( يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)(البقرة:79)، وأنهم ( يكتمون ما أنزل الله من الكتب ويشترون به ثمنا قليلاً)(البقرة:174). كما أخبرنا أنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم: ( مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل)(الأعراف:157). وأن عيسى بشر به. ثم إن هذا التواتر إنما طرأ عندهم أخيراً، وكثر نقلته؛ اعتماداً على تلك الكتب المفتراة، وقد فقد شرط الكثرة فيهم أولاً حينما قتل بختنصر أكثرهم، وشرد من بقي منهم.

شروط أخرى للمتواتر غير صحيحة:

  1. أن لا يحصر الرواة عدد، ولا يحويهم بلد: وهذا فاسد، فإن الغزاة والحجيج مثلا لو أخبرونا بأمر صدهم عما قصدوه لحصل العلم بذلك وهم محصورون وكذا نجزم بصحة ما يقوله أهل المسجد من أمر منعهم عن الجمعة، وقد حواهم مسجد، فضلاً عن بلد. وقد ذكرنا أن العبرة بكثرة العدد، بحيث لا يتصور اجتماعهم على الكذب.
  2. شرط العدالة والإسلام: حيث أن الكفر والفسق مظنة الكذب والتحريف، ولئلا يلزم القول بصدق اليهود في نقلهم عن موسى بقاء شريعته، والنصارى في أن المسيح قتل وصلب. وقيل: إنما يشترط الإسلام إذا طال الزمان؛ وهذا له وجه من النظر وجمهور الأصوليين على عدم اشتراط الإسلام والعدالة؛ وذلك أن حصول العلم إنما هو عن وجود الكثرة التي يقطع معها بعدم إمكان التواطؤ على الكذب، لتفرقهم واختلاف آرائهم، وقد أشرنا قريباً إلى سبب انتفاء العلم عن خبر اليهود ببقاء دينهم، والنصارى بقتل المسيح وصلبه، فليس رد ذلك بسبب الكفر فقط.
  3. اختلاف أنساب الرواة وأديانهم وبلادهم: وليس هذا بلازم، حيث إن وجود الكثرة دافع عن إمكان التواطؤ على الكذب، ولو كانوا في بلد واحد.
  4. اشتراط كونهم من أولياء الله المؤمنين: والصحيح عدم اعتبار ذلك، لحصول العلم بخبر الفسقة وأهل البدع إذا تمت الشروط المتفق عليها.
  5. شرط الرافضة أن يكون المعصوم في جملة الناقلين: وهو فاسد، فإنه حينئذ لا حاجة إلى خبر غيره، لحصول العلم بخبره وحده لعصمته مع أن هذا المعصوم عندهم خيالي، ولا وجود له في الخارج، فإن الله لم يضمن العصمة إلا لرسله عليهم السلام فيما يبلغون عن الله تعالى.
  6. شرط اليهود أن يكون المخبرون من أهل الذلة والمسكنة: أو أن يكون فيهم منهم، قالوا: لأنهم الذين يتحاشون الكذب، ويلتزمون الصدق، مخافة العذاب الأخروي، ورجاء لثواب الصدق وهذا باطل ولا يتحقق ما قالوه فيهم، بل قد يكون الأمر بالعكس، فإن أهل الذلة والصغار قد لا يتحاشون الكذب، لدناءتهم وخستهم ورداءة نفوسهم بخلاف أهل الوجاهة والشرف، وذوي المروءة والفضل، فإن حفاظهم على شرفهم يحجزهم عن الكذب الذي يشينهم، ويسيء سمعتهم. ولعل اليهود قصدوا من وراء هذا الشرط التوصل إلى إبطال العلم بما تواتر من معجزات عيسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام، حيث إن النقلة لهذه المعجزات لم يكن فيهم أحد من الذين (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) وهم اليهود أنفسهم.

تعريف الآحاد وأقسامه

تعريف الآحاد:

الآحاد جمع أَحد كحجر وأَحجار؛ وأصل الاحاد أحاد بهمزتين، فأبدلت الثانية ألفاً لسكونها وتحرك ما قبلها، واشتقاقه من الواحد.

وخبر الواحد في اللغة هو ما يلقيه الواحد.

وهو في اصطلاح جمهور الأصوليين: ما فقد شروط المتواتر المتقدمة أو أحدها، سواء كان رواته واحداً أو عدداً، فيعم المشهور الذي تقدم أن الحنفية جعلوه واسطة بين المتواتر والآحاد.

وقد لا يدخل في ذلك عند بعضهم ما حصل به العلم بالقرائن، وإن لم يروه إلا واحد، لدخوله في معنى المتواتر وحده.

ثم إنه أطلق على الخبر نفسه آحاد، لأن رواته أفراد قليلون غالباً، فهو من باب حذف المضاف، أي أخبار الاحاد، فحذف المضاف لكثرة الاستعمال.

أقسام الاحاد:

اهتم المحدثون بطرق الاحاديث للتأكد من صحتها، وبعد أن تتبعوها ألفوا منها ماله طريق واحد، وماله أكثر، وما هو متصل بالرواة، وما فيه سقط، وما في رواته ضعف، وما هو فوق ذلك، فاضطروا أن يضعوا لكل نوع اسماً اصطلاحياً، نقلوه من المعنى اللغوي، إلى أقرب ما يشابهه من علوم الحديث.

وقد قسم المحدثون الآحاد إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الغريب.

القسم الثاني: العزيز.

القسم الثالث: المشهور.

وقد أشرنا سابقاً إلى أن هذا التقسيم وسابقه لم يكن معروفاً بين الصحابة والتابعين الذين لم يكونوا يشترطون في الرواة إلا العدالة والثقة والتثبت غالباً؛ فيقبلوه ولو كان فرداً وسيجيء إن شاء الله أن كثرة الرواة ليست ملازمة لصحة الخبر دائماً؛ فكم ثبت حديث لم يرد إلا من طريق واحد، وكم ردت أحاديث تناقلها الكثير من الرواة. وإليك كلمات موجزة في تعريف أقسام الآحاد المشار إليها.

القسم الأول: الغريب: وهو ما لم يثبت إلا من طريق واحد، وقد يعبرون عنه بالفرد، وأول من اشتهر باستعماله الترمذي في جامعه، فكثيراً ما يقول: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه أو من حديث فلان، أو تفرد به فلان وإن رواه عنه جماعة.

وقد يفرقون بين الفرد والغريب في كثرة الاستعمال، فيجعلون الفرد ما كانت الغرابة في أصل سنده، وهو طرفه الذي فيه الصحابي، بأن لم يروه مثلاً عن أبي هريرة إلا سعيد بن المسيب ويعنون بالغريب ما سوى ذلك من أنوع التفرد.

ومثال الغريب حديث علي عن أبي بكر مرفوعاً: (ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ ثم يصلي ركعتين فيستغفر إلا غفر له) رواه أحمد، وأهل السنن، والحميدي وابن المديني، وابن أبي شيبة، وابن حبان والدار قطني عن عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم، عن علي عن أبي بكر.

ثم إن الغالب على الغرائب أن تكون ضعيفة، وهذا ما سبب كراهة السلف لرواية الغريب، والحكم عليه بالنكارة، وقد يوجد فيها ما هو حسن، وما هو صحيح، كالأفراد التي في الصحيحين وغيرها.

القسم الثاني: العزيز: هو ما روي من طريقين، أو ما رواه اثنان فقط.

 وسمي بذلك إما من العزة بمعنى القلة، لقلة وجوده، أو لقلة رواته؛ وإما من العزة وهي القوة، لأنه عز وقوي بمجيئه من الطريق الثانية؛ ولو رواه بعد ذلك عن الاثنين جماعة لم يخرج عن كونه عزيزاً، إلا أنه يجمع إلى صفة العزة الشهرة، فيكون عزيزاً في أصله، مشهوراً في نهايته.

ولا شك أن كثرة الطرق تقوي، ولكن لا يلزم من ذلك القطع بالصحة دائماً؛ فإن النظر في التضعيف والتصحيح إلى الرجال غالباً كما تقرر.

ومثال العزيز، قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) متفق عليه. فقد رواه أنس وأبو هريرة، ورواه عن أنس قتادة وعبدالعزيز بن صهيب، وعن قتادة شعبة وسعيد، وعن عبدالعزيز إسماعيل بن علية وعبدالوارث، ثم اشتهر.

وقد اشترط الحاكم النيسابوري في الصحيح أن يكون عزيزاً فرد عليه الحفاظ بما قد صححه هو وغيره من الأفراد مما يبين خطأ هذا الاشتراط.

 القسم الثالث: المشهور: قد سبق أن أشرنا إلى أن الحنفية أخرجوه من الآحاد، وجعلوه قسيم المتواتر والآحاد، وعرفوه بأنه ما كان آحاداً في القرن الأول، ثم تواتر بعد ذلك وكثرت رواته في القرن الثاني والثالث.

وأما المحدثون فهو عندهم ما رواه أكثر من اثنين في جميع طبقات السند، ولم يصل إلى حد التواتر.

وقيل: هو ما زاد نقلته عن ثلاثة إلى آخر سنده، ومثاله حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، متفق عليه، فقد رواه عن أنس قتادة والزهري وأبو مجلز، ورواه عن كل واحد جماعة.

وقد ألحقه الجصاص من الحنفية بالمتواتر، والجمهور على أنه من أقسام الآحاد وسماه بعضهم بالمستفيض؛ لانتشاره بين الناس، وبعضهم غاير بين المشهور والمستفيض؛ حيث جعل الثاني ما كانت الكثرة في ابتدائه وانتهائه سواء، والأول أعم من ذلك. ثم قد تكون الشهرة نسبية، ويراد بها حينئذ انتشاره وكثرة استعماله، فمنه ما هو مشهور بين المحدثين، كحديث أنس المذكور ومنه ما اشتهر عند العامة كحديث (العجلة من الشيطان) حسنه الترمذي.

ومنه المشهور عند الفقهاء كحديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) رواه ابن ماجة، وأبو داود، والحاكم، وصححه عن ابن عمر. ومنه المشهور عند النحاة كحديث: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه). ومنه ما هو مشهور عند الأصوليين، كحديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، رواه ابن ماجة، والطبراني، وابن حبان، وصححه عن ابن عباس. وليست الشهرة الاصطلاحية ملازمة للثبوت فكم ضعف النقاد أخباراً رواها العدد الكثير حيث أن مدار الصحة غالباً عدالة الرواة.

 

الباب الثاني

شروط العمل بخبر الواحد

شروط الراوي

   تكرر أن قلنا: ليس كل خبر مقبولاً، وأنه لا بد من توفر شروط في السند و المتن، تكون سبباً للاطمئنان إلى صحة النقل، ولقد اشتهر عن الصحابة ومن بعدهم التحري في أخذ العلم فقد روى مسلم في مقدمة صحيحه آثاراً كثيرة عن بعض كبار العلماء في الأمر بالتثبت في الرواية، وعدم قبول الحديث إلا من أهله المعروفين به، فمن ذلك ما رواه عن ابن سيرين قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون عنه دينكم. وروى أيضاً عن سعد بن إبراهيم قال: لا يحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الثقات.

 وروى البيهقي عن النخعي قال: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه، وروى أيضاً عن ابن عمر عن عمر قال: كان يأمرنا أن لا نأخذ إلا عن ثقة.

وقد روى البيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً: لا تأخذوا العلم إلا ممن تقبلون شهادته. ولقد اشترط الله في الشاهد أن يكون عدلاً مرضياً، قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)(البقرة:282) أي ممن يكون مرضياً في دينه وأمانته. وقال تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم)(الطلاق:2) ولقد أفاض العلماء في كتب الفقه في صفات من يصلح للشهادة ومن لا يصلح، وهكذا أهل الحديث ذكروا شروطاً لمن يقبل خبره ويوثق بروايته.

          والذي اتفق عليه من الشروط في الراوي أربعة:

  1- التكليف: وهو أن يكون الراوي بالغاً عاقلاً عند الأداء فلا يقبل خبر المجنون والصغير، لفقد العقل الذي يتمكن به من فهم ما سمعه، وهكذا خبر المميز والمراهق، لاحتمال كذبه، فإنما يزجره عن الكذب خوف العقاب، وهو آمن منه لعدم تكليفه.

  وأجمعوا على قبول ما تحمله في الصغر ثم أداه بعد تكليفه؛ حيث إنه حالة الأداء متصف بالصفات التي تحجزه عن الكذب، فلا يخبر بشيء إلا وقد تحقق صحته كسائر أخباره، وقد أجمع الصحابة ومن بعدهم على قبول أخبار ابن عباس وابن الزبير ونحوهما من أصاغر الصحابة، ولم يفرقوا في أخبارهم بين ما تحملوه في الصغر والكبر.

  2- الإسلام: فلا تقبل رواية الكافر، كتابياًّ كان أو وثنيّاً أو دهريّاً؛ ولو جرب بالصدق وتوفرت فيه بقية شروط القبول؛ وما ذاك إلا لعدم انفكاكه غالباً عن البغض للمسلمين والكيد لهم، مما يحمله على أن يلبس عليهم دينهم، وقد قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع مِلتهم)(البقرة:120)، فعداوتهم لأهل الإسلام إنما أثارها الخلاف في الدين، لمعرفتهم بأن المسلمين إنما تغَّلبوا عليهم وقهروهم بسبب هذا الدين، فلا جرم كان الكافر مظنة تعمد الكذب في الرواية.

  أما الكافر المتأول كمن جحد شيئاً من شعائر الدين المعلومة من الدين بالضرورة، وكغلاة الجهمية نفاة الصفات، والمشبهة الغالين في الإثبات؛ ففي قبول خبر أحدهم خلاف، وأكثر المتكلمين على عدم القبول، وهو اختيار الآمدي؛ لقوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا)(الحجرات:6). وهو فاسق وزيادة، فأما من فيه بدعة غير مكفرة فلعل الأرجح قبول خبره، إذا عرف تحرجه عن الكذب، ولم يكن من الدعاة إلى بدعته، ولم يرو ما يقوي مذهبه، حيث إنه على مذهب يعتقد صحته، ويتأول ما خالفه، وينتمي إلى الإسلام، ويصدق بالرسالة، وقد روى البخاري وغيره لبعض من رمي بشيء من البدع كالتشيع وإنكار القدر ولكنهم تحققوا من أولئك الصدق، والتثبت في الرواية.

فإن روى المبتدع ما يقوي بدعته لم يقبل منه، فإن العادة تقتضي تساهله في روايته، لموافقته ما تميل إليه نفسه.

وهكذا لا يقبل خبره إن كان من الدعاة إلى بدعته، إهانة له، حيث نَصَّب نفسه في الدعاء إلى هذا المنكر، ففي ترك الرواية عنه إماتة لذكره، وتنفير للناس عن الإصغاء إلى كلامه.

  3- الضبط: ويراد تيقظ الراوي، وفهمه لما يسمعه فهماً دقيقاً، وثباته على ذلك من وقت التحمل إلى وقت الأداء ويعم من يترجح حفظه على نسيانه. فإن كان يحدث من كتابه اشْتْرط أن يكون محافظاً عليه من وقت أن أثبت فيه سماعه إلى أن يُؤدي منه، بأن لا يعيره من لا يثق به، ولا يمكن أحداً من التصرف فيه.

فإن روي بالمعنى اشترط أن يكون عالماً بدلالة الألفاظ، بحيث يُؤمَن من إبدال لفظ يختل به المعنى، فإن كان ضعيف الذاكرة، أو قليل الفهم، أو كثير الأغلاط  لم يقبل خبره، لأن الحديث مما يجب الاحتياط له، فلا يقبل منه إلا ما تحقق ثبوته أو غلب على الظن؛ فخبر الذي يقع منه السهو والغفلة كثيراً لا يؤمن أن يقع في روايته من الزيادة والنقص والتغيير ما يختل به المعنى، فيجب التوقف فيه حتى يتقوى بغيره.

 ثم إن الطريق إلى معرفة ضبط الراوي التتبع لرواياته، ومقابلتها برواية الحفاظ الثقات، فموافقته لهم ولو في المعنى دليل ضبطه، ولا تضر المخالفة النادرة.

 أما من كان كثير الرواية للغرائب، أو كثيراً ما ينفرد عن الثقات بما يخالف الإثبات، فإنه لا يقبل خبره، فإن ذلك دليل ضعف روايته، ودخول السهو عليه، ولو كان معروفاً بتحري الصدق، وبالصلابة في الدين.

وقد كان العلماء بالحديث لا يقبلونه غالباً إلا من أهله الذين عُرفوا بروايته، أما من كان مشتغلاً بما يصده عنه، ولو بالتنسك والانقطاع إلى العبادة، فليس من أهل القبول غالباً.

4- العدالة: والعدل في اللغة التساوي والتوسط في الأمور من غير إفراط ولا تفريط، ومنه قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل)(النحل:90).

وفسرت العدالة في الرواية بأنها: هيئة راسخة في النفس، تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، فتحصل الاستقامة في الدِّين، والسلامة من الفسوق والمعاصي، ومن الأخلاق الرذيلة التي تخرم المروءة وتسقط الهيبة.

ولا تحصل العدالة إلا بعد تجنب الكبائر من الذنوب، وهي ما تُوعد عليه بعذاب أو اقترن بلعنة أو غضب أو نفي إيمان أو ما أشبهها في العظم والبشاعة.

وكذا لابد من ترك الصغائر التي تدل على دناءة النفس كتطفيف قليل، وسرقة لقمة ونحو ذلك، ولا تتم أيضاً إلى بترك المباحات التي تقدح في الشرف والهيبة، كصحبة الأراذل وكثرة المزاح، والأكل في السوق، ونحو ذلك.

ثم إنه لا ينبغي التشديد في الرد بأقل الأمور، لأنه قلما يسلم أحد من العيوب والكريم من عدت هفواته.

فلا تقبل رواية الفاسق إجماعاً؛ لقوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا)(الحجرات:6)، فإن من تجرأ على المعاصي لم يؤمن تجرؤه على الكذب في الحديث.

أما مجهول الحال وهو من عرف اسمه ، وروى عنه اثنان فأكثر ولم تعرف حاله فقد اختلف في قبول خبره، والحق التوقف حتى يتبين أمره، لاحتمال عدم أهليته.

ثم إن تقسيم الرواة إلى مقبول ومردود إنما هو بالنسبة لغير الصحابة، أما الصحابة فالجمهور على أنهم كلهم عدول، لأن الله قد زكاهم، واختارهم لصحبة نبيِّه ونصرة دينه، وقد وردت النصوص الكثيرة تثبت عدالتهم، وتوضح فضلهم على من بعدهم، قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)(الفتح:6). وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم من دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم)(المائدة:54).

 

طرق معرفة أهلية الراوي

لما كانت أهلية الراوي شرطاً في قبول خبره، توقف ذلك على البحث عن أحوال الرواة، والتأكد من صلاحيتهم؛ للأخذ عنهم وضد ذلك.

وكان هذا مما حمل علماء الحديث على نقد الرواة، والتنقيب عن أحوالهم وخفايا أمورهم، والإفصاح بما فيهم من العيوب التي تسبب عدم الثقة بأخبارهم، من باب النصيحة للأمة.

وهذا ما يعرف بعلم الجرح والتعديل.

ثم إن من الرواة من تعرف عدالته بالشهرة، واستفاضة فضله وعلمه بين الناس، فلا يحتاج إلى البحث عنه، أو طلب التزكية له، كمالك، والثوري، وشعبة، والأوزاعي، والليث، والزهري، ونحوهم من جهابذة العلماء، فإن ما اشتهروا به من نشر السنة، والذب عنها، والاحتياط في قبولها أعظم من تزكية أهل الجرح والتعديل لبعض الرواة، مع ما يجوز على المزكي من المحاباة والأغراض الداعية إلى وصفه بغير ما يستحقه.

وقد سُئِلَ ابن معين عن أبي عبيد، فقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد؟ أبو عبيد يسأل عن الناس. أما من عداهم فيلزم التأكد من أهليتهم، وذلك بالرجوع إلى كلام أئمة هذا الفن.

والأصح أنه يكتفى في الجرح والتعديل بالواحد من الأئمة المعتبرين، حيث إن أصل الرواية يقبل فيها الواحد، فكذلك فرعها الذي هو أهلية الراوي أو عدمها.

والصحيح أن التعديل يقبل ولو لم يذكر سببه، لأن أسبابه كثيرة، بخلاف الجرح فلا يقبل إلا مُفسَّراً حيث إ ن الناس يختلفون في أسباب الرد، فقد يعتبر بعضهم ما ليس بجارح جارحاً كما روي أن شعبة ترك حديث رجل لأنه رآه يركض على برذون. وقيل للحكم بن عتيبة: لّمِ لم ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام، ذكر ذلك العراقي في فتح المغيث وغيره.

