تدوين السنة النبوية في القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة للدكتور محمد بنكيران
27 مايو، 2019
شبهات حول تدوين السنة
1,768 زيارة
تدوين السنة النبوية في القرون
الثاني والثالث والرابع للهجرة
إعداد الدكتور
محمد بنكيران
مدخــل:
تعد عملية تدوين السنة النبوية واحدة من أهم العمليات في تاريخ الإسلام على نحو عام، أفنى فيها أجيال من العلماء أعمارهم، وركزوا فيها أخلص جهودهم، واستخدموا لإنجاحها نبوغهم وإبداعهم وثاقب فكرهم، ونالت من اهتمامهم وعنايتهم الشيء الكثير، وهي تحظى في الدرس الحديثي بمكانة خاصة ومتميزة من حيث قيمتها والأهمية التي تكتسبها، وذلك لكونها المرآة المجلية لطبيعة عمل المحدثين تجاه السنة النبوية وحقيقته وآثاره، والمبرزة للمقاصد والأغراض التي كانوا يطمحون إلى تحقيقها من وراء هذه العملية والتي وجد فيها ما هو منهجي، وما هو نقدي، وما هو عقدي، وما هو أصولي، وما هو فقهي استنباطي، وما هو حضاري. وبناء على هذا فهي بوابة رئيسة لأكثر من مجال، وميدان خصب بالدلالات والإشارات، ومفتاح للرؤية الشمولية والنسق العام الذي تحرك في إطاره المحدثون في خدمتهم للسنة النبوية وعنايتهم بها، وهي الواجهة التي تعكس حقيقة اتجاهاتهم واختياراتهم، الأمر الذي يجعل من هذه القضية إحدى القضايا التي تتطلب الدرس العميق والبحث الموسع.
1- تحديد المصطلحات:
إن عنوان هذا العرض هو “تدوين السنة النبوية في القرون الثاني والثالث والرابع”، فهل يعني ذلك أن ما وقع في هذه القرون المتباينة يسمى جميعه تدويناً، وأن ما جرى استعماله من المصطلحات في هذه القضية هو مصطلح التدوين فقط دون أي مصطلح آخر؟.
إن مسألة المصطلح مهمة جدا في مثل هذه المجالات كما هو معلوم وهو يرمز إلى وجود التطور أو عدمه؛ وذلك لأن تعدد المصطلحات وتباينها يشير إلى أن العملية قد مرت بأطوار متعددة، وكان لها في كل مرحلة مناهج جديدة، وخصائص وميزات مباينة لما سبق، فكان لابد من تمييزها على مستوى المصطلح، والعكس بالعكس، أي: إن وجود مصطلح واحد يعني جمودها على وضع واحد، وبُعْدها عن أي شكل من أشكال التطور.
وبناء على ذلك فإن ما يتداول في قضيتنا هاته ليس هو مصطلح التدوين فقط، بل معه مصطلحان اثنان: هما الكتابة والتصنيف.
فمما ورد في الكتابة: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسول مكة، قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، (وخطب خطبة) فقام أبو شاه، رجل من أهل اليمن، فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله : (اكتبوا لأبي شاه)(1)، ومثله كذلك ما ورد عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللّه أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول اللّه بَشَرٌ يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللّه ، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: “اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقٌّ”(2).
ومما ورد في التدوين قول الإمام الزهري محمد بن مسلم (ت 124هـ): “لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني”(3)، وقال الإمام مالك بن أنس: “أول من دون العلم ابن شهاب”(4).
ومما ورد في التصنيف قول عبدالرزاق الصنعاني: “أول من صنف الكتب ابن جريج”() وقول ابن عدي عن يحيى الحماني: إنه أول من صنف المسند بالكوفة، وقال: “وأول من صنف المسند بالبصرة مسدد، وأول من صنف المسند بمصر أسد السنة”().
وإذا كانت هذه النقول ذات دلالات واضحة على اختصاص كل مرحلة بمصطلح، فإنه لا ينبغي القطع بذلك إلا بعد الوقوف على المعنى اللغوي لكل واحد من هذه المصطلحات.