ولكن إذا كان الجارح من ذوي العلم والنظر في أحوال الناس، فالأرجح الاكتفاء بجرحه وإن لم يذكر سبباً؛ وعلى ذلك سار الأئمة في مؤلفاتهم غالباً.

ثم إذا تعارض الجرح والتعديل قدم المفسر منهما، فإن كانا مبهمين فالصحيح تقديم الجرح، لأن الجارح اطَّلع على ما خفي على المعدل الذي إنما ينظر إلى الظاهر، وإن كانا مفسرين وكل منهما نفى ما أثبته الآخر، رجع إلى الترجيح لمن هو أتم معرفة واطلاعاً على أحوال الرواة، ونحو ذلك.

 

الباب الثالث

ما يفيده خبر الواحد

أدلة من قال: إن خبر العدل يفيد العلم

وبيان ما يرد عليها والجواب عنه

        هذا القول هو مذهب جمهور السلف، وأكثر المحدثين والفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو الصحيح عن الإمام أحمد رحمه الله فقد اشتهر عنه القطع بأَحاديث الرؤية والعلم بمدلولها، وذلك يحتمل أنها عنده من المتواتر المعنوي لكثرتها، ويحتمل أنه يقطع بالآحاد.

        والصحيح المشهور عنه القطع بثبوت الحديث متى توفرت فيه شروط الصحة؛ فقد حكى عنه غير واحد القطع المطرد في خبر الثقة بإفادة العلم.

        ويتأيد ذلك بما اشتهر عنه من الشهادة للعشرة بالجنة مع أن الخبر فيهم آحاد، ولم يخرجه أهل الصحيحين، ولكنه مما تلقي بالقبول. والشهادة لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به.

        وقال المروذي: قلت لأبي عبدالله: ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، فعابه وقال: لا أدري ما هذا؟ فإنكاره لهذا القول صريح في أنه يُسوي بين العلم والعمل.

        ونص في رواية أحمد بن الحسين الترمذي أنه يحتم على الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الرواية الثانية عنه بترك الجزم فغير صحيحة عنه، وإن اشتهرت عند الأصوليين؛ وعمدتها ما حكاه الأثرم عنه أنه قال: إذا جاء الحديث بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض، عملت به ودنت الله به، ولا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك.

        وهذه الرواية انفرد بها الأثرم، وليست في مسائله، ولا في كتاب السنة، وإنما نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية من خط القاضي، على ظهر المجلد الثاني من العمدة، والقاضي ذكر أنه نقلها من كتاب معاني الحديث للأثرم، بخط أبي حفص العكبري. ولم يذكر الأثرم أنه سمع ذلك من الإمام أحمد، ولعله بلغه من واهم وهم عليه في لفظه وعلى تقدير ثبوتها فلعل توقفه عن الشهادة بها على سبيل التورع، فقد كان رحمه الله يجزم بتحريم أشياء وبوجوب أشياء، ويتورع عن إطلاق لفظ التحريم أو الوجوب، بل يقول: أكره كذا، أو أستحب كذا.

        فأما ما روي عنه أنه قال: ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله، ولا على أحد أنه في الجنة لصالح عمله، إلا أن يكون ذلك في حديث فنصدقه ونعلم أنه كما جاء، ولا ننص الشهادة فقد فسر القاضي أبو يعلى قوله: ولا ننص الشهادة. بأن معناه: ولا نقطع على ذلك. ورد عليه شيخ الإسلام وبين أن مراده: لا نشهد على معين. وأبطل تفسير القاضي بقوله في شأن الحديث: ونعلم أنه كما جاء، فإنه يقتضي صريحاً إفادة العلم عنده.

        فتحقق بذلك ضعف الرواية بعدم القطع، وترجحت الرواية الأولى والحمد لله، وقد عرفت بهذا مستند من أثبت عن أحمد فيه روايتين، ومن رجح عنه إفادة الظن، وهو ما فهموه من هذه الرواية الموهمة، فلا تنخدع بتتابع أهل الأصول على ترجيحهم عنه ما اختاروه، فعذرهم كما قدمنا عدم التمكن في علم الحديث، وعدم الرجوع إلا إلى كتب أهل الكلام.

        فأما ما نقل الآمدي عن أحمد من القول بإفادة الخبر العلم اليقيني من غير قرينة، واطراد ذلك في كل خبر. فإن هذا القول ليس على إطلاق، لما فيه من المجازفة، ولا يظن بعاقل أنه يصدق كل ما سمعه من خبر، مع ما عهد في الناس من كثرة الكذب، واختلاق الأخبار التي لا حقيقة لها.

        وقد اشتهر عن الإمام أحمد ما لا يحصى من كلامه في الجرح والتعديل، ورده لأخبار الضعفاء، فهو لا يقبل الخبر للعلم به والعمل بمقتضاه إلا بعد توفر شروط القبول فيه.

        وقد نقل السخاوي في فتح المغيث له حكاية الجزم بكل خبر متلقى بالقبول، عن جمهور المحدِّثين وعامة السلف. وذكر الإسفرائيني إجماع أهل الصنعة على القطع بصحة ما في الصحيحين وأن من حكم بخلاف ما فيهما بغير تأويل سائغ نقض حكمه.

        ونقل السيوطي في التدريب عن الحافظ السجري إجماع الفقهاء أن من حلف على صحة ما في البخاري لم يحنث. ونقل عن إمام الحرمين أنه قال: لو حلف بطلاق زوجته أن ما في الصحيحين من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته بالطلاق.

        وقال أبو عمرو ابن الصلاح بعد ذكر الحديث الصحيح المتلقى بالقبول: وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لقول من نفى ذلك؛ محتجاً بأنه لا يفيد إلا الظن .. قال: وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه هو الصحيح، لأن ظن من هو معصوم عن الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعاً بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول .. سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدار قطني وغيره. انتهى.

        فقد اختار هذا الإمام القطع بثبوت ما في الصحيحين، لما اتضح له الدليل، ولم يبال بكثرة المخالفين، وكأنه لم يطلع على أقوال السلف والأئمة، وموافقتهم لما رجحه ليتقوى بهم، وقد تعقبه بعض المشايخ من أهل العلم والصلاح، كالنووي وغيره، وظنوا أنه قد انفرد بهذا القول عن الجمهور والمحققين؛ وهم معذورون في ذلك على اجتهادهم، حيث إنه ليس لهم بهذا الباب خبرة تامة، وإنما يرجعون فيه إلى ما يجدونه في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة كابن الحاجب، والرازي، والغزالي، والباقلاني، والجبائي، وأبي الحسين البصري، ونحوهم.

وقد رد البلقيني على النووي، وذكر أن اختيار ابن الصلاح هو المحكي عن فضلاء أهل المذاهب وأهل الحديث، وعامة السلف. وتعقبه أيضاً ابن حجر بأن كثيراً من المحققين وافقوا ابن الصلاح. وقد اختار ذلك أيضاً ابن كثير والسيوطي.

وذكر في شرح الكوكب أن أكثر الأصحاب قالوا: إنه يفيد العلم إذا احتف بالقرائن التي تسكن إليها النفس؛ وأن المسلسل بالأئمة الحفاظ يفيد العلم، وهو المذهب، وظاهر كلام الأصحاب، وجزم به ابن أبي موسى في الإرشاد.

قال القاضي في مقدمة المجرد: خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف فيه الرواية، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول، قال: والمذهب على ما حكيت لا غير أهـ.

وقال الشيخ تقي الدين: أكثر أهل الأصول وعامة الفقهاء من الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية قالوا: يفيد العلم، ويقطع بصحته إذا تلقته الأمة بالقبول، أو عملت به، إلا فرقة تبعت أهل الكلام، وذكر أن بعض المحدثين قال: إن فيه ما يوجب العلم اليقيني، كرواية مالك عن نافع عن ابن عمر.

وقد نص مالك على إفادته العلم، وقطع به ابن خويز منداد، وحكاه عن مالك، وهو قول عامة الفقهاء من المالكية ذكره عبدالوهاب.

وعليه الشافعية بلا نزاع، فقد صَّرح به الشافعي في الرسالة، وفي اختلاف مالك.

وعليه أيضاً أصحاب أبي حنيفة، وداود وأصحابه، كما نصره ابن حزم في الأحكام، ونص عليه الحسين الكرابيسي، وأبو إسحاق الشيرازي في كتبه الأصول، سواء عمل به الكل أو البعض، وقد صَّرح الحنفية بأن المستفيض يوجب العلم كحديث: (لا وصية لوارث) وحديث أخذ الجزية من المجوس، وحديث ميراث الجدة السدس، ونحوها مما عمل به السلف والخلف، وكلها آحاد. فقد رأيت إجماع السلف على القطع بصحتها، ورأيت كيف تناقل هذا القول أصحاب الأئمة الأربعة، وجزموا به في مؤلفاتهم، وكذا من اختاره من المتكلمين، كأبي إسحاق الإسفرائيني، وابن فورك وغيرهما.

أدلة إفادة خبر الواحد العام

(أ) حيث اعتقد المسلمون وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولزوم امتثال طلبه، وتقبل كل ما جاء به عن ربه.

(ب) وبعد أن عرفت أن الحكمة التي هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة القرآن، في كونها وحياً منزلاً من الله، كما في قوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة)(النساء:113).

(ج) وحيث إن السنة مما يتلى على الأمة ليعملوا بما فيها كالقرآن، لقوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)(الأحزاب:34).

(د) وأنها من الشرع المنزل كالقرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت القرآن ومثله معه) فإن كل ذلك ونحوه يؤكد أن لهذه الأخبار النبوية حكم الشرع، من حفظ الله وحمايته؛ لتقوم حجته على العباد، لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر:9)، فلا بد أن تكون السنة داخلة في اسم الذكر الذي تكفل الله بحفظه، فمن جعلها ظنية الثبوت أجاز أن تكون في نفس الأمر كذباً مع نسبتها إلى شرع الله، وأجاز أن يكون قد دخلها التغيير والتبديل والتحويل مما كانت عليه، والزيادة والنقص، والنسيان والإهمال ونحو ذلك، ولا شك أن في هذا تكذيباً لله في خبره بحفظها، ثم هو وصف له بما لا يليق بحكمته وعدله من إضاعة دينه، وتضليل عباده، وغير ذلك مما يتعالى عنه جلاله وكبرياؤه سبحانه.

2- أن أغلب أحاديث السنة جاءت مكملة ومبينة للأصول المذكورة في القرآن الذي أجمل الله فيه أغلب الأحكام، ووكل إيضاحها وتمثيلها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كلفه بذلك حيث قال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)(النحل:44). وكذلك أمره بتعليم الناس والحكم بينهم حيث قال: (لتحكم بين الناس بما أراك الله)(النساء:105).

كما أمره بإبلاغ ما أنزله إليه بما فيه السنة بقوله: (بلغ ما أنزل إليك من ربك)(المائدة:67).

وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذه الأوامر من ربه، حيث بلغ الرسالة وأوضح الأحكام المجملة في القرآن، ثم تقبل صحابته بعده جميع ما بيَّن وبلغ إليهم فعملوا به ونقلوه لمن بعدهم كما هو.

فلو جاز أن يتطرق إلى ذلك البيان شيء من الوهم والخطأ لبقي المسلمون في حيرة من مراد الله بتلك الأحكام، ولم يعلموا على أي وجه يوقعونها، ولم يتحققوا أن ما بينه نبيهم صلى الله عليه وسلم وصل إليهم كما هو.

        وكل هذا مما ينافي مقتضى حكمة الله وشرعه ودينه، فلا بد أن تكون هذه السنة محفوظة على الأمة، مصونة عن تطرق الخطأ إليها، ليحصل لهم الانتفاع بهذه الأصول عن يقين ولتقوم عليهم حجة الله.

3- أن الذين جعلوه مظنوناً -ولو مع القرائن- يجوزون أن يكون في نفس الأمر كذباً أو خطأ ثم هم مع ذلك يوجبون العمل به مع ما يخالج نفوسهم من احتمال كونه باطلاً، والعمل به ضلالاً وأمراً مبتدعاً.

ولا شك أن هذا التوقف في ثبوته مع كونه خلاف الظاهر يدفع الثقة بأصول الدين وفروعه التي تلقي أغلبها عن طريق الآحاد؛ ويفتح الباب على مصراعيه لكل من أراد الطعن في شعائر الإسلام وتعاليمه بكون أدلته متوهمة مشكوكاً فيها، ويجلب لنا سوء الظن بسلفنا الصالح الذين تقبلوا هذه الأخبار وحكموا بها، واستباحوا بها الحرام، وسفكوا بها الدماء، وتصرفوا بها في سائر الأحكام، حيث اعتمدوا أدلة غير متحققة الثبوت.

فيتسلط من ها هنا الأعداء عليهم بثلبهم وعيبهم بالتخرص والظن في الدين، ويكون هؤلاء العلماء هم الذين سلطوهم عليهم وعلى أنفسهم من حيث لا يشعرون، فنحن نتحقق أن أولئك الأئمة من السلف يرجعون إلى هذه الأخبار لصحتها عندهم، فلهذا يدعون لها سائر الآراء والاستحسانات، ولم يكونوا يقابلونها بشيء من الأقيسة أو القواعد أو أقوال المشايخ.

وكل هذا مما يحقق لنا أن قد تبينوا ثبوتها، واستفادوا منها العلم اليقيني الذي لا تردد فيه البتة.

وأمثلة قبولهم لها تأتي إن شاء الله في أدلة العمل بالأحاد.

4- أن هؤلاء المخالفين لما رأوا شهرة قبولها، والرجوع إليها عن السلف وفي مؤلفات أئمتهم الذين قلدوهم في الفروع – لم يجدوا بداً من الحكم بقبولها في الأعمال، وهذا تناقض ومخالفة لما اعتقدوه من كونها ظنية الثبوت.

        وما ذاك إلا لأن الأصل براءة الذمة، فلا تثبت التكاليف بخبر يمكن أن يكون موضوعاً مختلقاً.

        وقد اعتقدوا أن السلف إنما عملوا بها وإن كانت مظنونة لأن أدلة العمل يجوز أن تكون ظنية.

      وهذا خطأ على السلف، فإنهم لو لم يكونوا يقطعون بصحتها لم يقدموا على العمل بموجبها، وإثبات الأحكام بها أصولاً وفروعاً كما سيجيء إن شاء الله.

وما أدري ما حال عبادات هؤلاء التي فعلوها وقد قارن أنفسهم من الشك والريب في صحة أدلتها ما لابدَّ لهم منه بموجب مذهبهم.

ولا شك أن من كان بهذا الاعتقاد لن ينفك من الوساوس في كل قربة يأتي بها، أو أمر يمتثله، من كون ذلك بدعة أو مغيراً عن وضعه الأصلي.

ولا بد أيضاً أن يعتقد أن شريعة الله قد اختلط بها ما ليس منها، وامتزجت بما هو كذب، وأنه ليس في الإمكان تخليص دين الله من تلك البدع التي دخلت فيه بموجب تلك الأخبار التي يمكن كونها مكذوبة، ومن ظن شيئاً من ذلك فقد أجاز على المؤمنين أن تكون قرباتهم صادرة عن جهل، ومبعدة لهم عن الله، وجوز على الدين أن يكون قد تنوسي منه الكثير، وتغير ما فيه عما كان عليه، وعبثت به الأيدي، وكل هذا خلاف ما تقتضيه حكمة الله، وخلاف اعتقاد المسلمين جميعاً، وهو من لازم قول هؤلاء شاؤوا أم أبوا.

5- أنهم مع توقفهم في صحة أخبار أولئك الثقات من السلف يصدقون بما تلقوه عن رؤوس الجهمية والمعتزلة، من تلك الأدلة يزعمونها براهين عقلية، وهي في الحقيقة خيالات وتمويهات، ولكنها مع ذلك تفيد العلم عندهم. وما ذاك إلا لثقتهم بمشايخهم الذين علموهم تلك القواعد، مع أن المرجع فيها غالباً إلى الفلاسفة، وضلال الصابئة والمجوس واليونان، ونحوهم من الكفرة. فلم يعطوها حكم الآحاد الذي جعلوه للأخبار النبوية، وهو كونها مظنونة متوقفاً في ثبوتها.

6- أنهم يتحققون نسبة أقوال أئمتهم إليهم، ويجزمون بكونها مذاهب لهم، ويجادلون عنها ويتفاوتون في نصرتها؛ ولو شك فيها أحد لأنكروا عليه واستجهلوه.

مع أن نقلها عن أولئك الأئمة إنما كان عن طريق الآحاد.

ومع ما يوجد بينها من التضارب والتناقض أحياناً مما يوضح أن قد دخلها الوهم والتغيير.

ولم يكن شيء من ذلك سبباً لتوقفهم فيها، ولم يعطوها حكم الآحاد في أنها مظنونة لا تفيد اليقين.

7- أن من المتيقن عندهم أيضاً نسبة المؤلفات التي بأيديهم في سائر العلوم إلى أهلها، وإضافة ما نقلوه منها إلى من اشتهرت باسمه عن طريق الجزم، مع استمرار العزو إليها وإلى مؤلفيها، مع أنها لم ترو في الغالب عن أربابها إلا بأسانيد محصورة لا تخرج عن كونها آحاداً.

ولم يوجد من ينكر صحة نسبتها أو يعطيها أحد حكم الآحاد.

بل إنهم يتحققون نسبة مؤلفات من قبل الإسلام بزمن طويل، ككتب أرسطو ونحوه، مع ما تعرضت له من العبث بها والتصرف فيها. وكل هذا لم يمنع كونها صحيحة عمن نسبت إليه، مقطوعاً بها.

 8- ما هو متداول بين المسلمين وغيرهم من نسبة كل قول إلى قائله، وقبوله ممن نقله وإن كان واحداً، ومعاملة قائله بموجبة مدحاً أو ذماً.

        وهذا ما لا يمكن إنكاره؛ ولم يسمع أن أحداً قال: إنه لا يفيد العلم، أو لا يصدق باطناً، كما جعلوا ذلك لخبر الآحاد في الحديث النبوي.

9- اعتماد كل تلميذ على أنواع العلوم التي يتلقاها عن شيخه، واعتقادها، والتفريع عليها، والذب عنها، مع أن أستاذه فيها واحد، نقلها عمن فوقه، وقد يكون أيضاً واحداً. ولكن لثقته بشيخه، ومعرفته منه الصدق والعدالة، لم يوجد منه التوقف فيها، ولا قال أحد إنها لا تفيد إلا الظن.

        فلو أعطاها هؤلاء حكم الآحاد الذي زعموه للأخبار النبوية لما كانوا على يقين من علومهم العقلية والنقلية ولا محيص لهم من أحد أمرين:

        أ- الاعتراف بأن جميع ما تعلموه وما يعتقدونه كله ظن.

        ب_ القول بأن علماءهم امتازوا عن سلف الأمة ونقلة الحديث وفضلوهم، بحيث صار خبر علمائهم يفيد اليقين، وخبر المحدثين عن نبيهم مهما بلغوا من الصدق و الثقة و الحفظ و الديانة إنما يفيد الظن، وهذه مباهتة، يردها العقل وواقع الأمر.

10- أن كل عاقل يضطر إلى الجزم بخبر العدل بعقله، وإن أنكر ذلك بلسانه عنادا‌ً، وشاهد الحال أوضح برهان على ذلك؛ فإن الإنسان يسمع خبراً بقدوم صاحبه أو قريبه فيتلقاه من بعيد، أو يزوره، مع ما يناله في ذلك من المشقة أحياناً أو الانقطاع عن العمل، ويعمل بخبر رسول صاحبه إليه فيعطيه ما طلبه ولو نفيساً، وقد يذهب معه تاركاً أعماله وأمواله ولو خالجه شك أو توهم في صدق هذا الخبر لما أقدم على إنهاك بدنه، أو إضاعة وقته، فلا بد أنه جازم بصحة الخبر الذي نقله فرد من عامة الناس، ومما لا يستطاع إنكاره عمل العوام بخبر الواحد، وهم لا يعرفون هذا الاصطلاح، فترى أحدهم يقدم على تجشم المشاق، وركوب الأخطار لمجرد خبر قد يكون بكتاب أو بهاتف ونحو ذلك، فيبني عليه أسفاراً ونفقات، وإضاعة أوقات، لجزمه بصدق ذلك القائل.

        وهكذا تقوم حركات الناس في أسواقهم على خبر الواحد، فتراهم يزيدون في قيم السلع أو ينقصون، أو يجلبونها إلى البلاد النائية ونحو ذلك بناء على نشرة أو إذاعة أو مكالمة وما ذاك إلا لاعتقادهم صحة الخبر، وتجربتهم صدقه مرة بعد مرة.

11- ما هو متواتر عن السلف والمحدثين وغيرهم من جزمهم بالأحاديث النبوية كثيراً، وإضافتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً، وحكمهم بصحة ما ثبت عندهم منها، وهكذا تفريقهم عند نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحيح والضعيف والمشكوك فيه، بحيث يذكرون الأول بصيغة الجزم، والثاني بصيغة التمريض، مما هو صريح في قطعهم بالصحيح، وعلمهم بصدوره عمن نسب إليه. ولو كان الجميع سواء في إفادة الظن لما فرقوا بينهما بما ذكر.

        فأنت تراهم دائماً يقولون: صح عنه صلى الله عليه وسلم كذا، وأمر بكذا، أو قال كذا، أو فعل كذا، فعند شكهم في صحة الخبر يعدلون عن الجزم إلى عبارة تفيد توقفهم في صحته، كقولهم: يُذكر عنه كذا، أو يروى، أو روي أو حكي، أو نحو ذلك.

فجزمهم بنسبة الأول صريح في قطعهم بصحته، وعلمهم بما تضمنه.

 وعدولهم في الثاني عن صيغة الجزم إلى صيغة التمريض كما مثل دليل أنه إنما يفيد الظن عندهم أو الوهم، وهذا عمل مستمر بين المحدثين و علماء السنة من غير نكير، و ليس مرادهم الحكم بصحة السند فقط، كما توهمه بعض أهل الظن، فقد اشتهر عنهم التفريق في التصحيح بين صحة السند وصحة المتن، حيث يقولون للأول: إسناده صحيح، أو صحيح الإسناد، وللثاني حديث صحيح ونحوه.

12- إجماع سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة في كل زمان ومكان على تلقي هذه الأخبار بالقبول، والعمل بها، وترك الآراء والمذاهب لأجلها، ومن رد منها شيئاً اشتغل بتأويله وصرفه عن ظاهره لئلا يرد عليه مما يدل على تصديقه لها.

        وإن وجد بين الأمة من أعلن رد شيء منها بدون تأويل لم يكن معتبراً، ولا خارقاً للإجماع لشذوذه.

        فقبول علماء الأمة ومجتهديها لهذه الأخبار بدون توقف ولا معارضة لها بأصول أو مذاهب يحقق أن قد اطمأنوا إلى صحتها، وتيقنوا ثبوتها، وذلك كحديث: (لا وصية لوارث). وحديث أخذ الجزية من المجوس وأحاديث إثبات الشفعة، وزكاة الفطر، وتحريم بيع الولاء وهبته وأن الولاء لمن أعتق، وأمثالها كثير، مما لم يتوقف أحد من علماء الأمة المعتبرين في العمل به أو تصديقه.

        بل إن جمهور أحاديث الصحيحين قد تقبلتها الأمة وعملت بموجبها، وذلك تصديق لها يقيناً، كما احتج بذلك بعض أجلاء العلماء على ما اختاروه من إفادتها العلم اليقيني، كابن الصلاح، وأبي طاهر النسفي وغيرهما كما سبق. وليس المراد إجماع أفراد من ينتسب إلى الأمة من كل الفرق وفي جميع الأزمنة، فإن أهل البدع المخالفين لبعضها في الاعتقاد لا يحصل لهم العلم بما تواتر منها فضلاً عن الآحاد، فقد رد الروافض أحاديث فضائل الصحابة رضي الله عنهم مع تنوعها؛ وكذا أحاديث المسح على الخفين، ، وهي من التواتر المعنوي؛ ورد المعتزلة أحاديث الشفاعة ونحوها.

        فخلاف مثل هؤلاء لا يعتبر، حيث إنهم لا يقبلون إلا ما وافق أهواءهم؛ فقد قبلوا أحاديث كثيرة مما في الصحيحين أو غيرهما دن هذه في الصحة، واعتبروها أدلة يقينية مع أنها آحاد.

         ثم إن الاعتبار في الإجماع على كل فن بأهله المشتغلين به، فلا تضر مخالفة من أعرض عنه واشتغل بغيره، كما لا تضر مخالفة أهل الطب والعربية وأهل الكلام في هذا الباب، لعدم أهليتهم لمعرفة طرقه ومتونه ونقلته ونحو ذلك.

         ثم إنه لا يُراد أيضاً بالإجماع اتفاق كل فرد من الأمة على العمل بكل حديث من أحاديث الصحيحين، فقد استثنى ابن حجر وغيره ما تعقبهما عليه أحد الحفاظ، أو وقع التجاذب بين مدلوليه.

         ولقد أتى على هذين الصحيحين أكثر من أحد عشر قرناً انتشر فيها ذكرهما في أقطار البلاد، وبين طبقات المسلمين، في شرق البلاد وغربها، وما زال علماء المسلمين ينقلون منهما، ويستدلون بأحاديثهما، ويرجعون إليهما عند التنازع.

         وقَلًَّ أن يوجد مؤلف في العبادات أو الاعتقادات لعالم معتبر إلا وفيه ذكر الصحيحين أو مؤلفيهما، أو النقل منهما أو من أحدهما.

         ولم يذكر عن أحد من العلماء المعتبرين طوال هذه القرون الطعن على الشيخين بعدم الحفظ، أو أن ما في الكتابين غير ثابت أو نحو ذلك.

         ولقد نشرت مجلة العربي الصادرة في الكويت في عدد فبراير 1966م مقالاً للأستاذ عبدالوارث كبير، يفيد الطعن على أحاديث في البخاري؛ فأثار هذا المقال حفائظ العلماء الغيورين على الدين، وأظهروا الاستياء والتسخط، وأعلنوا ذلك بمقالاتهم التي نشروها في أغلب المجلات والصحف، في أكثر البلاد الإسلامية؛ ثم بتأمل ذلك المقال الشنيع يتضح اتصاف قائله بالجهل المركب، سيما في علم الحديث رواية ودراية.

         فتعظيم الأمة لهذين الكتابين، والرجوع إلى أحاديثهما عند الاختلاف، والتشنيع على من ترك شيئاً مما فيهما ولو بتأويل، والنقل المستمر منهما عند أفراد العلماء، هذا وغيره مما حمل ابن الصلاح وغيره على الجزم بصحة ما فيهما سوى ما استثنى.

         وبهذا ونحوه تعلم ضعف ما تعقب به الأمير الصنعاني الإجماع على تلقي الصحيحين بالقبول، حيث أطال في توضيح الأفكار بأن دعوى الإجماع لا دليل عليها، وأن الإجماع متعذر، لقول الإمام أحمد: من ادَّعى الإجماع فقد كذب. وبأن الإجماع لا يتم إلا بعد عصرهما بزمان طويل، حتى ينتشرا في أقاصي بلاد الإسلام؛ وبأنه يغلب على الظن أن من المجتهدين من لا يعرفهما؛ وأن معرفتهما ليست شرطاً في صحة الاجتهاد، وأن الأمة إنما عصمت عن الضلالة لا عن الخطأ، فلا يلزم محذور من عمل الأمة بما ليس بصحيح خطأ، وأنه لا يلزم صحة ما فيهما بمجرد عمل الأمة به، فإن الحسن يعمل به … إلخ.

         فيقال أما بينة دعوى الإجماع فتظهر بما ذكرناه من تعظيم الأمة لهذين الكتابين، وانتشارهما في بلاد الإسلام، ومن لم يعرفهما ولا شيئاً من أحاديثهما لم يكن قد عرف السنة، ولن يفهم القرآن وتعاليمه، فلا يسمى مجتهداً.

         فأما تكذيب أحمد لمدعي الإجماع فقيل من باب الورع، وقيل: إنه في حق من ليس له معرفة بالخلاف، كما صح عنه حكاية الإجماع في مواضع، فأما قبول الصحيحين في الجملة عند مجتهدي الأمة فهو مما لا يمكن جحوده، فلا يتصور أن فيه خلاف، ولو حدث خلاف له وجه من النظر لاعتبر ذكره واشتغل بجوابه. مع أن الصنعاني لم يصرح بمن هو مخالف في ذلك، وكأنه قصد خلاف الزيدية، وردهم لبعض الأحاديث المخالفة لمذهبهم كغيرهم، وعلى كل حال فقد جزم بالإجماع هنا جهابذة العلماء قبله وبعده.

         وقد حصل الإجماع قبل ذلك من الصحابة والتابعين وسلف الأمة على قبول مثل هذه الآحاد، والعمل بها وترك الاجتهاد لأجلها؛ مما يؤكد يقينهم بصحتها، وصدروها عمن نسبت إليه.

         ولا تعتبر مخالفة من تأخر عنهم أو من ليس من أهل صناعتهم، ذلك أن الاعتبار في كل علم بأهله، لا بمن أعرض عنه إلى سواه.

         فلا تعتبر مخالفة الخوارج، والمعتزلة، والشيعة ونحوهم، كما لا تعتبر مخالفة الأطباء والنحاة، والمتكلمين ونحوهم، ممن ليس لهم اشتغال بطرق الحديث ورجاله، وتتبع رواياته ومتابعاته، ونحو ذلك مما هو عمل أهل الحديث.

         وإن تحقق هذا الإجماع من مجتهدي الأمة وأتباعهم فإن الأمة معصومة أن تجتمع على خطأ أو ضلالة فإذا حصل الإجماع على اعتبار قياس أو ترجيح أحد الاحتمالين في النص، أو العمل بالحديث الحسن، دل ذلك على صحة ما أجمعوا عليه.

         وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر توافقهم حتى في الرؤيا كما قال: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) يعني ليلة القدر.

         وإذا قدر جواز الخطأ على الواحد من أفراد الأمة فوقوعه من الجميع ممتنع، كما أن الواحد من نقلة المتواتر يجوز عليه الخطأ، ولا يجوز على المجموع.

         فخبر الواحد إن قيل: إنه بمجرده ظني، فإن تقبل الأمة له وعملها بموجبه يوجب أن يكون قطعياً، فإن عمل الأمة بما هو كذب في الباطن لا يجوز، لأنه خلاف ما ضمن الله لها من العصمة.

          فإذا روي في السنة خبر ليس بصحيح، فلا بد أن يوجد في الأمة من ينكره، ويبين بطلانه، ممن تقوم ببيانه الحجة.

 وقد حصل الإجماع على العمل بأغلب أحاديث الصحيحين وغيرهما، فدل على أنه صدق وحق في نفس الأمر، وإلا كان الإجماع منعقداً على العمل بما هو كذب، وهو مما يعلم بطلانه قطعاً.

وأيضاً فإنه لا يجوز في الشريعة التباس الحق بالباطل دون دليل يتميز به كل من الآخر، فقد جعل الله على الحق من النور والضياء ما يعرفه به أهل المعرفة بالله وبدينه وبشرعه.

 أما أهل التقليد الأعمى، والإعراض عن شعائر الدين، فلا يستبعد أن يخفى عليهم الحق الواضح، لفقدهم البصر النافذ في دين الله، كما يشتبه الليل والنهار على من فقد عينيه اللتين يبصر بهما المحسوسات.

فهؤلاء لما أظلمت قلوبهم، لخلوها من نور الله المستمد من شريعته، وإقبالها على زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، لا جرم كذبوا بأحاديث نقلها خيار الأمة وأصدقها لهجة وصدقوا أقوالاً وترهات توافق عقولهم، مع أنه لا حقيقة لها.

13- الدليل السمعي المتفق عليه، وهو ما في القرآن من ذم أهل التخرص والظن، والنهي عن القول على الله بلا علم، كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)(الإسراء:36).  وقوله: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)(الأعراف:33). وقوله تعالى: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)(الأنعام:148). وقوله: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون)(الأنعام:116). وقوله: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)(النجم:23). وقوله: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)(النجم:28). وقوله: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون)(يونس:36)، وقوله: حكاية عن الذين كفروا، على وجه الذم لهم: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين)(الجاثية:32) وأمثال هذه الآيات كثير.

         لقد تضمنت هذه الآيات النهي عن القول على الله في دينه بلا علم، وعن اتباع الإنسان ما ليس له به علم، والنهي عن التعبد بموجب الظن وما تهواه النفس، وأخبر أن هذا الظن ليس من الحق في شيء.

         وما زال المسلمون في كل زمان ومكان يفتون بموجب هذه النصوص وإن كانت آحاداً، ويحلون بها أشياء ويحرمون أشياء، ويعاقبون على تركها، ولو كانت إنما تفيد الظن عندهم لدخلوا تحت قوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)(النحل:116).

         فالقائلون بأنها ظنية ويجب العمل بها، يلزمهم القول بأن الله أمر بما نهى عنه، وما ذمه في هذه الآيات، حيث أوجب أن نحكم في دينه وشرعه بأدلة متوهمة، وقد نهانا عن التخرص في الدين، وأخبر أنه خلاف الهدى الذي جاءهم من ربهم، وإذاً فلا فرق بين أهل الظن وبين أولئك المشركين الذين قال الله فيهم: (إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)(الأنعام:148).

         وقد نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقفوا ما ليس له به علم، بل جعل القول عليه بلا علم في منزلة فوق الشرك، كما في آية المحرمات في سورة الأعراف، حيث ترقى من الأسهل إلى الأشد، فبدأ بالفواحش، ثم بالإثم وهو أشد، ثم بالبغي وهو أعظم من الإثم، وبعده الشرك أشد منه، ثم القول على الله بلا علم، فأي ذم أبلغ من هذا.

وقد تكلف بعض المتكلمين الجواب عن هذا الدليل، فذكر الآمدي وجهين في ذلك وهما:

1- أن العمل بالآحاد عمدته الإجماع على وجوب العمل بها، لا خبر الواحد، وهذا الإجماع قطعي الدلالة لا ظني.

2- حمل هذه الآيات على ذم الظن والتخرص في أمور الاعتقاد، وما لا بد فيه من اليقين، والجواب عن الأول: أنه وافق على وقوع الإجماع، وقد بينا أن الإجماع دليل القطع بالنص المجمع على العمل به.

         والجواب عن الثاني أنا نمنع التفريق بين الأصول والفروع، وسيأتي إن شاء الله أن الأصول مما تثبت بالآحاد، فالنهي عن الظن على عمومه في الجميع، ويراد به ما لم يكن مبنياً على دلائل وأمارات توجيه، بل هو مجرد وهم وتخمين.

14- ما اشتهر عن الصحابة رضي الله عنهم من قبولهم للآحاد وتصديقهم بها، كما اشتهر عن أهل قباء من تحولهم إلى جهة الكعبة وهم في الصلاة، اعتماداً على خبر واحد، وهو من أوضح البراهين على حصول العلم لهم بصدقه، وإلا لما انصرفوا عن قبلة قد تحققوها اعتماداً على خبر لا يوجب إلا الظن.

وكذا ما اشتهر عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه من بنائه على خبر الذي أفادهم بتحريم الخمر، حيث أتلفها، وكسر جرارها، وفي ذلك إضاعة لمال محترم، ولو لم يكن متحققاً صدق ذلك الخبر لما أقدم على الإتلاف، وأمثلة ذلك كثيرة يأتي بعضها إن شاء الله في أدلة العمل بالآحاد.

 15- ما اشتهر عن الصحابة والسلف من الشهادة  على الله وعلى رسوله بموجب هذه الأخبار، ولا شك أنهم لا يشهدون بما لا يعتقدون صحته.

         وقد قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)(البقرة:143). فوصفهم بأنهم وسط أي عدول خيار، وبأنهم يشهدون على الناس، أي بأن الله أمرهم بكذا، وفرض كذا، وبلغهم دينه وأزال عذرهم.

         ثم هم ينقلون آثار نبيهم التي أمرهم بإثباتها، ويشهدون بكونها من دينه، وقد قرءوا قوله تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)(الزخرف:86) وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (ترى الشمس)؟ قال: نعم، قال: (على مثلها فأشهد أو دع) صححه الحاكم.

         فشهادتهم بهذه الأخبار عن نبيهم توجب صدقهم اليقين بما قالوه لما عرف من عدالتهم، وتورعهم عما فيه شك أو تردد.

16- قوله تعالى: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(النحل:43)، وقوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(التوبة:122) ولو لا أن جواب أهل الذكر، وإنذار الطائفة قومها يفيد العلم لما أمر به فإن أهل الذكر يعم ما لو كان واحداً، والطائفة تعم الواحد، والإنذار هو الإعلام بما يفيد العلم ليحصل الحذر.

وسيأتي إن شاء الله بسط دلالة الآيتين، والجواب عما يرد عليهما، في أدلة العمل.

17- ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من بعثه الآحاد إلى أطرف البلاد، ليبلغوا عنه ما أمره الله بتبليغه من الدين، وليعلموهم شرائع الله.

         ولو لا أن أخبارهم تفيد العلم لم يحصل البلاغ، ولحصل التوقف من المدعوين، ولم ينقل أن أحداً منهم قال لمن علمه شيئاً من الدين، أو طلب منه جزية، أو زكاة أو نحوها: إن خبرك لا يفيد العلم، فأنا أتوقف حتى يتواتر الخبر بما ذكرت.وقد اكتفى صلى الله وسلم بتبليغهم عنه، وتعليمهم ما أمر الله به.

         وقد حصل بذلك تبليغ الرسالة الذي كلفه الله بها بقوله: (بلغ ما أنزل إليك من ربك)(المائدة:67). ونحوها منه ومن رسله وأتباعه بعده، وبذلك قامت حجة الله على الخلق، ومحال أن يحصل البلاغ بما فيه شك أو توهم.

18- أن الله أمر برد ما يحصل فيه النزاع إليه وإلى رسوله في قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)(النساء:59)، وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(النور:63).

والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد موته، ولو كانت سنته إنما تفيد الظن لم ينفصل النزاع بالرد إليها.

ومن المعلوم أن أكثر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إنما رويت أحادية، ولم يزل سلف الأمة ومن تبعهم يتحاكمون إليها امتثالاً لهذا الأمر، ويجعلونها فاصلة للنزاع بينهم، ويرضون بها حكماً، ويشتد إنكارهم على من امتنع عن قبولها، ويخوفونه بالفتنة والعذاب الأليم الذي توعد الله به من خالف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان أمره الوارد في هذه الأخبار لا يفيد يقيناً لكان المخالف له معذوراً عندهم، وهو خلاف الإجماع كما تقدم.

19- ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أمره صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه، وذمه لمن رد ما سمعه عنه، حيث قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً  على أريكته، يأتيه الأمر من أمري يقول: لا ندري ما هذا؟ بيننا وبينكم كتاب الله، ألا وأني أوتيت الكتاب ومثله معه). وقال في الحديث الصحيح عنه: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) فانظر كيف أمر كل فرد سمع علماً عنه بالتبليغ، ولو لا أنه يفيد العلم لم يأمر بقبوله، ولما توعد على رده، حيث إن في إمكان السامع أن يقول: خبرك مشكوك فيه، فلا يلزمني قبوله.

 فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر من التبليغ إلا بما تقوم به الحجة على السامع، ففي دعائه لمن حفظه عنه ثم بلغ ما حفظ ولو كان واحداً، ولو غير فقيه، وفي تحذيره من رد خبره أوضح دليل على حصول العلم لمن وصل إليه هذا العلم عن هذا الثقة الحافظ.

 وهذه صفة صحابته رضي الله عنهم، وهكذا فعلوا، وقد تقبل عنهم جمهور الأمة جميع ما نقلوه عن نبيهم موقنين بصحته.

 

من قال: خبر الواحد يفيد العلم بالقرائن

وبيان أنواع القرائن

  وهذا القول قد اختاره جمع من متأخري الأصحاب، وبه قال الموفق وابن عقيل، واستظهره أبو البقاء في شرح التحرير، وهو قول النظام ومن تابعه، واختاره الآمدي، وبه قال القاضي أبو بكر ابن الباقلاني، والفخر الرازي وابن الحاجب وغيرهم.

ثم إن القرائن تنقسم إلى: متصلة، ومنفصلة.

          أولاً: القرائن المتصلة:

          فيراد بها أحوال الراوي أو المروي أو السامع:

          (أ) أما أحوال الرواة: فمثل كونهم من أهل الصدق والأمانة إلى آخر الشروط، ومثل توافق العدد على نقل حديث واحد، أو توارد راويين على سياق متقارب، مع اختلاف الآراء، وتباعد الديار، مما يعلم به أنهما لم يتواطآ عليه، ويبعد في العادة اتفاقهما على الكذب فهذه ونحوها قرائن تحصل العلم اليقيني بخبرهم.

          (ب) أما أحوال المروي: فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم عليه من النور والبهاء والقوة في الأسلوب ما يعرفه به المتبصر في الدِّين.

          وكذا موافقته لما تهدف إليه الشريعة وكذا تأيده بالنصوص الأخرى بمعناه كل هذه قرائن توجب العلم القطعي به فلا يلتبس بالكذب والباطل على كل ذي عقل وفهم صحيح، فإن على الحق نوراً يبصره ذو البصيرة السليمة الذي يفرق بين الخبر الصادق والكاذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يفرق بين الليل والنهار.