أ- معنى الكتابة لغة:
جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة كتب: “كَتَب الشيءَ يَكْتُبه كَتْباً و كِتاباً و كِتابةً، وكَتَّبه: خَطَّه؛ قال أَبو النـجم:
أَقْبَلْتُ من عِنْدِ زيادٍ كالـخَرِفْ
|
|
تَخُطُّ رِجْلايَ بخَطٍّ مُخْتَلِِفْ
|
تُكَتِّبـانِ فـي الطَّريـقِ لامَ ألِـفْ”
ونقل عن الأَزهري في معنى الكِتاب أنه اسم لـما كُتب مَـجْمُوعاً.
وبناء عليه يكون معنى الكتابة هو النسخ وخط الحروف وهي عملية بسيطة تتحقق في القليل مما قد يقع على ورقة، أو ربما بعضها، كما يمكن أن تتحقق في أكثر من ذلك.
ب- معنى التدوين لغة:
أما التدوين فالذي يظهر من معناه اللغوي أنه لا يتحقق إلا في الشيء الكثير، وهو بذلك لا يرادف معنى الكتابة؛ لأنه لا يماثلها في البساطة، بل هو أوسع وأشمل وربما أعقد، فالدِّيوانُ هو كما قال كل من ابن منظور والفيروزابادي مُجْتَمَعُ الصُّحُفِ، وجمعه: دَواوِينُ ودَياوِينُ، وعليه فيكون التدوين هو عملية ضمِّ الصحائف إلى بعضها، وجَمْعِ ما تمَّتْ كتابته فيها في كتاب كبير هو الديوان.
ج- معنى التصنيف لغة:
يظهر من الدلالة اللغوية لهذه الكلمة أن الفارق بينها وبين التدوين لا يرجع إلى القلة والكثرة كما هو الحال بين كلمتي الكتابة والتدوين، وإنما يتمثل في معنى آخر لابد أن يتضمنه التصنيف وهو الترتيب والتمييز والتبويب، فقد جاء في القاموس المحيط للفيروزابادي: “الصَّنف والصِّنف: النوع والضَّرْب. جمع “أصناف وصنوف “. وبالكسر وحده (أي الصِّنف) الصفة، ثم قال: صَنَّفه تصنيفا جعله أصنافا، وميز بعضها عن بعض “، وقال المناوي في التعاريف: “الصنف الطائفة من كل شيء أو النوع يقال: صَنَّفَ متاعه جعله أصنافا، ومنه تصنيف الكتب”(5).
وبمقابلة النقول السابقة مع هذه الدلالات اللغوية يتبين أنه يتعين التحري والتدقيق في استعمال المصطلحات في هذه القضية، وحيث إنه من المؤكد أن السنة النبوية خضعت للتطور من هذه الناحية، فإن المراحل التي تدرجت عبرها منها ما ينبغي أن يسمى كتابة لا غير، ومنها ما ينبغي أن يسمى تدوينا لكونه لا ينطبق عليه إلا معنى التدوين، ومنها ما ينبغي أن يسمى تصنيفا لتوافر كل مواصفات التصنيف فيه.
وبناء على هذا: نعدُّ الدكتور فؤاد سيزكين موفقا حينما قسم أطوار كتابة السنة النبوية إلى ثلاث مراحل: أولاها مرحلة الكتابة، والثانية مرحلة التدوين، والثالثة مرحلة التصنيف(6).
ونعني بالكتابة ما تم في عهد النبي والصحابة وذلك في القرن الأول الهجري، وكان التدوين في نهاية هذا القرن على يد ابن شهاب الزهري بأمر من الخليفة عمر بن عبدالعزيز (ت 101هـ)، وبعده مباشرة بدأت عملية التصنيف التي توسع فيها جيل تلامذة الزهري رحمه الله.
وليس هناك من الناحية الزمنية تماثل بين هذه المراحل كما هو واضح، فمرحلة التدوين هي أقصر المراحل، وقد تمَّ في وقت قياسي؛ لأن عمر بن عبدالعزيز هو الذي كان الآمر للزهري به؛ ولم تستغرق خلافته أكثر من سنتين، وما مات حتى أكمل الزهريُّ مهمته، بينما استغرقت الكتابة قرنا كاملا، أما التصنيف فاستغرق أضعاف ذلك.
هذه هي أهم النقاط التي كان لابد من التنبيه لها وبيانها بين يدي هذا العرض، والتي على أساسها سيتم تناول تدوين السنة النبوية في هذه القرون الثلاثة، وبها يظهر أن تقسيم المراحل كان ينبغي أن يؤخذ فيه بعين الاعتبار ما لكل مرحلة من الخصائص المنهجية والنقدية والعلمية فذلك أولى من تقسيمها زمنيا، لأنه قد يتقاسم القرن مرحلتان.
ولا يفوتني هنا أن أنبه على صعوبة هذا الموضوع وتشعب أطرافه نظراً لتناوله فترة زمنية طويلة ومراحل مختلفة ومتباينة، ولأجل ذلك سأحاول التركيز والاختصار قدر المستطاع.
2- تدوين السنة النبوية في القرن الثاني الهجري:
كان تعامل المسلمين مع السنة النبوية منذ أول يوم يقوم على أساسين اثنين هما: الحفظ في الصدور والتقييد في الصحف، وعلى الرغم من أن الحفظ في البداية كان هو الغالب بسبب المنع النبوي من الكتابة الذي اقتضته ظروف معينة فإن الكتابة ظلت حاضرة، ولكن بصورة محدودة إلى حد ما إلا أنها كانت تعرف مع الأيام توسعا وانتشاراً؛ بسبب ارتفاع الأسباب الداعية إلى منعها شيئا فشيئا من جهة، ثم بسبب تكاثر الدواعي إلى ضرورة حفظها بهذا الطريق. وفي بيان هذا يقول ابن الأثير: “وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوِّلين على ما يسطرونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله عز وجل، فلما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوح ومات معظم الصحابة وتفرق أصحابهم وأتباعهم وقلَّ الضبط احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والذهن يغيب، والذكر يهمل، والقلم يحفظ ولا ينسى”(7).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل عرفت السنة النبوية ظاهرة خطيرة جداً هي ظاهرة الوضع والاختلاق، فكانت داعيا أساسياً لدى العلماء الذين فطنوا لبداياتها الأولى إلى التوقف عن أي تحرج من كتابة السنة والانطلاق نحو تدوينها تدوينا رسميا في نهاية القرن الأول الهجري، وذلك في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي كلف ابن شهاب الزهري بالعملية.
وهو لشدة اهتمامه بالقضية وحرصه على أن يُولِيَها ما تستحقه من العناية والاهتمام، لم يكتف فقط باختيار الإمام الزهري والاعتماد عليه؛ إدراكاً منه لقوة تمكنه وتفوقه على سائر علماء عصره وإنما اهتدى إلى أن يعبئ جهود علماء الأمة الإسلامية كافة؛ لتتم العملية على أكمل وجه، فأرسل إلى سائر عماله على الأقاليم الإسلامية يأمرهم بجمع السنة قائلا: “انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه“(8).