          (جـ) أما أحوال السامع: فإن من كان من أهل الحديث المشتغلين بالسنة، والعالمين بمقاصد الشرع، وبأحوال الرجال كانت معرفته بالحديث أتم، وتمييزه بين الصادق والكاذب أقوى، بخلاف المعرضين عن ذلك الذين لا اشتغال لهم بعلم الحديث، وليس لهم خبرة بأحوال نقلته، فإنهم بمعزل عن معرفة الصحيح منه والسقيم، فلا يتأثرون بالقرائن ولا يفرقون بين الأخبار كما هو مشاهد.

          وقد يدخل في القرائن المتصلة تلقي الأمة للخبر بالقبول، وعملهم بموجبه أو اشتغالهم بتأويله، كما تقبلوا أحاديث الصحيحين في الجملة، وغيرهما مما ثبت كونه من الدِّين، بإطباق جمهور الأمة على العمل بما تضمنته.

          قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: والخبر المتحف بالقرائن أنواع:

          1- منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن.

          (أ) منها جلالتهما في هذا الشأن.

          (ب) وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.

          (ج) وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول.

          وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن حد التواتر.

          إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين.

          وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه، حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.

          وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته.

          وممن صرح بإفادة ما أخرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، ومن أئمة الحديث أبو عبدالله الحميدي، وأبو الفضل بن طاهر.

          2- ومنها المشهور إذا كان له طرق متباينة، سالمة من ضعف الرواة والعلل. وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر بن فورك وغيرهما.

          3- ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريباً، كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره، عن الشافعي ويشاركه فيه غيره، عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم. ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكاً مثلاً لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة أزداد قوة وبعداً عما يخشى عليه من السهو. انتهى.

          وعلى أن المراد بالقرائن هذا النوع يتلاقى هذا القول مع القول الأول، وهو أنه يفيد العلم، فإن الأولين لم يكونوا يقطعون بكل خبر سمعوه، ولا بكل ما قيل إنه حديث.

          كيف وقد اشتهر تقسيمهم الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف؛ وحكمهم على كثير مما يسمى حديثاً بأنه موضوع مكذوب، مع أنه خبر منقول بسند ورجال مسمين غالباً.

          وسبق ذكر ما اشترطوه في قبول خبر الواحد، وإفادته العلم من كون رواته ثقاتٍ عدولاً … إلخ.

          مما يدل على أن من لم يستوف تلك الصفات لا يقبل خبره، ولا يفيد العلم، وإن أفاد الظن الغالب أحياناً.

          ثانياً: القرائن المنفصلة:

          فأرادوا بها أموراً خارجة، غير ملازمة للخبر دائماً بل تقترن به أحياناً أو تحدث معه، فيعرف بها صدق الناقل وصحة خبره. وهذا النوع هو الذي قصده أكثر المتكلمين الذين اشترطوا في إفادة العلم اقترانه بالقرائن غير اللازمة، كالآمدي والغزالي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، حكى ذلك عنهم ابن الهمام وغيره، كما في شروح التحرير.

          وقد مثلوا للقرائن المنفصلة بمن أخبر عن عطشه أو مرضه، ورُئيت عليه علامات ذلك ظاهرة، من يبس شفتيه أو تغير لونه، أو حرارة جسمه، أو نحو ذلك مما يقوي صحة خبره.

          وكذا  لو أخبر بما عليه فيه ضرر، ولكن حملته خشية الله والخوف من عذابه على الإقرار بما فعله لقصد التطهير؛ كمن أخبر بأنه ارتكب ذنباً يوجب حداً أو قوداً، وليس هناك ما يلجئه إلى الإقرار، وقد عرفت منه محبته للحياة، ورغد عيشه، وأخبر  بذلك طوعاً واختياراً.

          وهكذا من أقر بدين عنده له وقع في النفس، بدون بينة من صاحب الحق، وبدون أن يطلب منه يمين، وبلا تهديد ولا تعزير.

          وكما لو أقر عند المفتي بطلاق أو عقد، أو بأنه وقع منه خلل في صلاته أو صومه، أو نحو ذلك، وطلب بيان الحكم، فإن المفتي يصدق خبره في كل ذلك، إلى أمثال هذه الصور مما هو كثير.

          وأنت تعرف أن هذه القرائن تقوي صدق الخبر أيَّا كان نوع المخبر، بدون أن يشترط له ما تقدم من الشروط كالضبط والعدالة … إلخ.

          وقد مثلوا ذلك بمعرفة محبة الشخص لمحبوبه، حيث تعرف من أفعاله، وإن لم يخبر عما يكنه ضميره فإن قيامه بخدمة ذلك الشخص، وطول ملازمته، وبذل ماله له، ونحوه من الأفعال التي هي من خواص المحبين، تدل يقيناً على صدق المحبة، وإن كانت كل خصلة منها لا تدل على ذلك بانفرادها، لاحتمال أن تكون لغرض  خاص، فباجتماعها واستمرارها يتحقق من مجموعها صدق محبته له، وهكذا لو حصل ضدها من شخص لآخر عرف بذلك عداوته له وبغضه.

          ثم إن نفس القرائن قد تكون قاصرة عن إفادة العلم، فإذا انضاف إليها خبر من شخص لا يوثق بخبره، كانت موافقته له دليل صدقه، فيحصل العلم بخبره وبالقرائن معاً، فإن حصل العلم بالقرائن كان خبره زيادة فضل.

          وإذاً فخبر الثقة العدل يفيد العلم في بعض الأمور لبعض الأشخاص، وقد يقصر عن ذلك فيتقوى ببعض القرائن، وقد تحصل القرائن لبعض السامعين دون بعض، كما لو أخبر شخص زيداً وعمراً بأن خالداً قد مات، وكان عمرو قد علمه مريضاً غير ميئوس منه،  وزَيْدٌ قد عهده لا بأس به، فإن خبر المخبر يحصل العلم لعمرو دون زيد.

          وقد يكون هناك ثالث علم شدة مرضه، ولم يسمع بموته، ولكنه رأى الجنازة أخرجت من بيته الذي لا مريض فيه سواه، ورأى أهله وولده وحاشيته قد أحدقوا بها، وقد اتصفوا بما يدل على مصابهم، من الحزن والكآبة، والبكاء والنحيب ونحو ذلك، فإنه يحصل له العلم اليقيني بأن هذا المحمول على السرير هو خالد دون غيره، وذلك معروف بالمشاهدة، فظهر بهذا تباين الناس، وتباعد ما بينهم في التأثر بالقرائن، وأن منهم من عنده من المعرفة بأحوال الرواة، وتتبع الأخبار، وقرائن الأحوال، وما يحتف بالخبر من هذه الدلائل ما لا يوجد عند الآخرين، فيحصل له العلم اليقيني بهذا الخبر، بينما الآخرون لم يحصل لهم أكثر من الظن أو التردد، ومع ذلك فقد استبعد العلم به بعض المتكلمين وأنكره بعضهم، ومن أعجب ما قرأته ما ذكره الغزالي في المستصفى في نفي حصول العلم بخبر الواحد حيث قال: ولا يُظن بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن، أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغاً لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة، ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة، فهذا مما لا تعرف استحالته، ولا يقطع بوقوعه، فإن وقوعه إنما يعلم بالتجربة، ونحن لم نجربه، ولكن قد جربنا كثيراً مما اعتقدناه جزماً بقول الواحد، مع قرائن أحواله، ثم انكشف أنه كان تلبيساً. اهـ.

          هكذا يقول هذا العالم الكبير، وأنا أستبعد أحقية ذلك، وإن قدرنا صحته فلعله مختص بالبلاد التي نشأ فيها، وبأهل الزمان الذين اتصل بهم، فيمكن أن قد فقد  بينهم الصدق، وخف فيهم الدين، وكثر التزوير والبهرج، حتى عد من المستحيل الوثوق بخبر الواحد، وحصول العلم به مهما بلغ من الأمانة والديانة، وتعظيم أمر الله، والخوف من مغبة الكذب، لدرجة أن من صدقه يعد أقل حالة من المعتوه وهو ناقص العقل.

          فأما أن يطبق هذا على كل وقت وكل أناس، وإن اتصفوا بالعدالة وتمام الضبط … إلخ فليس كذلك إن شاء الله.

مستند من قال إن الآحاد لا تفيد إلا الظن

ومناقشة شبههم

         تتابع الأصوليون غالباً في مؤلفاتهم على اختيار أن خبر الواحد لا يفيد العلم ولو بقرينة، وإنما يجوز العمل به وإن كان ظني الثبوت، لجواز العمل بما يفيد الظن.

         وأعتقد أن عدم حصول العلم لهم من هذه الأخبار بسبب أن جل اشتغالهم بعلم الكلام ونحوه، وهم في الجملة بمعزل عن علم الحديث وطرقه ورجاله.

         وقد انخدع بكثرتهم وتهافتهم على هذا القول كثير من أهل الحديث المتأخرين، كما فعل النووي في التقريب وشرح مقدمة مسلم، وكذا ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول الذي نقل عبارة الغزالي بالحرف.

         ومن العجيب تأويل الغزالي لقول من ذهب إلى أنها تفيد العلم بأحد أمرين:

         1- أنهم أرادوا إفادتها للعلم بوجوب العمل.

         2- أن العلم بمعنى الظن.

         ثم  حكى أن بعضهم فسَّره بالعلم الظاهر، لقوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات)(الممتحنة:10) ورد هذا التفسير.

         وكأنه لما استحكم في قلبه كونها ظنية اعتقد ذلك حجة مسلمة من كل ذي عقل، واستبعد أن يخالفه فيها أحد.

         ولما كان هذا القول مشهوراً عن السلف أراد أن يصرفه عن ظاهره، حتى لا يبقى عالم معتبر يخالف ما قاله، فأوله إما بجعل العلم مراداً به غير ما نحن فيه، وأنه العلم بوجوب قبول هذه الأخبار، والعمل بما تتضمنه، وإما بأن العلم مراد به الظن الذي يقول به جمهورهم.

         ويتضح أنه لم يقرأ عبارات المحدثين والأئمة في تصريحهم بالعلم اليقيني، واستدلالهم عليه بما هو معلوم من الأدلة الشرعية والعقلية كما تقدم، مما لا يحتملها التأويل الذي قاله، ولا أنهم أرادوا العلم الظاهر، كما نقله ورده، ولهذا لما نقل ابن الهمام في التحرير تأويله الأول رده بتصريح ابن الصلاح بالقطع بمروي الشيخين، فأما قول الآمدي أن فيهم من قال يفيد العلم بمعنى الظن، واستدلوا بقوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) أي ظنتموهن، فهذا قول لا حقيقة له، وإن وجد من يقوله، فلا فرق بينه وبين قول الأكثرين منهم، بأنه لا يفيد العلم اليقيني مطلقاً، فإنهم لم ينفوا إفادته للظن.

         وقد علمت أن هذا أحد التأويلين اللذين سلكهما الغزالي في صرف القول الأول عن ظاهره، ولو كان يعلمه قولاً لأحد لحكاه، ولم يجعله احتمالاً، وعلمت أيضاً أن الغزالي ذكر الآية في دليل من قال: المراد العلم الظاهر، لا العلم بمعنى الظن، ولما كان أهل الأصول قد وضعوا لهم قاعد كلية، حكموا بموجبها على كل خبر بحكم موافق لتلك القواعد التي لم يكن مستندهم فيها إلا أدلة عقلية، بزعمهم يقينية، وهي وهمية، جعلوها مطردة، فحكموا لأجلها بأن مفاد أخبار الآحاد الظن، ثم إنهم تناقضوا بعد ذلك بإيجابهم العمل بها، لما رأوا أدلة وجوب العمل متواترة، وقبول السلف لها مشهوراً، ورأوا هذا مطرداً بين المسلمين سلفاً وخلفاً، فلم يجدوا بداً من القول بأنها توجب العمل، مما هو هدم لقواعدهم من الأساس.

مناقشة شُبه من يقول إن خبر الواحد لا يفيد العلم:

         لا أعتقد وجود نص من الأدلة السمعية يصرح برد خبر الواحد الثقة، أو التوقف فيه، أو عدم حصول العلم به، ولكن أهل الظن والشك في الأخبار ولدوا شبهاً وخيالات ظنوها عقلية، قطعية الدلالة إليه.

         1- فمنها قولهم: إن الطبيعة البشرية تقتضي السهو والنسيان من كل إنسان وإنه يوجد كثيراً تعمد الكذب لمصلحة يعتقدها الكاذب أو لغيرها، وكل ذلك يقتضي التوقف في خبر الواحد.

         فيقال: نحن لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة، ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكن نقول بالجزم والتصديق للخبر عند ظهور أمارات تؤيد ذلك، من تتبع أخبار الراوي حتى يوقف على صحتها، ومن موافقته لمن هو مثله أو أفضل منه، وغير ذلك مما يعرف به أهل الفن صدق الرواية أو الخطأ فيها.

         وليس ببدع أن يجعل الله في خلقه من يقرب القول بعصمته من تعمد الكذب، ومن السهو الكثير في التحمل والأداء لواجبات الدين، كي تقوم حجة الله على خلقه، ويحصل الأمن من التعبد لله بخطأ.

         فرواة الأخبار التي تلقتها الأمة بالقبول، يلزم من تخطئتهم عدم قيام حجة الله على من لم يشاهد الرسول، وذلك مما ينافي حكمة الله.

         2- ومنها قولهم: إننا نشاهد اختلاف المحدثين في الحديث الواحد، ما بين مصحح له ومضعف، وطاعن في رواته وذاب عنهم، ونحو ذلك مما يسبب عدم اليقين بما قالوه، والتوقف في مروياتهم مخافة الخطأ.

فقد روى البخاري ومسلم أحاديث حكما بصحتها، ثم تعقبهما بعض العلماء -كالدار قطني- وذكروا فيها مطاعن.

وكذا الترمذي كثيراً ما يصحح أحاديث في جامعه، ولا تكون صحيحة وهكذا ما اشتهر عن الحاكم في مستدركه.

ولو كانت أمارات الصحة ظاهرة مفيدة للعمل لما وقع فيها هذا الاختلاف الكثير، فيقال: لقد اصطلح أهل الحديث على تمييز الصحيح الثابت من الحديث النبوي في رجاله ولفظه ومعناه مما يعرفونه به من غيره.

ولم يكن العلماء بهذا الفن على استواء في العلم بهذه المميزات، مما كان سبباً لمثل هذا الاختلاف ولا شك في تقدم أهل الصنعة في ذلك كالبخاري ومسلم، والإمام أحمد ويحيى بن معين ونحوهم على غيرهم.

فنحن عند اختلافهم نعمل بالترجيح الذي يكون بالأكثرية، كما يكون بالقوة وتمام المعرفة، وهذا ما تميز به البخاري ومسلم في صحيحيهما.

وقد عرف أيضاً أن الحكم بصحة الحديث لا يعتمد الإسناد دائماً، فقد يكون له طرق أخرى يعرفها من صححه، أو يكون هناك قرائن تقوي ثبوته لم يطلع عليها من طعن فيه.

أما الترمذي فقد عرف عنه نوع من التساهل في التصحيح، ظهر ذلك بالتتبع. فحكمه بالصحة معتبر في الغالب. وقد يكون مقيداً بما ظهر له وإن خالفه غيره.

وأما الحاكم فهو – وإن كان واسع الحفظ كثير الرواية- لكنه كثير التساهل في التصحيح، ولهذا لا يوثق غالباً بتصحيحه وحده.

وقد تتبعه في مستدركه بعض العلماء كالذهبي، فوافقوه على الكثير مما حكم بصحته، وخالفوه في كثير مع إيضاح وجه المخالفة؛ مع أنه غالباً إنما يجزم بصحة السند دون المتن، وذلك مقيد بما ظهر له من حال الرواة.

وهذه سنة الله في وجود هذا التفاوت بين خلقه.

ولكن لا يلزم من الاختلاف في البعض التوقف في الجميع، فإن الغالب من أحاديث المصححين وغيرهما مما ثبت لم يقع فيه اختلاف بين الصحيحين والحمد لله.

3- ومنها قولهم: إنما يجب حسن الظن بالراوي من غير جزم، لأن الله يقول في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء). ولقوله تعالى: (إن بعض الظن إثم)(الحجرات:12). ولم يقل: كل الظن. فيقال: هذا مما لا صلة له بما نحن فيه.

أما ظن العبد بربه وأمره بإحسان الظن. فذلك فيما يعامله به من الجزاء في الدارين، ولا شك أن الله قد حجب عن العبد ما هو فاعل به في دار الجزاء، فأمر بأن يحسن الظن بربه، لحمله ذلك على الرجاء الذي يستلزم الجد في الطاعة، ليتحقق ما ظنه.

 أما قوله تعالى: (إن بعض الظن إثم) فسياق الآية في ظن المسلم بأخيه أنه اغتابه أو حسده، أو رام له شراً، ونحو ذلك مما ينقله الوشاة لقصد إثارة العداوة والبغضاء، مع أن أكثره لا صحة له، ولكنه قد يسبب سوء الظن من المسلم بأخيه، فأمر المؤمنون بتجنب كثير من هذا الظن الذي يثير الشحناء والتقاطع بين المسلمين. وليس في الآية أمر ببعض الظن أصلاً.

4- ومنها قولهم: لو علم الله صدق خبر الواحد لم يخلنا من دليل على ذلك. فيقال: لا شك أن الله ضمن بقاء دينه وشرعه لهذه الأمة بعد أن أكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة.

ولا شك أن أكثر تفاصيل هذا الدين إنما تؤخذ عن هذه الأخبار، فلو كانت كذباً في نفس الأمر لأقام الله على ذلك أدلة وبراهين، كي لا يلتبس  الحق بالباطل، فتقع الأمة في الزيغ والضلال.

وهذا أوضح دليل على أنها صدق وحق.

وهكذا من أوضح الأدلة وأكبر البراهين على صحتها إجماع الأمة في الجملة على العمل بها.

فهذا الدليل ينبغي أن يعكس عليهم فيقال: لو علم الله أنها كذب مع عمل الأمة بها لأقام برهاناً واضحاً على عدم صحتها، فدل على أنها صحيحة ثابتة.

5- ومنها قولهم: إننا لا نصدق كل خبر نسمعه، فلو كان خبر الواحد يفيد العلم لصدقنا كل ما سمعناه، وحصل به العلم كما يحصل بكل متواتر، ولم يلزم اشتراط إسلام الرواة وعدالتهم في قبول الآحاد، كما لا يلزم ذلك في المتواتر.

         فيقال: حقّاً إننا لا نصدق كل خبر، ولكن لا يلزم منه تكذيب كل خبر، ولا التوقف في جميع الأخبار، فنحن نصدق البعض يقيناً، ونجزم بكذب البعض، وقد يترجح لنا أحد الاحتمالين من غير جزم، وقد نتوقف في البعض، وقد يحصل التوقف للبعض منا دون البعض؛ وهذه سنة الله في التفاوت بين خلقه في الأفهام والمدارك، فلا يلزم من رد البعض رد الكل.

         أما حصول العلم بكل متواتر فإنما ذلك نظراً لتوفر شروطه التي صدق عليه لأجلها اسم التواتر، وحصل به العمل الضروري، بخلاف الآحاد فإن أفراده تختلف، فلا يحصل العلم بكل آحاد.

         أما عدم اشتراط العدالة والإسلام في رواة المتواتر، فإنما كان ذلك لحصول العلم بالكثرة التي يؤمن معها التواطؤ على الكذب، وهي مفقودة في الآحاد.

6- ومنها قولهم: لو أفاد خبر الواحد العلم لما تعارض خبران، ونحن نرى الكثير من الأخبار تتعارض، فإن قيل بإفادة الجميع العلم حصل اجتماع الضدين وهو محال، وإن قيل بإفادة أحدهما كان ترجيحاً بلا مرجح.

وهذا يحقق أن أحدهما لا بعينه كذب، فيوجب التوقف في كل خبر.

         فيقال: إن هذا مجرد فرض لما لا يمكن وقوعه، كما لا يحصل ذلك بين متواترين، ولا بين خبرين تحتف بكل منهما القرائن المنفصلة.

 ثم إذا حصل العلم اليقيني بالخبر فلا بد من خطأ كل خبر يعارضه المعارضة التامة.

ثم إن ما يوجد من الحديث الصحيح ظاهره التعارض يمكن حمل كل من المتعارضين على وجه صحيح.

 ولقد تكفل العلماء بالسنة بالجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التناقض، فخرجوا كل حديث على معنى محتمل، كما فعل ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) وكذا ابن القيم، وشيخه ابن تيمية في مؤلفاتهما.