وربما لم يُكْتَبْ أن يصلَنا من هذه الكتب التي كتبها عمر إلا كتابٌ واحد هو ما أرسله إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يأمره فيه بجمع السنن، ولا يبعد أن يكون السبب في اشتهار خطاب عمر لأهل المدينة دون غيره راجعا إلى أهميته وذلك لكونه يتضمن الأمر بجمع حديث المدينة المنورة؛ لقوله فيه على ما في بعض الروايات: انظر ما كان عندك – أي في بلدك – من حديث رسول الله فاكتبه”(9)، وحديث المدينة يأتي في الدرجة الأولى من حيث الأهمية لشموله أولا ثم لصحته ثانيا، والشمول راجع إلى كون المدينة المنورة دار مقام النبي والصحابة من بعده، فكانت بذلك منبع السنة النبوية قولا تلقاه التابعون من أفواه الصحابة وعملا توارثوه عنهم، وأما الصحة فلأنَّ أصح طرق السنن ما يرويه أهل الحرمين مكة والمدينة، فإن التدليس فيهم قليل، والاشتهار بالكذب ووضع الحديث عندهم عزيز، كما قال الخطيب البغدادي(10):
“وربما كان السبب في تخصيص أبي بكر دون غيره من أهل المدينة راجعاً بالإضافة إلى كونه أميرا عليها إلى ما كان يمتاز به من مؤهلات مهمة فاق بها غيره، حيث كان تابعيا فقيها ضليعا في علم القضاء، بل لم يكن عند أحد بالمدينة من القضاء ما كان عنده، وكانت له خبرة بالسيرة النبوية، ويصفه الإمام مالك فيقول: “ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مروءة ولا أتم حالا ولا رأيت مثل ما رأى”(11)، وكانت خالته هي عمرة بنت عبدالرحمن، وقد أخبر الإمام مالك أن عمر أمره بجمع الحديث من عند خالته هاته والقاسم بن محمد بن أبي بكر(12)، ومن المؤكد أن ذلك لم يكن من نافلة القول وإنما لعلم عمر بمكانة عمرة في حفظ الحديث وروايته، فهي المدنية التابعية الثقة التي كان يقول عنها عمر نفسه: “لم يبق أحد أعلم بحديث عائشة من عمرة” وكانت هي والقاسم وعروة أثبت الناس في حديث عائشة(13)، وكانت عائشة كما هو معلوم من بين السبعة المكثرين عن النبي ، وكان القاسم بن محمد بالإضافة إلى ما سبق – ثقة رفيعا عالما فقيها إماما ورعا كثير الحديث(14).
وإذا أخذنا نفحص الروايات المتعلقة بجمع أبي بكر بن حزم – وهي قليلة جدا – نجد أنها تثبت قيامه بمهمة الجمع هاته: فقد أخرج الفسوي بإسناده عن ابن وهب عن مالك أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى أبي بكر بن عمرو ابن حزم أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبدالرحمن والقاسم بن محمد فقلت لمالك: السنن؟ قال: نعم، قال: فكتبها له”(15).
وليس يثبت من خلال ما وصَلَنَا من الروايات أن أبا بكر أرسل شيئا من ذلك إلى عمر بن عبدالعزيز، بل صَرَّح الإمام مالك في إحدى الروايات عنه أن عمر توفي قبل أن يبعث إليه أبو بكر بما كتبه(16)، وأما عن مصير تلك الكتب فقد سأل مالك عبدالله بن أبي بكر فقال: ضاعت(17).
ولم يكن هناك ما يمنع الزهري من القيام بعمله على أحسن وجه، بالرغم من ضياع ما كتبه ابن حزم، وذلك بحكم ما عُرِفَ عنه من سعة العلم بالحديث، ولا سيما حديث المدنيين والحجازيين؛ فقد روى الفسوي عن جعفر بن ربيعة قال: قلت لعراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: “أما أعلمهم بقضايا رسول الله وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان وأفقههم فقها وأعلمهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثا فعروة بن الزبير ولا تشأ أن تُفَجِّر من عبيد الله بن عبدالله بحراً إلا فجرته؛ قال: ثم يقول لي عراك بن مالك: وأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب فإنه جمع علمهم جميعا إلى علمه “(18).
وقد أمر عمر بن عبدالعزيز بكتب ما جمعه الزهري من الحديث في دفاتر ودواوين وبعث بها إلى الأمصار الإسلامية حسبما روى ابن عبدالبر عن ابن شهاب نفسه قال: “أمرنا عمر بن عبدالعزيز بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا“(19).
وبإمكاننا الجزم بأن للزهري في هذه القضية فضلا من جهتين فضل السبق إلى التدوين وفضل التفرد بإنجازه، ولهذا قال إبراهيم بن سعد: “إن أول من وضع للناس هذه الأحاديث ابن شهاب“(20)، ومثله قال مالك وقد تقدم، وكان الزهري يقول: “لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني“(21).