وقد ذكرنا في المقدمة الجمع بين النهي عن كتابة الحديث بقوله: (لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن) مع الإذن فيها بقوله: (اكتبوا لأبي شاه) ونحوه وما لا يمكن الجمع بينهما حمل على التوسعة، وجواز الأمرين، كصفات صلاة الخوف، وألفاظ التشهد، أو على الخصوص كإذنه صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي حذيفة  أن ترضع سالماً مولاهم، وهو رجل، لتصير أما له في المحرمية، مع قوله: (إنما الرضاعة من المجاعة).

   وقد يحمل على أن المتقدم من الحديثين منسوخ عند معرفة المتأخر كحديث: (الماء من الماء). مع حديث: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) المتأخر عن الأول.

وما لا يمكن تخريجه على شيء من ذلك يحمل على خطأ بعض الرواة، لمخالفته رواية الأكثرين، وهو ما يسمى شاذاً، وقد سبق ذكره، وذلك كما روي في صلاة الكسوف بأكثر من ركوعين في كل ركعة ونحوه عند بعضهم.

7- ومنها قولهم: لو حصل العلم بخبر الواحد لما احتيج في الأحكام إلى تعدد الشهود، ولا إلى يمين المدعي مع الشاهد، فعدم جواز الحكم بشهادة الواحد دليل عدم حصول العلم بخبره، فكذلك كل خبر واحد.

         فيقال: لما كانت حقوق العباد بينهم كثيراً ما يقع فيها النزاع والتشاجر، جعل الله الحكم بينهم بأمر ظاهر منضبط، هو البينة التي إذا وجدت تحتم الحكم بها.

وليس ذلك لحصول العلم بما شهدت به، ولا لعدم حصوله بما دونها.

فإن الحاكم لو حصل له العلم بخلاف ما شهدت به لم يجزله القضاء بعلمه، والعدول عن البينة.

فالقاضي قد يحصل له العلم بالقضية بدون بينة، وقد يحصل له بشهادة واحد، وقد لا يحصل له بشهادة أربعة أو أكثر.

ولكنه مكلف بالحكم إذا تمت البينة، فلو امتنع من ذلك أثم، ولو كان الأمر في الباطن بخلاف ما حكم به.

ثم لا يلزم من الحكم بموجب الشهادة العمل بالظن، ولا القول بأن خبر الواحد إنما يفيد الظن، فيعمل به لذلك.

حيث إن الأخبار الدينية تتضمن شرع الله الذي تكفل بحفظه، وضمن بقاءه، فلا بد من وضوح ظاهر في الفرق بينه وبين ما سواه من الباطل. لذلك كان ما تضمنته هذه الأخبار حقاً متيقناً، مقطوعاً بصحته، بخلاف ما شهدت به البينة، فإنه في حقوق العباد، مما قدر الله بينهم فيه التظالم والتعدي من بعضهم على البعض الآخر، وقد شوهد من بعضهم الكذب والزور.

فكان ما شهدت به البينة يكون أحياناً مظنوناً وقد يكون متيقن الصحة أو الكذب، فالحكم إذا إنما يعتمد أمر الله بذلك، وهو أمر بشيء منضبط لاخَفَاء فيه، ثم فيه نوع من التعبد فيأثم من تركه.

وهذا بخلاف أخبار الدين، فإننا لا نحكم بثبوتها لنقل اثنين أو أكثر مع تطرق الشك، أو غلبة عدم صحة الخبر، ونصدق خبر من دون نصاب الشهادة إذا ظهرت أمارات الصدق.

8- ومنها قولهم: لو أفاد خبر الواحد العلم لجاز نسخ القرآن ومتواتر السنة به، لكونه بمنزلتهما، فلما لم يجز ذلك دل على عدم إفادته العلم.

         فيقال: يندر أن يقع الاختلاف الكلي بين نص من القرآن أو السنة المتواترة مع الآحاد الصحيحة، يحتاج معه إلى القول بالنسخ، مع أن النسخ حتى بالمتواتر قد أنكره بعض من ينتسب إلى العلم ونصره بعض المتأخرين.

ثم إن احتيج إليه فلا مانع من القول بالنسخ، ورفع الحكم السابق، عند تعذر الجمع، ولو كان السابق معلوماً بالضرورة، بعد تحقق ثبوت الخبر وتأخره.

وقد وقع ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعمل أهل قباء بخبر الواحد الذي نقل لهم نسخ القبلة الأولى، وهكذا أبو طلحة الأنصاري أتلف جرار الخمر، وأمر بإراقتها اعتماداً على خبر الذي نقل لهم تحريمها كما سيأتي تخريج هذين الحديثين إن شاء الله.

ثم إن قيل بالمنع فإنما ذلك لعدم المساواة في العلم، وسيأتي قريباً إن شاء الله أن العلم يتفاوت في الكم والكيف، ولأن السنة متأخرة الرتبة عن القرآن، لكونها بياناً له، ولحديث معاذ الذي سيأتي إن شاء الله، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تقضي؟) قال: بكتاب الله، قال: (فإن لم تجد؟) قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

          9- ومنها قولهم: لو حصل العلم بخبر الواحد مجرداً لم يحتج من ادعى النبوة إلى تأييد خبره بالمعجزات التي يعلم بها صحة ما ادَّعاه، فإن العلم يحصل بمجرد خبره، فلا يحتاج إلى زيادة مقويات، لأنه تحصيل للحاصل.

فيقال: لما كان مدعي النبوة قد جاء بشيء غير مألوف، ونصب نفسه مشرعاً مخبراً عن الله، يبين الحلال والحرام، وينقل الناس عن أعمال وعادات كانوا قد ألفوها، وألفوا عليها أسلافهم، إلى أحكام جديدة لم يكن لهم بها علم من قبل، ويعدهم على طاعته الثواب، ويحذرهم نقمة الله على مخالفته، كان شيئاً مستغرباً في نفوسهم، يصعب عليهم اعتناقه ومفارقة ما ألفوه، فاحتاج إلى آيات تقوي صدقه.

وأيضاً فليس كل من ادعى النبوة مأموناً من كونه متقولاً على الله، لما في هذا المنصب من الرفعة، وحفظ النفس الذي يجلب التهمة لمن ادعاه، فلا يقبل منه إلا ببينة.

فلذلك احتاج مدعي النبوة إلى ما يقوي دعواه، ويوضح للناس صدقه، ويحملهم على تقبل ما جاء به من المعجزات وخوارق العادات.

ثم إن هذه سنة الله في خلقه، أن يؤيد رسله بالبينات والدلائل الظاهرة، وما هكذا يكون كل خبر عدل ينقل عن مثله شرعاً لم يكن هو الذي ابتدأه، وإنما أسنده إلى مصدره، وقد عرفت منه الثقة والأمانة، فلا مانع من وقوع العلم بخبره.

10- ومنها قولهم: إننا نشاهد تزايد العلم في القلب كلما تكرر من المخبرين، ولو حصل العلم لأول مرة لما وقع هذا التزايد المحسوس، لأن العلم شيء واحد، لا يقبل الزيادة ولا النقصان.

فيقال: نحن لا نشك أن خبر الواحد العدل يحصل به كمال العلم، ويستيقن القلب صحته، بحيث لا يتخالجه شك كما هو مشاهد، فزيادة المخبرين قد تكون من باب تواتر الأخبار وترادفها، الذي يقوي الخبر ويؤكد ثبوته.

ثم إذا سلمنا ما تصوره من زيادة العلم بزيادة المخبرين، لم نسلم عدم التفاوت في نفس العلم، فإن العلم بالشيء على الصحيح يتفاوت في الكم والكيف والقوة، ولذلك فرق بين علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، كما فُرق بين العلم الضروري والنظري، مما سوغ التفريق بين العلم الحاصل عن المتواتر والآحاد، وشاهد ذلك العقل والفطرة السليمة.

11- ومنها قولهم: إن الإجماع منعقد على عدم تكفير مخالف خبر الواحد وتفسيقه، وما ذاك إلا لأنه لا يفيد العلم، فليس كالمتواتر الذي يكفر ويبدع من رده بدون تأويل.

فيُقال: نحن قد ذكرنا أن العلم بالخبر متفاوت بحسب معلومات من وصل إليهم، وأن من السامعين من يقطع بكذب بعض الأخبار، اعتقاداً لخطأ الناقل أو كذبه، أو يراها مخالفة لما يعرفه ويفهمه من ظواهر النصوص، وهو مخطئ في نفس الأمر، ولكنه معذور لاجتهاده.

ومنهم من يصدق بالخبر ولكن لا يرى دلالته ظاهرة.

وعلى هذا فيجب علينا أن نحسن الظن بمن رأيناه قد خالف بعض الأخبار الصحيحة، فنحمل ذلك على أن الخبر لم يصل إليه، أو لم يصح عنده، أو رأى له محملاً أو تأويلاً دفعه به، أو نحو ذلك.

وعلى هذا يحمل ما روي عن بعض الصحابة من رد بعض الأخبار التي ثبتت عند المحدثين لا على أنها لا تفيد العلم.
فأما إذا تحققنا ثبوت الحديث عند شخص، وعدم ما يسوغ له رده، ثم رأيناه بعد ذلك لم يقبله، أو ترك العمل به بدون عذر أو تأويل، فإننا -بعد إقامة الحجة عليه وإبائه- نلتزم تبديعه وتفسيقه بذلك.

وقد اشتهر عن الأئمة رجوعهم إلى الأحاديث متى صحت عندهم، ونبذهم لما سواها، مما كانوا يقولون  به أو يرونه قبل ذلك، وهكذا اشتد نكيرهم على من خالفها بدون تأويله إلى غيرها من الآراء وأقوال الرجال.
وما ذاك إلا لثبوتها عندهم وإفادتها العلم اليقيني والله أعلم.

 

الباب الرابع

في حكم قبول الآحاد في العقائد

أدلة من قال بالجواز لقبول

أخبار الآحاد في العقائد

         لقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه، وبدعوة الناس إلى ما خلقوا له، وكان من أهم ذلك تعريفهم بأصول الدين، من معرفة ربهم، وتوحيده، وأسمائه وصفاته، وجزائه وقضائه وقدره، ونحو ذلك.

وما ذاك إلا أن هذه العلوم تعتبر كالأساس الذي يقوم عليه البناء للإسلام، فلزم تقدم العلم بها على كل عمل، ليصح اعتقاد العبد، ولتعتبر نيته التي يدور عليها قبول العمل أو رده. لذلك بدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى معرفة هذه القواعد والأسس، وأقام عليها الأدلة، وضرب لها الأمثال، وما كان قصده إلا رسوخ الإيمان في قلوب من صدقه وآمن برسالته لما ينبعث من ذلك من المبادرة إلى العمل والقيام بسائر التكاليف. ولقد لزمه صحابته رضي الله عنهم، فتلقوا عنه أنواع العلوم في الأصول والفروع، وتقبلوها معتقدين لمفادها، وعاملين بمقتضاها.

وهكذا بلغوها لمن بعدهم، امتثالاً لأمره، حيث قال: (بلغوا عني ولو آية) فكان لزاماً على كل مسلم قبول ما بلغه عنهم، آثرين له عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وتصديقه، سواء كان متواتراً أو آحاداً، بعد ثبوته وتوفر أسباب قبوله، أيّاً كان متعلقه أصولاً أو فروعاً.

ولقد تلقى السلف من جملة ما بلغهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أحاديث الصفات والعقائد، ودونوها في مؤلفاتهم، موقنين بصحتها، عالمين يقيناً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بها كما جاء بالصلاة والزكاة والتوحيد، وهذا مثل أحاديث الشفاعة، والحوض، والميزان، وعذاب القبر ونعيمه، ورؤية الله في الآخرة، وتكليمه لعباده كما يشاء، وعلوه على خلقه، وإثبات العرش، ونحو ذلك.

فإن كل من له معرفة بأحوال الرواة، وطرق الأحاديث، يتحقق ثبوت هذا النوع من السنة، ويوقن بصدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت طرقه آحاداً، فإن الذين نقلوه لنا هم الذين نقلوا جميع أنواع الشريعة، فيلزم من رد بعض أخبارهم وقبول البعض التفريق بين متماثلين، وإلحاق الطعن بالصحابة والسلف، وعدم الثقة بأخبارهم مع ما عرف من ورعهم وتثبتهم، وتحريهم للصدق، إلى غير ذلك مما ينافي سوء الظن بهم.

وإليك بعض الأدلة القاطعة على قبول هذا النوع من الأخبار في هذا الباب:

1- فمن ذلك: ما تقدم من تناقل السلف لهذا النوع من الأخبار، وتداولها بينهم، والحرص على تلقيها وتحصيلها، ثم الاشتغال بمذاكرتها، وإثباتها في المؤلفات. وإن في هذا لأوضح دليل على أن قد تحققوا صحتها، واستفادوا منها العلم اليقيني، وإلا لذهب عملهم ضياعاً، وحاشاهم أن يفنوا أعمارهم في تناقل ما لا يفيد علماً ولا يوجب عملاً.

فإنه من المتفق عليه أن ما تحتوي عليه هذه الأخبار ليس من الأمور العملية التي تنقل لأجل أن يعمل بها، وإن كانت ظنية.

فما بقي إلا أن يتحقق يقينهم بمعناها، واعتقادهم لما دلت عليه على ما يليق بجلال الله، وهذا هو ما عليه الصحابة والتابعون، ومن اقتفى أثرهم من سلف الأمة وأئمتها.

2- ومن الأدلة: ما اشتهر عن الأئمة من إدخال مدلول تلك الأخبار في معتقداتهم، وتصريحهم بالقول بمقتضاها، وردهم لقول من جحدها، وتحذيرهم منه.

وما ذاك إلا لتحققهم صدقها، وعدم الشبه والشكوك في قلوبهم، مما يسبب نفرتهم عن الإصغاء إليها، بل إن أحدهم يتقبل كل ما سمعه من أخيه الذي يثق بصدقه ودينه، من غير توقف في نوع ما من أخباره.

بل إن عظمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم أعظم من أن يردوه بمثل هذه التوهمات.

وكذلك قدر الصحابة ونقلة الحديث وحماته أجل عندهم من أن يتطرق إليهم تهمة، أو يقال لأحدهم: خبرك خبر واحد، فلا يفيد العلم، أو لا يقبل إلا في الفروع.

وقد روي عنهم التثبت، وطلب زيادة رواة في بعض أحاديث الأحكام، كما طلب عمر من أبي موسى أن يأتي بمن يتقوى به في خبر الاستئذان، فأتى بأبي سعيد، وكذا استظهر المغيرة بمحمد بن مسلمة ليشهد معه عند عمر على خبر دية الجنين وميراث الجدة. وغير ذلك.

ولم ينقل عنهم التوقف في شيء من أخبار الصفات، أو المعاد ونحوها، بل قد اشتهر عنهم إمرارها كما جاءت بلا كيف، وعدم التعرض لتأويلها، وصرح الكثير منهم بالقول بمقتضاها على ما يليق بجلال الله تعالى.

3- ومنها: ما تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعثه الدعاة إلى  أطراف البلاد، وعهده إليهم تبليغ جميع الدين أصولاً وفروعاً، مع البداءة بالتوحيد كما في حديث معاذ المتفق عليه، لما بعثه إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وفي رواية: (-إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).

فانظر كيف أمره بتقديم  الدعوة إلى التوحيد، ثم بأركان الإسلام، ولم ينقل أن أحداً من أولئك الرسل اقتصر على تبليغ الفروع، أو الأعمال الظاهرة. بل كانوا يدعون إلى الإيمان بالله وثوابه وعقابه، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة. وهكذا بلغوا عنه أيضاً العبادات الظاهرة المعلومة من الدين بالضرورة، كالصلاة والزكاة، وكذا المحرمات المجمع على تحريمها كالزنا وقتل النفس، وكل ذلك مما تقبله عنهم من استجاب لدعوتهم، وبقي معتقداً لما تلقاه من أصول أو فروع، وقامت عليه الحجة بذلك، وهو دليل القبول.

وقد اعترض على هذا الدليل من قبل المنكرين بأن بعث أولئك الرسل لم يكن لتعليم الأصول، وإنما هو لإخبارهم بالأدلة العقلية، والآيات الكونية التي يعرفونها بفطرهم.

فيقال: هذا ليس بشيء، فإن ما يعرفونه بعقولهم لا يكفي لقيام الحجة عليهم، وإلا لم يكن هناك حاجة لعبث الرسل.

ويرد ذلك التصريح بتقديم الدعوة إلى التوحيد، كما في حديث معاذ المذكور، ولم ينقل أن أحداً من أولئك الصحابة بدأ بتعريف الدلائل العقلية، قبل الدعوة إلى الشهادتين.

4- ومنها: ما تضمنته كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك في زمانه، التي دعاهم فيها إلى الإسلام أصلاً وفرعاً، وقد حصل بها تبليغهم الرسالة التي كلفه الله بها، ولا شك أن كتبه إذ ذاك بطاقات صغيرة في الغالب، يتولى كتابتها شخص واحد، ويحملها واحد؛ ولو كان خبر الواحد لا يقبل في الأصول للزمه أن يبعث إلى كل قطر جماعة يبلغون حد التواتر، ليحصل العلم بخبرهم، ولو فعل ذلك لم يبق معه في المدينة أحد.

ولما لم يقع هذا أفاد اكتفاؤه بالواحد حصول العلم، ووجوب الالتزام بخبر الواحد في الأصول والفروع وهو المراد.

5- ومن الأدلة أيضاً : قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(النحر:43). ووجه الدلالة منها أنه أمر بسؤال أهل الذكر عن الرسل ودعوتهم، وماذا أوحى إلى كل منهم، وكونهم من جنس البشر، وهذا من أكبر الأصول؛ فقد أمر من لا يعلم ذلك أن يسأل أهل الذكر، ولو لم يجد إلا واحداً منهم، ولا بد أن جواب المسؤول يكتفى به ويلزم اعتقاده؛ وسيأتي إيضاح دلالة الآية بأبسط من هذا إن شاء الله في النوع الأول من الفصل الثاني من الباب الخامس.

شبه المخالفين ومناقشتها

في أواخر عصر الصحابة ظهرت بدع في الدين، وقد كثر معتنقوها في القرن الثاني وما بعده، وذلك مثل نفي القدر والشفاعة، وإنكار صفات الله تعالى التي وردت في النصوص، كالكلام والعلو، والنزول والمجيء ونحوها.

وأكثر أهل تلك البدع ملاحدة تستروا بالإسلام، وما كان قصدهم إلا إفساد العقائد، وبلبلة الأفكار، وقد أنكر السلف بدعتهم، وحذروا من مجالستهم، أو الإصغاء إليهم.

ولقد مكثوا طوال القرن الثاني أذلاء مقموعين في الغالب، ثم تمكن بعضهم في أول القرن الثالث من الاتصال ببعض الولاة، مما سبب ارتفاع مناصبهم، وشهرة ذكرهم، وانتشار عقائدهم الزائغة، وكثرة من قلدهم على غير هدي، بل إحساناً للظن بهم. ولقد تظاهروا بتقديس الوحيين، وأخذ الدليل منهما، عندما رأوا عظمة قدرهما في قلوب عوام المسلمين.

كما تظاهروا بقصد تعظيم الله، وتنزيهه عما لا يليق به بزعمهم من صفات الحوادث، ومشابهة الخلق، وما ينكره العقل.

ولما كانت النصوص في الكتاب والسنة صريحة في معارضة ما قرروه، وإبطاله من الأساس، احتالوا لردها حتى تسلم لهم عقيدتهم، فسلطوا التأويلات على نصوص القرآن في هذا الباب، حتى صرفوها عن المفهوم المتبادر منها ثم ردوا نصوص السنة من أصلها، ومنعوا الاستدلال بها في العقيدة، حيث اصطلحوا على تقسيمها إلى متواتر وآحاد.

فردوا المتواتر -مع ندرته عندهم- بأنه وإن كان قطعي الثبوت لكنه غير قطعي الدلالة، لتطرق الاحتمالات إليه كنصوص القرآن.

أما الآحاد فاصطلحوا على أنها لا تفيد إلا الظن، مهما بلغت من الكثرة والثقة برواتها؛ وأن ما كان مظنوناً لا يعتمد في أدلة الأصول التي يجب أن تكون يقينية قطعية. ولكنهم تناقضوا، حيث أثبتوا كثيراً من أصولهم وقواعدهم بأدلة ظنية أو وهمية، كما في كتب الأصول.

وإليك بعض شبههم في رد الآحاد في هذا الباب مع مناقشتها:

1- أن هذه الآحاد إنما تفيد الظن فلا تقبل في الأصول التي يجب أن تكون أدلتها يقينية قطعية.

          فيقال: تقدم في الباب قبله من الأدلة على إفادة خبر الثقة العلم اليقيني ما فيه الكفاية، وبعد ثبوت ذلك لا يتصور فرق في الاستدلال بها بين الأصول والفروع، ثم بتقدير أنها إنما تفيد الظن الغالب، وأن الأحكام والأوامر تثبت بمثلها، لا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها، فإنه لا فرق بين الطلب والخبر، بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين، وذلك لأن الطلب يتضمن القول على الله بأنه شرع كذا، ورضيه ديناً، وشرع الله ودينه هو بمقتضى أسمائه وصفاته، فالطلب متضمن للخبر وبالعكس كما هو واضح.