وأما عن تفرده فقد شاع عند كثير من الدارسين اعتقاد بأن عمر بن عبدالعزيز حينما أراد أن يدون السنة كاتب العلماء والولاة في ذلك، وكان شأن الزهري في ذلك شأن غيره من العلماء(22).
ولكن الصحيح في ذلك هو أن عمر اعتمد اعتمادا كليا على الإمام الزهري الذي كان يقيم معه في عاصمة الخلافة، وكانت كتبه إلى الآفاق لأجل الاستعانة بها فقط، ومن الأدلة على ذلك عدم ثبوت وصول كتاب إلى الزهري من عمر في ذلك في مقابل اشتهار كتابه إلى ابن حزم، بالرغم من عدم تمكنه من إرسال أي شيء إلى عمر وضياع تلك الكتب كما مر، فكيف يعقل أن يشتهر كتاب عمر، لابن حزم، ولا ينقل – فضلا عن أن يشتهر – كتابه لابن شهاب؟.
إنه الدليل الواضح على أن الزهري كان هو القائم بأمر التدوين وأن غيره ممن كوتب فلأجل أن يساعده فقط.
وتفيد الروايات أن هذه المدونات انتشرت في البلاد الإسلامية انتشاراً واسعاً وتداولها طلبة العلم، ومن ذلك ما روي أن إسحاق بن راشد قدم الري فجعل يقول: أخبرنا الزهري، فسئل: أين لقيته؟ فقال: “لم ألقه، مررت ببيت المقدس فوجدت كتابا له ثم”(23). وورد أيضا أن حديث الزهري عن أنس في الصدقات الذي رواه عنه سلمة بن عمرو القاضي جاء في آخره: “هذا كتاب ابن شهاب الزهري بخطه فيما أخبرني به أبو عمرو الأوزاعي عنه”(24).
كما يظهر من جهة أخرى أن كثيرا من هذه المدونات بقيت في دار الخلافة بعد وفاة الزهري في خلافة هشام ويزيد من بعده، فكان ينتفع بها طلاب العلم ويروون منها، ويذكر علي بن المديني فيمن روى منها الوليد بن محمد الموقري(25).
واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن حملت من دار الخلافة عند مقتل الوليد بن يزيد سنة 126هـ ولا يعلم مصيرها بعد ذلك. أخرج ابن سعد عن معمر قال: “كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه، يقول: من علم الزهري”(26).
وأما من الناحية المنهجية والنقدية – وهما أهم ما ينبغي الوقوف عنده في هذه القضية – فقد توافر في هذا التدوين أمران اثنان هما الشمول والتوثيق.
فبخصوص الأمر الأول يمكن القول بأن السنة وإن كتبت قبل هذه الفترة أي في زمن الصحابة والتابعين فإنه لم يراع في كتابتها بُعد الشمول أو الاستقصاء، ويتبين هذا من خلال ما وصلنا من مدونات الصحابة في الحديث حيث نجد أن صحيفة علي بن أبي طالب مثلا لم تشتمل إلا على أحاديث متعلقة ببعض الأحكام الشرعية، هي أحكام الدِّيات ومقاديرها وأصنافها وحكم تخليص الأسير من يد العدو، وبعض أحكام القصاص وغيره..(27)، ومثل هذه الصحيفة باقي الصحائف الأخرى.
وكان الشائع عند طلاب الحديث في عصر الزهري تدوين بعض الحديث فقط كأحاديث الأحكام الشرعية مثلا، أما الإمام الزهري فكان يكتب – وهو ما يزال في مرحلة الطلب – كل ما تتلقفه أذناه من الحديث النبوي، سواء أتعلق الأمر بأحاديث الأحكام أم بغيرها من أبواب الدين وميادينه، ويؤكد هذا ما رواه الخطيب البغدادي وابن عبدالبر في جامعيهما عن أبي الزناد قال: “كنا نكتب الحلال والحرام، وكان الزهري يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس“(28).
ولم يكن يقتصر على المرفوع من قول النبي ، بل كان يدون ما جاء عن الصحابة أيضا ملحقا إياه بالسنن فقد روي عن صالح بن كيسان قال: “اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا نكتب السنن فكتبنا ما جاء عن النبي ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة فقلت أنا: ليس بسنة فلا نكتبه، قال: فكتب، ولم أكتب، فأنجح، وضيعت“(29).
ولاشك أن هذه الرغبة التي لازمت الزهري منذ البداية قد خلفت أثارها على عمله وتدوينه فاتصف هو الآخر بالشمول، إلا أنه شمول في إطار السنن المرفوعة إلى النبي ، وما في حكمها من أقوال الصحابة، بدليل كتاب عمر ابن عبدالعزيز لابن حزم الذي حدد فيه نوعية العلم المرغوب في جمعه حيث قال: “انظر ما كان من حديث رسول الله أو سُنَّة ماضية أو حديث عمرة“(30) وهذا يدل على أن مأثور الصحابة لم يكن مقصودا لديه بالتدوين، بل ورد في رواية أخرى ما يرفع احتمال أي شك في هذا حيث قال: “ولا تقبل إلا حديث النبي “(31). ويؤيد هذا أيضا ما روي عن ابن وهب حين أخبره مالك بكتاب عمر لابن حزم في جمع الحديث فقال: “قلت لمالك: السنن؟ قال: نعم“(32).
ولاشك أن المقصود بالسنن في قول الزهري: “أمرنا عمر بن عبدالعزيز بكتب السنن فكتبناها دفترا دفترا..“(33) هو هذا.
وأما بخصوص الأمر الآخر أي: جانب التوثيق والتمحيص، فلم يفت الخليفة عمر بن عبدالعزيز أن ينتبه له ويوليه من العناية والاهتمام ما هو جدير به، فعمل بذلك على تدوين السنة نقية صحيحة النسبة إلى رسول الله ، ولاشك أن اختياره للإمام الزهري في حد ذاته كان أثرا من آثار اهتمامه بهذا الجانب، فلقد كان ابن شهاب – إلى جانب كونه إماما ثقة مبرزا في الحديث- مشهورا بشدة تحريه ونقده للروايات. ويعكس هذا بوضوح ما قاله عمرو بن دينار عنه: “ما رأيت أبصر بحديث من الزهري“(34)، وكان إذا حدث أتى بالحديث على وجهه مع ذكر إسناده والتركيز عليه ويقول: “لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة“(35).
وذهب كثير من الباحثين إلى عدِّه أول من أسند الحديث اعتمادا على قول الإمام مالك “أول من أسند الحديث ابن شهاب “(36)، ولأجل هذا تُعدُّ أحاديث الإمام الزهري وأسانيده من أحسن الأسانيد، قال الإمام أحمد بن حنبل: “الزهري أحسن الناس حديثا وأحسن الناس إسنادا“(37)، وليس في عصره من يضاهيه في معرفته بالإسناد، وإن وجد من ينافسه في كثرة الرواية واتساعه في الرجال وعلمه بفقه الحديث، يقول الإمام أبو داود الطيالسي: “وجدنا الحديث عند أربعة: الزهري وقتادة والأعمش وأبي إسحاق، وكان قتادة أعلمهم بالاختلاف وكان الزهري أعلمهم بالإسناد… “(38).
ويُرْوى عنه الكثير مما يدل على معرفته بصحيح الروايات وجيدها ودقة علمه بمخارج السنن وتمييزه لصحيحها من سقيمها، ومن ذلك توقيه الرواية عن أهل العراق، وتحذيره منها، بقوله: “إذا سمعت بالحديث العراقي فاردد به ثم اردد“(39)، ويروي عنه النعمان بن راشد فيقول: “سمعت ابن شهاب يحدث بحديث يزيد بن أبي أنيسة فقلت: يا أبا بكر من حدثك بهذا؟ قال: أنت حدثتنيه، ممن سمعته؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة، قال أفسدته، إن في حديث أهل الكوفة دغلا كثيرا“(40).