2- أن من رد شيئاً من الأصول والعقائد يكفر وأخبار الآحاد لا يكفر من رد منها شيئاً للاختلاف في ثبوتها.

          فيقال: سبق أن استدل بهذا على أن الآحاد لا تفيد العلم مطلقاً، وأجيب هناك بأن من اتضحت له السنة ولو آحاداً وتحقق ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ردها بدون تأويل ولا شبهة، وقامت عليه الحجة فإنه يكفر. لتظاهره برد شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، ومن رد شيئاً من دين الرسول كمن رد جميعه.

          وعلى هذا فلا فرق بين الأصول والفروع في التكفير، فتخصيص الأصول لا دليل عليه.

3- قالوا: إن الحق واحد في باب الخبر اتفاقاً، فمن رد شيئاً منه فهو كافر أو فاسق، بخلاف الطلب، فإن الصواب متعدد، فالحق يرجع إلى ما حكم به المجتهد، فإن كل مجتهد مصيب، وبهذا ردت المعتزلة جميع الآحاد مطلقاً.

          فيقال: هذا قول مخترع، لم يسبقوا إليه، فإن الحق واحد، منحصر في أدلته الشرعية، إلا أن من أخطأه بعد بذل الجهد في طلبه معذور في خطئه، مأجور على اجتهاده.

وما زال السلف يعترفون بخطئهم، ويرجعون عنه إلى الصواب إذا اتضح لهم الدليل، وينقضون أحكامهم السابقة، وهذا واضح في أن الصواب منحصر في قول واحد، سواء أكان في الأحكام أم في الأخبار، وأدلة ذلك مستوفاة في كتب الأصول.

ثم إنهم تباينوا في تعريفاتهم لحقيقة كل من الأصل والفرع، وكل تعريفاتهم واضحة البطلان، كما بين ذلك المحققون كابن تيمية وابن القيم وغيرهما.

 

الباب الخامس

حكم العمل بخبر الواحد

التمهيد

بعد أن تحققت أن خبر العدل يفيد العلم، و أن أحاديث الآحاد التي تقبلتها الأمة فعمل بها الأكثر، و اشتغل بعضهم بتأويل البعض منها، لئلا ترد عليهم قد أفادتهم العلم اليقيني، فإن هذا الباب يعتبر فضلة.

فإن العلم تابع للعلم، لما عرف من وجوب العمل بكل ما تحقق صدوره عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

و لكن المتكلمين عقدوا هذا الباب بناء على أنها ظنية، و سردوا فيه الأقوال و الأدلة العقلية و النقلية، فلم يكن بد من بيان حال تلك المذاهب، و تمحيص ما أوردوا لها من الأدلة، و إزالة شبه من خالف ما هو الواجب، و قد نعيد بعض الأدلة التي سبقت لبيان دلالتها، و الجواب عما أوردوا عليها.

 

دلالة العقل على العمل بخبر الواحد

كان السلف يعتمدون الأدلة السمعية، ويرجعون إليها دائماً، ويحكمونها في الخلاف بينهم، ولا يلتفتون إلى موافقتها للعقول أو مخالفتها.

ولقد أنكروا علم الكلام عند ظهوره، وحذروا منه، لما فيه من الإعراض عن الأدلة السمعية، ولما يسببه من الحيرة وكثرة التقلب.

ولم أطلع للسلف على قول في حكم التعبد بخبر الواحد، ولا في دلالة العقل عليه أو عدم دلالته.

وهذا يدلنا منهم على أمرين:

1- أنهم لا يفرقون بين المتواتر والآحاد من الأخبار، بل إن صحة الخبر لديهم هي السبب الوحيد في قبوله، وتحتم اتباعه، والإنكار بشدة على من خالفه.

2- أنهم لم يتدخلوا بعقولهم في أحكام الشريعة، بل إن الدليل السمعي -ولو آحاداً- هو المقدم عندهم على ما يتوهمه العقل، وما ذاك إلا لسلامة فطرهم عن الزيغ والشبه، وفي ذلك دليل على أن السمع الصحيح لا يخالف العقل الصريح أبداً أما أهل الكلام فقد ابتدعوا أدلة عقلية، وردوا لأجلها الأدلة السمعية، وعند التحقيق يعلم أن أدلتهم خيالات لا تثبت على حال، فأحدهم يجزم بأن العقل يوجب هذا، بينما الآخر يجزم بأنه يحرمه.

ومثال ذلك: ما قالوه في هذا الباب فإن فيه لهم ثلاثة أقوال:

          القول الأول: منع التعبد بخبر الواحد عقلاً:

          وهذا قول بعض المعتزلة، كالجبائي وابن علية والأصم، وجماعة من أهل الكلام. ولهم على ذلك شبه:

1- منها: أن التعبد به يؤدي إلى تحليل الحرام، وتحريم الحلال، لإمكان كونه كذباً في الباطن، ففي العمل به مفسدة تخالف مقتضى القواعد الشرعية فلا بد أن يقيم الله على كل حكم برهاناً قطعياً (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)(الأنفال:42) أما أن يحيلهم على دليل ظني يجوز العقل خطأه فلا، لما يترتب عليه من قلب الحقائق، واستباحة المحظورات، مما هو خلاف حكمة الشارع.

          وهذا الدليل ليس عقلياً محضاً، بل مما أخذه العقل من الشرع. فيقال:

          (أ) يبطل اللزوم على مذهب المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب؛ حيث أنه لا حلال ولا حرام في نفس الأمر، وإنما ذلك يظهر بعد الاجتهاد، فعليه لا يلزم محذور إذا اعتمد المجتهد على خبر يمكن أن يكون كذباً في نفس الأمر.

          فإن العمدة اجتهاده، وقد أصاب كما يصيب من خالفه باجتهاد آخر وهلم جرا.

          أما على مذهب الجمهور في أن المصيب واحد -فإنما يلزم تحريم الحلال وعكسه أن لو قيل بالقطع بموجبه، أما أن يقال بالظن- الذي هو ما يقدره المجتهد- مع تجويز خلافه.

          فإنه لا يلزم منه مخالفة حكم الله.

          (ب) أن إمكان كذبه يضعف بتوفر شروط قبوله المعروفة، فيكون العمل به مستنداً إلى يقين أو ظن غالب.

          (ج) المعارضة بما وافقوا عليه من قبول الشهادة والفتيا والحكم والظن في تحري القبلة، فإن الشهادة قد يقطع بصدقها كشهادة الأنبياء، وقد يظن كشهادة غيرهم، والكل يعمل به، وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه مقطوع بصحته غالباً، فألحق بذلك حكم سائر الحكام وفتوى المجتهدين، وكذلك القبلة يقطع بها عند معاينة الكعبة فألحق به ظنها بالاجتهاد.

          فهكذا يلحق بخبر النبي صلى الله عليه وسلم المقطوع به خبر كل ثقة يظن صدقه، فلا فرق بينه وبين الصور قبله.

          (د) وأجاب الآمدي وغيره بأن دليلهم مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله، وهو غير مسلم.

          ولكن هذا الجواب غير سديد، فإن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد على الصحيح، والله تعالى كتب على نفسه الرحمة، من غير أن يوجب عليه أحد شيئاً، وإنما لتمام حكمته وإحسانه بالعباد كانت أفعاله وأوامره ونواهيه في غاية المناسبة، وكان مما ينافي حكمته تكليف الخلق بما لا فائدة فيه، أو بما هو ضرر محض.

2- ومنها قولهم: يلزم منه اجتماع الضدين كما لو روي خبر في تحريم هذه العين وآخر في تحليلها، واستويا في استيفاء شروط القبول، فالعمل بهما معاً محال، وبأحدهما ترجيح بلا مرجح.

          فيقال: سبق أن أشرنا إلى أن كل دليلين ثبتت صحتهما فوجود المعارضة بينهما نسبية غالباً وأن الأئمة تمكنوا من الجمع بين ما أوهم التعارض وتخريج كل دليل على وجه صحيح، أو جعلوه من باب التوسعة، وتجويز الأمرين معاً، أو جعلوا المتأخر ناسخاً للمتقدم بعد معرفة التاريخ إلى آخر ما تقدم.

 3- ومنها: لو جاز التعبد بخبر الواحد لجاز قبول خبر من ادعى النبوة بلا معجزة فيقال: سبق الجواب عن هذه الشبهة وبيان أن من ادعى النبوة جاء بأمر مستغرب، وفيما جاء به نقل الناس عن كثير من عاداتهم إلى ما لم يألفوه، ثم ما في دعواه من إمكان كونه طالب رئاسة أو حظ لنفسه، فاحتاج إلى تأييد قوله بمعجزة، لئلا يتقول أحد على الله، وليس كذلك من نقل شرعاً عن غيره مقتدياً بسائر الرواة.

4- ومنها: أنه قد اتفق على عدم قبول الآحاد في الأصول، فدل على امتناعها في الفروع، فلا فرق بينهما، فيقال: هذا الاتفاق متوهم وقد ذكرنا أن السلف لا يفرقون في قبولها بين ما يتعلق بالأصول أو بالفروع، وقد أجاب المتكلمون هنا بأنه قد اتفق على أن الأصل لابد له من دليل قطعي، بخلاف العمل فيكتفى له بالظني، هكذا أجابوا لكن عملهم غير مطرد على ما ذكروا، ثم يطالبون بالفرق، والصحيح هو ما أشرنا إليه من القبول في الكل.

5- ومنها قولهم: لو جاز التعبد به لجاز نقل القرآن المتعبد بتلاواته بقراءة الآحاد، وهو خلاف الإجماع، فيقال لما كان القرآن يعتبر معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، لزم أن يكون مما يقطع بنقله، بخلاف الأحكام الشرعية، فتثبت بالظن الغالب.

          ثم إن الصحيح إن شاء الله أن القراءة إذا صح سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووافقت رسم المصحف قبلت، وإن لم يقرأ بها أحد من السبعة أو العشرة.

القول الثاني: أن العقل يوجب العمل بخبر الواحد:

          وهذا قول ابن سريج والقفال من الأشاعرة، وأبي الحسين البصري من المعتزلة وغيرهم، وحكي عن الإمام أحمد، وقاله أبو الخطاب.

واستدلوا لذلك بما يأتي:

          1- أن في ترك العمل به تعطيلاً لأكثر الوقائع عن الدليل، لقلة الأدلة المقطوع بها بالنسبة للحوادث، وحكمة الله تقتضي أن كل حادثة تكون معروفة الحكم بدليل يجب قبوله، وأكثر الوقائع إن أدلتها آحاد، فيجب قبولها.

          2- أنه من المعلوم عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وليس في إمكانه مشافهة الجميع، ولا أن يبعث إلى كل جهة عدداً يبلغون حد التواتر، فلم يبق إلا الاكتفاء بالآحاد، فلو لم يجب على الأمة العلم بأخبارهم لم يحصل التبليغ، ولم يكن لبعثهم فائدة.

          3- أن ظن صدق الراوي يرجح وجود الحكم الذي يترتب على تركه العقاب، والعاقل يحتاط بامتثال هذا الأمر، ليسلم من هذا العقاب ولو مظنوناً.

          وأيضاً لما كان العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معلوماً من الدين بالضرورة في الجملة، وكانت هذه الأخبار قد جاءت تفصيلاً لتلك الجملة، لما في فعله مصلحة، وفي تركه مضرة، كانت مما تثير الخوف في القلب، فوجب العمل بمفادها عند ترجح صدقها، تحصناً وتحرزاً، من المخاوف، هذا ملخص حججهم، وهي كما ترى في وجاهتها.

          وقد تكلف الآمدي وغيره ردها بأجوبة جدلية، نشير إلى مخلصها مع مناقشتها:

قالوا: أما الحجة الأولى فإنه لا يلزم من ترك خبر الواحد تعطل الوقائع عن الأحكام، فإن المفتي إذا لم يجد دليلاً انتقل إلى حكم شرعي، وهو البراءة الأصلية كما لو لم يجد خبر الواحد.

فيقال: نحن لا نشك في أن النصوص الشرعية قد بينت تفاصيل الأحكام، وتعرضت لكل واقعة يمكن أن تقع، وهو مقتضى كمال الدين، وإذا لم يوجد في الواقعة الجزئية نص خاص، وجدت قواعد كلية تعم أفراداً كثيرة من جزئيات المسائل.

          ففي رد أخبار الآحاد إبطال لكليات وقواعد شرعية من جوامع الكلم الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ردها تعطيل وقائع كثيرة، يكون بيانها من موجب الرسالة، على أن البراءة الأصلية إذا كانت قبل ورود التكاليف، أما بعده فقد أصبحت الذمة مشغولة بالأحكام، فتكون البراءة أيضاً مظنونة بالنسبة إلى هذا الحكم، وتتقابل مظنونة بمظنونة، فيعمل بالأرجح.

قالوا: وأما الحجة الثانية: فإن التبليغ إنما يجب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه بالمشافهة أو بخبر التواتر، فمن بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قامت عليه الحجة، وإلا فهو معذور، كالبعيد الذي لم يتمكن من تبليغه ولو بالآحاد.

فيقال: هذا ليس بوجيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالدعوة والإنذار بما في استطاعته، كما حصل من اقتصاره على بث الدعاة في أقطار البلاد، واكتفائه بذلك، مما يدل على أنه مما قامت به الحجة وإن كان مظنوناً ظناً غالباً.

          أما من لم يقدر على تبليغه كمن في الجزائر النائية فهذا يعذر حتى تبلغه الدعوة، وقد زال العذر بدعوة الصحابة ومن بعدهم، وتبليغهم جميع الشريعة إلى القاصي والداني.

قالوا: وأما الحجة الثالثة: فإن ظن صدق الراوي إنما يرجح كون العمل بخبره أولى، من غير إيجاب، كما في خبر الكافر والفاسق عند ترجح صدقه، من عدم وجوب العمل به إجماعاً.

قالوا: وهذا استعمال لقياس ظني في أصل من الأصول التي لابد أن تكون أدلتها يقينية قطعية.

فيقال: إذا عرف العاقل أن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم تسبب الضرر عليه، وأن امتثال أمره مما يحصل له المصلحة، وجاءه أمر تترجح صحته، فعدم امتثاله والحالة هذه مما يلحقه به اللوم، وبتكرر ذلك لابد أن يحصل عليه ضرر، فالعقل السليم يوجب الحذر من أسباب الضرر.

ومثال ذلك: ما إذا علم العاقل تحريم قتل نفسه، وظن ظناً غالباً أن هذه الطعام مسموم، حرم عليه أكله، أو ظن أن هذا الجدار يريد أن ينقض لم يجز له الجلوس تحته.

وكثيراً ما يجعل الفقهاء الاحتياط مناطاً للوجوب.

أما قياسه على خبر الكافر والفاسق فغير مسلم، لأنه لا يوثق بخبرهما بمجرده، فإن اقترن به قرائن تغلب صدقه وجب العمل به اعتماداً على القرائن.

أما قولهم إن أدلة الأصول لا تكون ظنية، فغير مسلم، وقد نقضوه بأنفسهم، فكثيراً ما يثبتون قواعد وأحكاماً وأصولاً بأدلة ظنية أو خيالية.

القول الثالث: أن خبر الواحد يجوز العمل به عقلاً من غير وجوب:

وهذا قول أكثر المتكلمين.

قالوا: لأنه لم يلزم عنه لذاته محذور في العقل، واحتمال كونه كذباً أو خطأ غير مانع من التعبد به.

وقاسوه على ما وقع الاتفاق عليه من العمل بقول الشاهد والمفتي، مع كونه مظنونأً ومثلوا ذلك بما لو قال الشارع إذا طار طائر وظننتموه غراباً فقد أوجبت عليكم كذا، فإنه لا يلزم منه محال، حيث إن الظن شيء محسوس، يجده الإنسان من نفسه، فبمجرد وجوده يترتب الحكم.

الخلاف في دلالة السمع على

وجوب العمل بخبر الواحد  

فقد حققنا فيما سبق أن خبر العدل يفيد العلم اليقيني، وعليه فإن من خالفه عناداً يكفر بعد إقامة الحجة عليه.

ولكن المتكلمين في هذا الموضوع كغيره اعتمدوا كونه ظني الثبوت، واختلفوا فيه على قولين:

        القول الأول: أنه لا يجب العمل به سمعاً:

        وهو قول الجبائي ومن تبعه من المعتزلة في نفي جوازه عقلاً، وقاله أيضاً بعض من جوَّزه عقلاً كالقاساني من الظاهرية، وابن داود، وجمهور القدرية والرافضة.

وقد استدلوا بأدلة:

  أولاً: من القرآن: كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)(الإسراء:36)، وقوله حكاية عن أولاد يعقوب: (وما شهدنا إلا بما علمنا)(يوسف:81)، وقوله: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)(الأعراف:33)، وقوله حكاية عن الذين كفروا: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين)(الجاثية:32)، وقوله: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)(الأنعام:148)، ونحوها من الآيات.

        فيقال: سبق أن استدل بهذه الآيات على إفادة الآحاد العلم اليقيني، وأن جعلها ظنية، مما تسلط به المعتزلة على ردها مطلقاً في الأصول والفروع، استدلالاً بهذه الآيات التي فيها النهي عن القول على الله بلا علم، وذم اتباع  الظن.

        ولكن المتكلمين القائلين بوجوب العمل بها مع كونها ظنية أجابوا عن هذه الآيات بعدة أجوبة.

1- فمنها: أن امتناع التعبد بخبر الواحد ليس عليه دليل قطعي، فمن نفاه فإنما عمدته الظن فيدخل في الذم المذكور في هذه الآيات.

2- ومنها: أن الظن المنهي عن اتباعه خاص بما المطلوب فيه العلم كالعقائد.

3- ومنها: أن القول بموجب الآحاد، والعمل به عمدته الإجماع، وهو دليل قطعي، ليس العمدة الآحاد التي هي ظنية.

4- وأحسن ما أجيب به على قولهم أن الظن المذموم أريد به التخرص والوهم الذي ليس له مستند، بخلاف الظن الراجح، فهو ملحق بالقطعي في وجوب العمل به، ولا يصدق على من قال به أنه قال على الله بلا علم.

ثانياً: من السنة:

        رد النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين، لما سلم النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشى عن اثنتين، فقال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: (لم أنس ولم تقصر) فقال: بلى قد نسيت. فلم يعمل بقوله حتى سأل الحاضرين معه. متفق عليه.

        فيقال: إنما رد عليه السلام خبر ذي اليدين لمخالفته لما يعتقده من إتمام الصلاة ولاستبعاد انفراده بمعرفة النقص دون غيره، ولا شك أن هذا مما يجعل الوهم يتطرق إليه، فبموافقة آخر له يزول الوهم.

        ثم يقال: إنه عليه الصلاة والسلام عمل بخبره مع خبر أبي بكر وعمر، وهو لا يخرج بذلك عن الآحاد.

(ج) ومن الأدلة ما اشتهر عن بعض الصحابة من عدم قبول بعض الأخبار، فقد رد أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، حتى شهد معه محمد بن مسلمة ورد عمر خبره أيضاً في املاص المرأة حتى أخبره بذلك محمد بن مسلمة، أيضاً متفق عليه.

وفي الصحيح أيضاً أن عمر رد خبر أبي موسى في الاستئذان، حتى شهد معه أبو سعيد وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ورد على خبر ابن سنان الأشجعي في المفوضة وأمثال ذلك.

فيقال: إنما ذلك لعارض، وهو إمكان الخطأ، واستبعاد أن ينفرد عنهم مثل هذا الراوي، بهذه السنة الظاهرة.

فطلبهم لمن يشهد معه إنما هو من باب التثبت، وتقوية الخبر، ولا شك أن الخبر كلما كثرت نقلته ازدادت إليه طمأنينة النفس.

ألا ترى العالم يروي الحديث من خمسة طرق، ثم إذا سمع زيادة سادس أو سابع كتبها، لأن الخبر كلما تواتر كان أثبت للحجة، وأقطع للخصم، ولذلك قال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكني أردت أن أتثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أجيب عن كل أثر بجواب خاص، يبين أن ردهم لذلك لم يكن عن شك، وإنما هو لأسباب مبررة.

على أن انضمام راو إلى آخر لا يخرجه عن كونها آحاداً كما لا يخفى.

        القول الثاني: وجوب العمل يخبر الواحد سمعاً.

وهذا قول جمهور الأمة، بل عليه إجماع السلف قاطبة، وإنما حدث الخلاف فيه بعد ظهور علم الكلام، ولهذا كان عمدة المتكلمين في القول بوجوب العمل بها إنما هو الإجماع، مع أن الإجماع لابد له من مستند.

        أما بقية أدلتهم مع كثرتها فقد أوردوا عليها اعتراضات صارت دلالتها من أجلها عندهم ظنية، مع أن المسألة من الأصول التي لابد فيها من قواطع الأدلة.

        وإليك بعض ما أوردوه في هذا الباب من الأدلة السمعية، مع مناقشة اعتراضاتهم عليها:

1- النوع الأول: القرآن:

        ودلالته في عدة آيات:

        1- قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(التوبة:122) أمر تعالى الطائفة النافرة أو الباقية بالتفقه في الدين، وبإنذار قومها بما تفقهت فيه، وعلل الإنذار بحصول الحذر من القوم. والأمر يقتضي وجوب المأمور به، وهو التفقه ثم الإنذار الذي هو الإخبار بالأمر المخوف؛ والتعليل بقوله: (لعلهم يحذرون) ليس للترجي، فإنه محال في حق الله تعالى، لما يشعر به من عدم علمه بالعاقبة، بل هو للطلب فيفيد وجوب المطلوب، وهو الحذر اعتماداً على إنذار الطائفة، ولفظ الطائفة، يعم الواحد والاثنين، لقوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)(الحجرات:9) فإنه يصدق على ما إذا اقتتل اثنان، وأيضاً فإن الفرقة أقلها ثلاثة. وقد أمرت كل فرقة أن يخرج بعضها، فظهر بذلك وجوب التفقه على هذه الطائفة، ووجوب إنذارها لقومها الذي يسبب الحذر الذي جعل الإنذار علة لحصوله.

        وقد أوردوا على دلالة هذه الآية شبهاً:

        (أ) فمنها: أن قوله: (لينذروا) ليس من صيغ الأمر الصريح، فلا يكون الإنذار واجباً، حيث لا أمر في الآية.

        فيقال: لا شك أن الله أوجب التفقه في دينه، ثم بيانه للناس، وذم الذين يكتمون ما أنزل الله، في هذه الآية من الحض على التفقه والإنذار ما يؤيد ذلك.

        ولما كانت صيغة (لينذروا) هنا ذكرت لتعليل الحض على التفقه دل على وجوب التفقه، ثم الإنذار وهو التخويف الموجب للحذر، إذ لا تخويف في ترك غير واجب.

        (ب) ومنها: أن الأمر قد لا يدل على وجوب المأمور به.

        فيقال: الأمر المطلق لا يصرف عن الوجوب إلا بقرينة، وها هنا دلت القرائن وهي أدلة وجوب البيان والنهي عن الكتمان – على أنه للوجوب.

        (ج) ومنها: أن الإنذار أريد به التخويف من فعل شيء أو تركه، بناء على اجتهاد المخوف والتخويف خارج عن الإخبار.

        فيقال: الإنذار كما قلنا الإخبار بمخوف يترتب على فعل أو ترك، والعلم بالمخوف أثر التفقه في الدين، فكان التخويف إخباراً عن شيء مخوف متلقى علمه عن الشرع.

        (د) ومنها: أن الإنذار أريد به الفتوى، ونحن معكم على قبول المقلد خبر المفتي. ويرجح ذلك لفظ التفقه الذي هو شرط لجواز الإفتاء.

        فيقال: الإنذار في الآية على عمومه لحذف مفعوله، فيشمل الإفتاء والإخبار بشيء من كلام الله ورسوله، أو ما استنبط منهما بما يوجب الحذر.

        كما أن لفظ القوم عام فيشمل المجتهدين والمقلدين مع أن التفقه في اللغة لا يستلزم الإفتاء.

        (هـ) ومنها قولهم: يلزم أن يخرج من كل ثلاثة واحد، ولا قائل بوجوبه.

        فيقال: النص يقتضي ذلك ويقتضي وجوب العمل بخبر الواحد، وقد خص الأول بالإجماع على عدم الوجوب، ولا يلزم من تخصيصه تخصيص الثاني.

        (و) ومنها: أن الآية في وجوب الإنذار، لا في العمل، وقد يكون الأمر بالإنذار ليحصل بخبر المنذر تمام حد التواتر.

        فيقال: إذا سلم وجوب الإنذار فقد علل بحصول الحذر، فدل على وجوب الأمرين معاً.

        فإن هذا التعليل نظير التعليل في قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)(البقرة:21)، ولا شك في وجوب التقوى. ولم يكن في الآية إشارة إلى تأخير الحذر حتى يحصل التواتر.

        2- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(الحجرات:6) وفي قراءة (فتثبتوا) فلما أمر بالتثبت في خبر الفاسق دل على أن خبر العدل بخلافه، وإلا لم يكن لتخصيص الفاسق معنى، حيث يجب التثبت في الجميع.

        وأيضاً فلو كان خبر الواحد لا يقبل مطلقاً لم يحتج إلى تعليل التثبت فيه بالفسق، لأن علة الرد موجودة فيه قبل الفسق، فكان التعليل تحصيلاً للحاصل.

        وقد أورد على هذا بأنه استدلال بمفهوم المخالفة، وهو غير حجة أو هو حجة ظنية، والظن لا يكتفى به في الأصول.

        فيقال: إن هذا المفهوم مما تؤيده الفطرة وعمل الأمة، من التفريق بين خبر العدل والفاسق حتى عند العامة، فالتثبت هنا معلل بالفسق، فبعدم الفسق لا يؤمر بالتثبت.

3- قوله تعالى: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(النحل:43) وأهل الذكر يعم الواحد والعدد، حيث لم يقل:سلوا عدد التواتر منهم. فيلزم الجاهل سؤال من وجده من أهل العلم. وتقوم عليه الحجة بخبر الواحد منهم. واعترض على هذا الدليل بما يأتي:

(أ) أن قوله (فاسألوا) ليست صيغة أمر. وإن سلم ذلك فلا تفيد الوجوب.

        فيقال: إن صيغة: افعل ونحوها. من أصرح الصيغ في الدلالة على الأمر عند المحققين من أهل الأصول.

        والأمر المطلق يفيد الوجوب، وإنما يصرف عنه لقرينة.

(ب) أن المراد هنا الاستفتاء من أهل العلم. ونحن نقول بقبول قول المفتي.

        فيقال: ظاهر الآية أمر كل من جهل حكماً أن يسأل أهل الذكر – وهم أهل العلم بالشرع وأدلته فيعم سؤال المجتهد لغيره، وسؤال المقلد، حيث لا دليل على التخصيص.

(ج) ظاهر الآية الأمر بالسؤال الذي يحصل منه العلم بالمسؤول عنه؛ لأنه إنما أمر بالسؤال عند عدم العلم. فالتقدير:

        اسألوا حتى يحصل لكم العلم بما لا تعلمونه. ولما كان خبر الواحد إنما يحصل الظن دل على أنه ليس هو المطلوب هنا وإنما المطلوب السؤال الذي يتم به العلم، وهو المتواتر.

        فيقال: سبق أن استدل بالآية على أن خبر الواحد يفيد العلم، وحينئذ يبطل هذا الاعتراض؛ مع أن ظاهر الآية أمر كل من جهل حكماً أن يسأل عنه أهل العلم الذي يعم الجزم بالمعلوم والظن الغالب.

4- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط)(المائدة:8).

        والأمر للوجوب. وإذا تحمل الإنسان علماً عن الرسول صلى الله عليه وسلم فمن القيام لله والشهادة بالقسط إبلاغه والإخبار به، ووجوب ذلك عليه دليل وجوب القبول منه.

        قالوا: الأمر لا يفيد الوجوب، ثم إن قدر أنه يفيده لم يجب على كل أحد القيام لله والشهادة بالقسط إلا إذا كان خبره مما يجب قبوله، ولا يجب قبول خبره إلا إذا كان قائماً لله شاهداً بالقسط، فيلزم الدور. فيقال: قد عرف أن مطلق الأمر للوجوب، ما لم يصرفه صارف، وأما الدور الذي زعموه فغير مسلم، فكل مؤمن مأمور بالقيام لله والشهادة بالقسط، ليحصل البلاغ، ولا يرده عدم قبول خبره؛ كما لم يرد الرسل عدم القبول منهم، قال تعالى: (إن عليك إلا البلاغ)(الشورى:48).

5- قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينَّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(البقرة:159)، فكل من أخفى شيئاً من الدين مع الحاجة إليه فهو متوعد بما في الآية، ولو لم يجب العمل بخبره لم يكن في إظهاره فائدة.

        (أ) قالوا: لعل المراد القرآن، فهو الذي يطلق عليه اسم المنزل.

        فيقال: لما كانت السنة من الدين، ولها حكم القرآن في العمل أحياناً، كان كتمانها حراماً كالقرآن، فتدخل في عموم الآية.

        مع أن السنة قد يطلق عليها أنها منزلة، حيث إنها مما علمه الله محمداً صلى الله عليه وسلم.

        (ب) قالوا: إنما الوعيد على الكتمان، ولم تتعرض الآية لحكم قبوله من الآحاد، كما أن الفاسق يجب عليه البيان لما يعلمه مع أنه لا يقبل منه.

        فيقال: قد تقرر أن الله أوجب على أهل العلم البيان، وأوجب على أهل الجهل السؤال، ولا شك أن الوعيد يعم من كتم العلم ولو واحداً، وإذا تحقق تحريم الكتمان دل على أن كل من أظهر علماً دينياً لزم كل من سمعه قبوله، ولو لم يسمعه إلا من واحد، للعموم، أما الفاسق فلم يقبل خبره لفسقه، لا لأن خبره خبر واحد، وهو مكلف قبل البيان بالتوبة، ليزول عنه المانع فيقبل خبره.

        (ج) قالوا: إن المراد وجوب إظهار كل فرد ما علمه؛ لينضم خبره إلى خبر غيره؛ فيتألف من الجميع التواتر المفيد للعلم.

        فيقال: لا دليل على هذا التخصيص، بل التحريم يعم من كتم علماً ولو شخصاً واحداً، فبقتدير فقد العلم في البلد إلا معه يكلف بالبيان، ويلزم قبول بيانه وخبره.

6- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إنه ولكن إذا دعيتم فادخلوا)(الأحزاب:53) ويجوز الاكتفاء بإذن الشخص الواحد ودعوته، لعدم تعيين العدد في النص، قال الحافظ في الفتح: وهذا متفق على العمل به عند الجمهور، حتى اكتفوا فيه بخبر من لم تثبت عدالته لقيام القرينة فيه بالصدق. اهـ.

ومن تتبع الآيات وجد فيها كثيراً من هذا الضرب، وإذا كان في بعضها احتمالات فإنها بمجموعها تُقوي دلالتها، فيتحصل من الجميع دليل قطعي، كما أن خبر الواحد دلالته عندهم ظنية، فبعد توافق الآحاد تبلغ التواتر فتكون دلالتها قطعية.

النوع الثاني: السنة النبوية:

وقد اشتهر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبول خبر الواحد والعمل به في مواضع كثيرة، سيأتي لها أمثلة إن شاء الله تعالى.

وقد حكى الله عن بعض الأنبياء السابقين ما يدل على قبولهم لخبر الواحد.

        فإن موسى عليه السلام قبل خبر الرجل الذي جاء (من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين * فخرج منها خائفاً يترقب)(القصص:20-21) وكذا قبل خبر نصف رجل، حيث صدق بنت صاحب مدين التي قالت له: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا)(القصص:25)، وقبل خبر أبيها في دعواه أنهما إبنتاه، فتزوج إحداهما بناء على خبره.

        وقبل يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال له: (أرجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن)(يوسف:50) وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي) وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه في هذا الباب أكثر من عشرين حديثاً وتوسع كثير من العلماء في سرد الأدلة من السنة.

        ونحن نورد هنا ما تيسر منها مع الإشارة أحياناً إلى دلالتها باختصار:

1- فمنها: حديث مالك بن الحويرث حين وفد مع بعض قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال: (إذا حضرت الصلاة فيؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم) متفق عليه.

2- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) رواه البخاري وغيره.

3- وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) متفق عليه.

        ودلالة هذه الأحاديث في الأمر بتصديق المؤذن وهو واحد، والعمل بخبره في فعل الصلاة، والعلم بدخول وقت الصلاة، وأول وقت الإفطار والإمساك، مع أن هذه من العبادات التي تختل بتغير وقتها.

        ولم يزل المسلمون في كل زمان ومكان يقلدون المؤذنين، ويعملون بأذانهم في أوقات مثل هذه العبادات، وإن هذه لأوضح دليل على وجوب العمل بخبر الواحد.

        وقد كثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً في الدلالة على تكليف الآحاد أو غيرهم.

4- فروى الشافعي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله عبداً سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

        وقد رواه أحمد والدارمي، وأهل السنن إلا النسائي عن زيد بن ثابت بنحوه، وورد معنى ذلك مرفوعاً عن أنس، وأبي سعيد، وجبير بن مطعم، والنعمان بن بشير وغيرهم، روى ذلك الإمام أحمد والترمذي، والحاكم وغيرهم.

        ووجه دلالته أنه أمر كل عبد يسمع مقالته أن يبلغها، مع إمكان كونه غير فقيه.

        والعبد حقيقة للشخص الواحد، ولا يأمره إلا وخبره مما تقوم الحجة به.

5- وعن عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه).  رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم. فانظر كيف ذكره على وجه الذم، لرده أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يجده في القرآن، فمن رد خبر الواحد الثقة صدق عليه الذم الوارد في هذا الحديث.

6- ومثل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار). وهو حديث مشهور، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة، وابن مسعود، وعبدالله بن عمرو بن العاص بنحوه، أخرجه بعض أهل السنن والمسانيد، وذكر ابن عبدالبر بعض طرقه في أول كتابه (جامع بيان العلم) وترتب الوعيد على كتم العلم دليل على أن بيانه مما يجب قبوله والعمل به ولو من واحد، فإنه لو لم يقبل منه لم يكن في إظهاره فائدة، فلم يستحق هذا العقاب.

        ولقد اشتهر بعث النبي صلى الله عليه وسلم الآحاد من صحابته، واعتماده على أخبارهم فيما يترتب على تحققها.

7- فمن ذلك: ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف. وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس – لرجل من أسلم إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) فاعترفت فرجمها.

فقد اعتمد صلى الله عليه وسلم خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد، وقتل نفس مسلمة.

8- ومنها: ما رواه الإمام أحمد والشافعي، ومالك وغيرهم، عن رجل من الأنصار أنه قبل – امرأته وهو صائم، فأرسل امرأته تسأل فدخلت على أم سلمه، فأخبرتها أم سلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فما زاده إلا شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمه فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها فقال: (ما بال هذه المرأة) فأخبرته أم سلمه، فقال: (ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟) فقالت أم سلمه: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (والله إني لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده).

        ففيه أن خبر أم سلمه مما يجب قبوله، وكذلك خبر امرأته وهي واحدة.

9- ومنها : ما رواه البخاري وغيره عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: (من يأتيني بخبر القوم؟) فقال الزبير: أنا. مرتين. فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حواري، وحواريي الزبير) فانظر كيف اكتفى بخبر الزبير عن الأحزاب، وهو واحد.

10- ومنها: قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض زكاتهم، فرجع وقال: إنهم منعوا الزكاة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم. وهم بغزوهم، رواه الإمام أحمد ابن أبي حاتم، والطبراني بإسناد حسن عن الحارث بن أبي ضرار، والد جويرية أم المؤمنين، وهو ممن جرت عليه القصة.

        وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب بعد خبر الوليد، وبعث البعث إلى الحارث حتى إذا استقل البعث، وانفصل عن المدينة، لقيهم الحارث قادماً إلى المدينة.

        ورواه ابن جرير عن أم سلمه، وفيه: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.

        ورواه ابن جرير أيضاً عن عطية العوفي، عن ابن عباس، وقال فيه: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضباً شديداً، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد.

        وقد روى هذه القصة مرسلة ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل وغيرهم.

        ولو لم يكن العمل بخبر الواحد جائزاً لما هم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولأنكره الله عليه، كما أنكر عليه عدم التثبت في خبر الفاسق.

        وأما رواية بعث خالد بن الوليد للتثبت من أمرهم، فإنما رويت مرسلة عن قتادة ومجاهد، ولعل ذلك في قصة أخرى بعد نزول الآية امتثالاً للأمر بالتثبت.

        ولقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث الآحاد إلى الجهات القريبة والبعيدة، ويحملهم أمور الدعوة والتبليغ، ويعتمد الناس أخبار أولئك الإفراد، من غير أن يكون تفردهم مسبباً لوجود الشك في خبر أحدهم.

11- فمن ذلك: ما رواه الشافعي في الرسالة بإسناد صحيح عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد). فاتبع الناس وهو على جملة يصرخ فيهم بذلك.

        وهو صلى الله عليه وسلم لا يبعث الواحد إلا وقد عرف لزوم قبول خبره فيما بلغه عنه، وإلا يكون بعثه عبثاً.

 12- ومثله : حديث يزيد بن شيبان قال: كنا في موقف لنا بعرفة، بعيداً عن موقف الإمام، فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم. رواه أهل السنن الأربعة وغيرهم.

13- وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجران: (لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين) فبعث أبا عبيدة وهو دليل على وجوب قبول ما بلغهم عنه.

14- وروى البخاري وغيره عن سلمه بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم: (أذن في قومك يوم عاشوراء أنه من أكل فليتم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم)، وبعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر سنة تسع على الحج، فأقام للناس مناسكهم نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، وبعث علياً تلك السنة فنبذ إلى قوم عهودهم، وبلغ عنه أول سورة براءة، وبعث قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، ومالك بن نويرة، إلى عشائرهم، لتعليمهم الأحكام، وقبض الزكاة، وبعث معاذاً وأبا موسى، وعماراً وغيرهم إلى جهات متفرقة باليمن، ونحو ذلك كثير، واشتهر أيضاً بعثه الأمراء في السرايا والبعوث، وأمره بطاعتهم في ما يخبرون عنه.

        ومن أشهر ذلك كتبه التي يبعثها إلى الملوك في زمانه، التي يتولى كتابتها واحد، ويحملها شخص واحد غالباً، كما بعث دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل عظيم الروم، وعبدالله بن حذافة إلى كسرى.

        وذكر الشافعي أنه بعث في دهر واحد اثني عشر رسولاً، إلى اثني عشر ملكاً يدعوهم إلى الإسلام، وهكذا كتبه التي يبعثها إلى ولايته وعماله بأوامره وتعليماته، يكتبها واحد، ويحملها واحد، ولم يتوقف أحد منهم في قبولها، واستمر على هذا عمل المسلمين بعده إلى اليوم، من غير نكير فكان إجماعاً.

        شبه للخصوم حول هذا الدليل:

1- قالوا: إن هذه الأحاديث لا تخرج عن كونها آحاداً، فلا يستدل بها على قبول الآحاد، لما يلزم منه من الدور.

        فيقال: إن بعض هذه الأخبار قد روي من طرق كثيرة، بلغ حد الاستفاضة، ولو استقصينا طرقها وشواهدها لطال الكلام.

        ثم إنها وإن كانت آحاداً فهي لكثرتها وتعدد جهاتها ملحقة بالمتواتر المعنوي، الذي يفيد القطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بالآحاد، ويبني على خبرهم.

2- قالوا : إن القصد من بعث أولئك الرسل ونحوهم التعليم والفتوى، والقضاء، وقبض الزكاة، أما أدلة الأحكام فلم يؤمروا بتبليغها، فلا تدل على المراد.

        فيقال: لا شك أنه بعثهم إلى أناس لم يعرفوا شيئاً من الدين في الأغلب، وقد كان تعليمهم من موجب الرسالة، فاكتفى صلى الله عليه وسلم ببعث أولئك الآحاد الذين بلغوهم ما يلزمهم في الإسلام من عبادات ومعاملات، فمن خص تعليهم بنوع منها فقد كذب الواقع المحسوس.

        ثم لو قدر أنه بعثهم لقبض الزكاة ونحوها، وكان خبر الواحد، لا يقبل، لم يلزم المبعوث إليهم تسليمهم الزكاة، ولا قبول فتواهم وحكمهم، لكونهم بلغوا أصول الدين وهم آحاد.

3- قالوا : يمكن أن يكون بعث الواحد لينضم إلى من سبقه في ما يبلغه، حتى يبلغ حد التواتر الذي يفيد العلم.

        فيقال: وهذا التخصيص مما لا دليل عليه أيضاً، فإن أهل تلك الجهات تقبلوا منهم ما بلغوه، وطبقوه لأول مرة، فلم ينقل أن أحداً منهم توقف حتى يتواتر الخبر، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم مبادرتهم إلى العمل بأول خبر.

        ولم ينقل أنه بعث إلى كل جهة أكثر من واحد، إلا في القليل النادر، فإن سعة البلاد، وبعد المسافات، وقصر زمن النبوة منذ قوي الإسلام، وكون المبعوثين معروفي الأسماء والجهات، مما يؤكد أنه لم يكن أهل جهة من تلك الجهات النائية وصلت إليهم تفاصيل الشريعة وأدلة الأحكام بطريق التواتر في تلك السنوات القليلة.

النوع الثالث: إجماع سلف الأمة على قبول أخبار الآحاد:

        وقد نقل عن الصحابة والتابعين من الآثار الدالة على اكتفائهم بخبر الواحد ما لا يحصى إلا بكلفة، فنشير إلى طرف من ذلك.

1- ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.

        وقد رويت هذه القصة عن البراء، وأنس، وابن عباس، وعمارة بن أوس، وعمرو بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسهل بن سعد، وعثمان بن حنيف، وغيرهم من طرق كثيرة.

        فانظر كيف اعتمدوا خبر هذا الشخص، وتحولوا عن قبلة كانت متحققة الثبوت عندهم، ولا شك أن قد اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينقل أنه أنكر عليهم.

2- وفي الصحيحين أيضاً عن أنس قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة، وأبي بن كعب شراباً من فضيخ، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها. فقد أقدموا على إتلاف مال محترم، تصديقاً لذلك المخبر، وهم من أهل القدم في الإسلام، ولم يقولوا: نبقى على حلها حتى يتواتر الخبر، أو نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع قربهم منه، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت.

3- وعن أبي موسى في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحائط وقوله: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبو بكر فقلت: على رسلك حتى أستأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت فاستأذنت له فقال: (أذن له وبشره بالجنة) ثم جاء عمر ثم عثمان فكان شأنهما كذلك، متفق عليه مطولاً.

         فقد اعتمد هؤلاء الصحابة الأجلاء خبر أبي موسى وحده في الإذن.

4- ومثله حديث عمر الطويل المتفق عليه لما احتجر النبي صلى الله عليه وسلم في مشربه له، فجاء عمر فقال للغلام: استأذن لعمر. فأذن له فدخل. فقد قبل عمر خبر هذا الغلام وحده، مع أن الله نهى عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذن.

5- وفي حديث عمر المذكور أنه كان له جار من الأنصار، يتناوب معه النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا غاب أحدهما أتاه الآخر بما حدث وتجدد من الوحي والأخبار، وهو ظاهر في أن كلاً منهما يعتمد نقل صاحبه.

6- وروى أحمد وأبو داود، وابن ماجة والترمذي وصححه أن عمر رضي الله عنه كان يجعل الدية للعاقلة، ولا يورث الزوجة منها حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إليه أن يروث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر.

7- وروى أحمد أيضاً وأبو داود وابن ماجة وغيرهم، عن ابن عباس أن عمر قال: أذكر الله امرأ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئاً، فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال عمر: لو لم نسمع به لقضينا بغيره.

8- وهكذا رجع عمر بالناس حين خرج إلى الشام فبلغه أن الوباء قد وقع بها، لما أخبره عبدالرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم به ببلدة فلا تقدموا عليه) متفق عليه.

الباب السادس

جملة من أخبار مختلف فيها

1- الخبر المرسل:

          وهو عند أهل الحديث ما رفعه التابعي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند الأصوليين يعم ما رفعه من دون التابعي، والأول هو المشهور في كتب الحديث والأحكام، ولا خلاف في رد ما أرسله من دون التابعين.

أما ما أرسله الثقة من التابعين فقد اختلف في قبوله، فاحتج به مالك وأبو حنيفة وأصحابه، وقيل: إن أول من صرح برده الإمام الشافعي وعلل ذلك بالجهالة بحال المحذوف بعد التابعي، فإنه يحتمل أن يكون تابعياً آخر ويكون ضعيفاً، وعلى تقدير أنه ثقة فقد يروي عن تابعي ثالث ويكون غير ثقة، وبهذا الاحتمال توقف الشافعي و غيره في قبوله حتى يتقوى بغيره.

  وقد قبل الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب، وعلل بأنها تُتبعت فوجدت مسانيد، وصرح بقبول مراسيل كبار التابعين الذين لا يروون إلا عن ثقات، بأن يكون أحدهم إذا سمى لم يسم إلا ثقة.

          وكذا إذا ورد المرسل من جهة أخرى مسنداً أو مرسلاً عن ثقات غير رواة الأول، أو تقوى بقول بعض الصحابة، أو بفتوى أكثر العلماء، فإن هذه الأمور مما يتقوى بها فيقبل، وأما من احتج به من الأئمة فقال: إن التابعي عدل في نفسه، وقد جزم بالحديث مرفوعاً، مع علمه بتحريم الكذب في الحديث، فجزمه دليل تأكده من صحته.

وبالغ بعضهم حتى فضله على المتصل، وقال: إن من أسند فقد أحالك، ومن أرسل فقد تكفل لك.

ولكن قد عرف أن بعض من يروي الحديث يذكره لتقوية حجته، أو لقطع خصمه، ونحو ذلك مما يحمله على التساهل في الجزم، وقد يثق ممن حدثه ويكون غير ثقة، وكثيراً ما يروي المحدث عن شيخ له، فإذا سئل عنه توقف في تعديله وقد يجرحه. ثم إن هذا الخلاف إنما هو بالنسبة لمراسيل غير الصحابة، فأما الصحابة فاتفق الأئمة على قبول مراسيلهم، لأنهم إنما يروون عن ثقة، وكثيراً ما يروي بعضهم عن بعض وكلهم عدول.

ويندر أن يروي الصحابي عن أحد من التابعين، والنادر لا اعتبار به، وخالف في ذلك ابن حزم وأبو حامد الإسفرائيني وغيرهما، والصحيح الأول.

2- زيادة الثقة:

          ويراد بها أن يروي جماعة من الثقات حديثاً عن شيخ، وينفرد أحدهم فيه بزيادة لا تخالف رواية الباقين، ومثاله ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين. فإن مالكاً تفرد بزيادة: من المسلمين. دون بقية من رواه عن نافع.

وهكذا لو انفرد الثقة بوصل الإسناد أو رفع الموقوف ونحو ذلك. ومثاله ما رواه مالك قال: بلغنا أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للمملوك طعامه وكسوته). هكذا في الموطأ معضلاً. وقد رواه إبراهيم بن طهمان والنعمان بن عبدالسلام، عن مالك، عن محمد بن عجلان، عن أبيه عن أبي هريرة، فتقبل زيادتهما لثقتهما، وإن كان رواة الموطأ أكثر عدداً.

والصحيح عند المحدثين قبول زيادة الثقة مطلقاً، فإنها بمنزلة الحديث المستقل، وتفرد الثقة بالحديث مقبول، وفرق بعضهم بين ما إذا اتحد المجلس أو تعدد، فتقبل في الثاني، أما الأول ففيها تفصيل.          

والأرجح قبولها، فإن من ذكرها مثبت، ومن تركها لم ينقل عنه نفي ولا إثبات؛ ثم إنه محتمل أنه لم ير موجباً لذكرها، فاقتصر على محل الشاهد وأنه نسيها، أو لم يتقن حفظها، أو قام قبل التحديث بها، أو دخل بعد أن فاته بعض الحديث أو نحو ذلك.

3- خبر الواحد فيما تعم به البلوى:

ويراد به الخبر الذي يتعلق بأمر من الأمور التي تقع كثيراً بين المسلمين يحتاجون إلى الاستفسار عن حكمها، أو يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم كثرة وقوعها فيهتم ببيانها، كنقض الوضوء بمس الذكر، أو بالقهقهة، وعدم الإفطار من الأكل ناسياً، ونحو ذلك. فإذا لم ينقل الأخبار المبينة لأحكام هذه الحوادث إلا آحاد لم يقبل عند بعض الحنفية لأن هذه الأشياء مما يبتلى بها الناس، ولا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخص بتعليمها الآحاد، فلابد أن يكون قد بين حكمها لكثير من الصحابة، فتشتهر وتتوفر الدواعي على نقلها، فانفراد هذا الراوي بها دليل خطئه.

والصحيح إن شاء الله قبولها كما تقبل في سائر الأحكام، فإن هذه الأشياء وإن كانت تقع كثيراً لكن لا يلزم أن يحتاج كل فرد إلى معرفة حكمها قبل أن تحدث عليه، وقد لا يجري عليه شيء منها طوال عمره، ومن عرف حكمها فقد لا يجد مناسبة للتحديث بها، وقد يعتقد معرفة الناس لمثلها، وقد يكتفي بغيره في التحديث بحكمها، ولا يلزم حينئذ أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أسرَّ بعض الأحكام إلى خواص من أصحابه، وأن بعض الصحابة كتموا شيئاً من الدين يجب عليهم بيانه، وقد سبق أمثلة من عمل الصحابة بأخبار الآحاد فيما تعم به البلوى.

4- خبر الواحد في الحدود:

          إذا عرف وجوب العمل بخبر الواحد في الأحكام لم يكن هناك فرق بين ما يتعلق بالحدود والكفارات وغيرها، فإن الجميع من الأحكام الشرعية التي بينتها الأحاديث، فيقبل فيها ما يقبل في غيرها.

          وقد رد بعض الحنفية خبر الواحد فيما يتعلق بالحدود، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) ولأن خبر الواحد مظنون، فلا يقدم به على القطع والرجم والجلد ونحوها.

          والصحيح قبوله فيها، كما أنها تثبت بالشهادة التي هي ظنية، وخبر الواحد، وإن كان ظنياً فقد أثبتت به سائر الأحكام.

          فأما الحديث المذكور فهو ضعيف، رواه ابن ماجه بمعناه عن أبي هريرة، وفي سنده إبراهيم بن الفضل وهو ضعيف، وفي الباب عن عائشة، وعلي، وابن عباس، وكلها ضعيفة لا تخلو أسانيدها من مقال كما في نيل الأوطار وغيره.

          وقد يكون معناه الأمر بالتثبت في البينة والإقرار ونحوها مخافة الخطأ، بخلاف ما إذا ورد حديث صحيح يتعلق بأحكام العقوبات ونحوها، فليس هناك شبهة تدل على رده.

5- خبر الواحد إذا خالفه الراوي:

          اشتهر عن بعض الحنفية تقديم رأي الصحابي على روايته، ومثلوه بما رواه أبو هريرة مرفوعاً من الأمر بغسل الإناء بعد ولوغ الكلب سبعاً، كما في الصحيحين. فقد روى الدار قطني عن أبي هريرة أنه اكتفى بغسله بثلاث.

          قالوا: لأن الصحابي أعلم بما روى، فلولا معرفته بأن الخبر ليس على ظاهره لما خالفه، فلابد أنه اطلع على ما ينسخه أو يخصصه أو نحو ذلك؛ فإن مخالفته بدون مبرر تعتبر قدحاً في عدالته.

          والصحيح العمل بالرواية التي صرَّح برفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كسائر رواياته، فإن الحديث إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحتم على الأمة العمل به، لا يترك الخلاف أحد كائناً من كان.

          فأما مخالفة راويه له فإنه من الممكن أن ينساه، أو لا يستحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته، أو يتأوله خطأ، أو يقوم عنده ما يعارضه ويكون في الحقيقة غير صالح للمعارضة، أو يقلد غيره ممن يعتقده أفقه منه، ثم لو قدر انتفاء هذه الاحتمالات ونحوها فهو غير معصوم، ومخالفته لهذا الحديث الواحد لا تسقط عدالته، فيجب العمل بالحديث المرفوع وطرح ما سواه.

6- خبر الواحد إذا خالف القياس:

إذا عرف أن الشرع جاء بما يوافق الفطر، وبما تتقبله العقول، لم يتصور أن يأتي بشيء يخالف المصلحة العامة أو الأدلة الواضحة.

ولما كانت أخبار الآحاد الصحيحة متحققة الثبوت، أو مفيدة للظن الغالب، لم يكن بد من كون ما تضمنته موافقاً لما تهدف إليه الشريعة من المصلحة العامة، وبهذا تعرف أنه لا يأتي خبر صحيح مخالف للقياس الصحيح، كما صرح بذلك بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية.

فإنه قال في مجموع الفتاوى: وفي الجملة فما عرفت حديثاً صحيحاً إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياساً صحيحاً يخالف حديثاً صحيحاً كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياساً يخالف أثراً فلابد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء، فضلاً عمن هو دونهم.

فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة، من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفاً للنصوص، لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام. اهـ.

ولقد تتبع رحمه الله في هذا الموضع وغيره أكثر الأحاديث التي قيل إنها مخالفة للقياس، فخرجها على القواعد الشرعية، وبين موافقتها للمصلحة.

ثم لو قدرت المعارضة ظاهراً فإن الخبر أصل ودليل برأسه، فيكون هو المقدم في العمل به على ما يتصور مخالفته من قياس أو استحسان.

ولقد أطال المتكلمون ذكر الخلاف في هذا الباب، وأكثروا من حكاية الأقوال فيه، وقد نسب تقديم القياس على الخبر إلى بعض الأئمة كمالك وأبي حنيفة، ولا يصح عنهما بإطلاق، فإن مالكاً يقول بحديث المصراة مع مخالفته للقياس عندهم وكذلك يجعل دية أصابع المرأة في الثلاثة ثلاثين بعيراً، وفي الأربعة عشرين، وهكذا أبو حنيفة لا يخالف الحديث الصحيح لقياس و لا غيره فقد عمل بحديث الوضوء بالنبيذ في السفر، وبحديث بطلان الوضوء بالقهقهة في الصلاة: لاعتقاده صحتهما مع مخالفتهما للقياس.

وقد نسب إلى أبي حنيفة رد خبر الواحد إذا خالف الأصول كالاستحسان والاستصحاب، وأنا أعتقد أن أكثر تلك الروايات التي تحكى عن هؤلاء الأئمة مخالفة للقواعد الشرعية لا تصح عنهم، وإنما خرجها على مذاهبهم بعض من غلا في تقليدهم، عندما وجد لهم أقوالاً اعتمدوا فيها القياس، حيث لم تبلغهم الأحاديث فيها، أو لم تتضح لهم دلالتها، فأراد بعض أتباعهم أن يعتذر عنهم بأن تلك الأحاديث آحاد قد خالفت الأصول؛ ثم أضيفت تلك القواعد إلى مذاهب الأئمة لشهرتها عند أتباعهم، ثم إن بعض الأصوليين فرق في خبر الواحد بين ما إذا كان راويه فقيهاً فيقدم على القياس بخلاف خبر غير الفقيه.

ومنهم من فصل في علة القياس بين المنصوصة والمستنبطة، ثم بين وجود العلة في الفرع قطعاً أو ظناً، ومثلوا للمنصوصة بما لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا البر بالبر متفاضلاً لأنه مقتات ومدخر؛ فيدخل الأرز في الحكم، لوجود العلة فيه قطعاً فلو جاء خبر بجواز الربا في الأرز لم يقبل، لمخالفته تلك العلة المنصوصة، فأما إن لم ينص على العلة، وإنما استنبطت من الأصل، ثم وجدت في نظيره فهاهنا يقدم الخبر لكون دلالته قطعية إلى آخر تفصيلاتهم التي لا دليل عليها.

والمختار تقديم الخبر الصحيح مطلقاً لأمور:

          1- أن القياس مختلف في كونه دليلاً.

          2- أن دلالته ظنية غالباً بخلاف الخبر، فإن الأغلب أن تكون دلالته قطعية.

          3- ولأن الخبر إنما ينظر في صحته في دلالته، أما القياس فينظر أولاً إلى حكم الأصل ثم إلى تعليله، ثم إلى تعيين العلة، ثم إلى وجودها في الفرع ثم إلى نفي المعارض في الأصل ثم في الفرع؛ فتطرق الخطأ إليه أكثر.

          4- ولأن تناول العلة لمحل خبر الواحد مظنون لجواز استثنائه.

          5- ولأن الصحابة لم يكونوا يلتفتون إلى رأي أو قياس إذا جاءهم الخبر، كما تقدم قول عمر في الجنين: لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره. وفي رواية: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.

          6- ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (كيف تقضي)؟ قال بكتاب الله. قال: (فإن لم تجد)؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فإن لم تجد؟) قال: أجتهد رأيي. فضرب على صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله). رواه أبو داود والترمذي.

ففيه أنه أخر الاجتهاد عن السنة التي تعم المتواتر والآحاد. والله أعلم.

 

خاتمة

وجوب التمسك بالحديث الصحيح

وإن خالف المذاهب والآراء

وبعد أن عرفت وجوب العمل بالحديث الصحيح أيا كان نوعه، وبطلان ما يورد أهل البدع على دلالته، فما عليك إلا أن تقول بموجبه ولو خالفه أكثر الناس، فإن عمل الأكثر ليس بحجة، ولقد كان الأئمة الأربعة رحمهم الله ينكرون على من خالف الحديث بعد صحته. وقد نقل عن كل منهم قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ونقل المزني عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى أحد. وقال الربيع عنه: ليس لأحد قول مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وسمعته روى حديثاً. فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبدالله؟ فقال: متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.

وقد اشتهر عنه رحمه الله أنه قال للإمام أحمد: إذا صح عندكم حديث فأعلمونا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه أو قاله غيرنا، فإنكم أحفظ للحديث، ونحن أعلم به، ونقل أبو يوسف أن أبا حنيفة قال: ليس لأحد أن يفتي بقولنا، ما لم يعرف من أين قلنا.

وكذلك الإمام مالك صح عنه أنه قال: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصح عن الإمام أحمد أنه قال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان. والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(النور:63). أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. اهـ.

والنقول عن الأئمة كثيرة في النهي عن تقليدهم، وأمر غيرهم بالرجوع إلى الأدلة التي يأخذون منها. وبهذا يعرف تقديس هؤلاء الأئمة للحديث المتواتر والآحاد. ولما أن روي عنهم بعض المسائل التي لا تجتمع ظاهراً مع ما صح من الأحاديث، وكان قد قلدهم بعض من أتى بعدهم، واعتمد أقوالهم نصوصاً ترد لها الأحاديث الواردة عليهم، فهنالك وضعوا قواعد وأصولاً زعموا أن أئمتهم لا يقبلون ما خالفها من أخبار الآحاد، ككون الحديث فيما تعم به البلوى، أو خلاف القياس، أو لم يعمل به راويه ونحو ذلك. وإذا كان قد روي عن الأئمة شيء من تلك القواعد فلعلهم أرادوا بها معنى صحيحاً لا على الإطلاق، وعلى هذا فإن من واجب المسلم تقديم الحديث الصحيح وإن خالف مذهب إمامه، واعتقاد أن كل عالم أو قدوة في الدين لن يجرؤ على مخالفة الحديث الصحيح إلا لمعارض راجح في نظره، ولقد بين العلماء المحققون أعذار أولئك الأئمة في تركهم العمل ببعض الأحاديث الصحيحة، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (رفع الملام) عشرة أسباب يكون وجود أحدها عذراً لمن قام به في مخالفة الحديث.

فمنها: أن لا يكون الحديث قد بلغه، فإنه لا يمكن لأحد الإحاطة بالحديث النبوي جميعه، وقد تقدم أمثلة لما خفي على بعض كبار الصحابة.

ومنها: أن يكون الحديث قد بلغه ولكن لم يثبت عنده، أو اعتقد ضعفه خطأ. أو نسيه. أو لم يتفطن لدلالته عند الفتيا. أو اعتقد أن لا دلالة فيه. أو اعتقد أنه معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما خالفه فيه غيره.

وإذا كان الإمام معذوراً عن اجتهاده الذي أخطأ فيه، لم يعذر من تبين له الدليل فأصر على مخالفته، وأخذ يقدر تقديرات متكلفة في رده، فإن عجز قال: لو كان صحيحاً لما خالفه إمامنا الذي قد اتفق على أهليته، ونحو ذلك من الأعذار.

وكل هذا محافظة على ما روي عن هؤلاء الأئمة الذين تفانوا في تقليدهم، مع أن تلك الروايات المنقولة عن الأئمة مما فيه مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة مشكوك في صحتها عنهم، لكونها نقلت آحاداً، وبغير أسانيد متصلة غالباً. ثم بتقدير صحتها عنهم، فقد يتطرق إليها التغيير من النقلة مما تنقلب به حقيقتها، وقد يحتف بالفتيا من القرائن ومقتضيات الأحوال ما يحمل المفتي على التساهل مما يخفي على من بعده، ثم بتقدير عدم ذلك كله فهم غير معصومين عن الخطأ، وقد نهوا من بعدهم عن تقليدهم.

وبهذا يتضح إجماع الأئمة المعتبرين على وجوب اتباع الأحاديث ولو كانت آحاداً بعد ثبوتها، وأنه مما يجب تقديمها على قول كل أحد أياً كانت منزلته، وإلى هنا نقف، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.