وقد كان كلام الزهري هذا من أهم ما اعتمده المحدِّثون في تضعيف رواية أهل العراق.
فكان تعيين الزهري – وهو بهذه المنـزلة – على رأس القائمين بتدوين السنة كافيا بأن يجعلها تخضع لمقاييس محدودة مضبوطة منع معها تسرب الموضوع إليها، ويؤكد هذه الحقيقة قول الزهري وهو يشرح البواعث على قيامه بالتدوين: “لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثا ولا أَذِنْتُ في كتابته“(41).
وكأننا بالزهري يريد بعمله هذا حصر صحيح السنة النبوية؛ جرَّاء إحساسه بالوضع فيها.
هذا وقد كان عمل الزهري هذا بداية حقيقية لمرحلة أخرى جديدة دخلتها السنة المطهرة على يد تلامذته من بعده، الذين ارتفع لديهم الحاجز النفسي الذي سيطر في السابق على أكثر العلماء فبادروا إلى التصنيف فيها، وكونوا النواة الأساس للتصنيف في الحديث، وكان منهم الركائز الأساسية لقيام المنهج المعرفي في العالم الإسلامي.
- التصنيف وبدايته في القرن الثاني:
اتفقت المصادر على أن أول من صنف مطلقا: هشام بن حسان (ت147هـ) وأبو محمد عبدالملك بن جريج (ت150هـ) ومحمد بن إسحاق (ت151هـ) ومعمر بن راشد (ت153هـ) وسعيد بن أبي عروبة (ت 156هـ) وأبو عمرو الأوزاعي (ت156هـ) ومحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ذئب (ت158هـ) والربيع بن صبيح (ت160هـ) وشعبة بن الحجاج (ت160هـ) وسفيان الثوري (ت161هـ) وحماد بن سلمة (ت167هـ) والليث بن سعد (ت 175هـ) وهؤلاء اختلف في أيهم كان الأسبق.
وبعدهم مالك بن أنس (ت179هـ) وعبدالله بن المبارك (ت181هـ) ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة (ت183هـ) وهشيم بن بشير (ت188هـ) وجرير بن عبدالحميد (ت188هـ) وعبدالله بن وهب (ت197هـ) ووكيع ابن الجراح (ت197هـ) وسفيان بن عيينة (ت198هـ) وعبدالملك بن عبدالرحمن الذماري (ت200هـ)، وأبو داود الطيالسي (ت204هـ)، وعبدالرزاق الصنعاني (ت211هـ)، ومحمد بن يوسف الفريابي (ت212هـ)..() وأغلب هؤلاء تلامذة للزهري.
قال الترمذي رحمه الله في العلل: “وجدنا غير واحد من الأئمة تكلفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه منهم هشام بن حسان وعبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج وسعيد بن أبي عروبة ومالك بن أنس وحماد بن سلمة وعبدالله بن المبارك ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ووكيع بن الجراح وعبدالرحمن بن مهدي وغيرهم من أهل العلم والفضل صنفوا، فجعل الله تبارك وتعالى في ذلك منفعة كثيرة، فنرجو لهم بذلك الثواب الجزيل من عند الله لما نفع الله المسلمين به فهم القدوة فيما صنفوا”(42).
وقال أبو طالب المكي مفصلا بعض ذلك: “أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف من التفسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس، ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سننا منشورة مبوبة، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس رضي الله عنه في الفقه، ثم جمع ابن عيينة كتاب الجوامع في السنن والأبواب، وكتاب التفسير في أحرف من علم القرآن، وجامع سفيان الثوري الكبير رضي الله عنه في الفقه والأحاديث، فهذه مِنْ أول ما صُنِّف ووُضِع من الكتب بعد وفاة سعيد بن المسيب وخيار التابعين وبعد عشرين أو أكثر ومائة من التاريخ..”(43).
ويظهر من هذا أن التصنيف في السنة على هذا النحو من الترتيب والتبويب كان على غير المسانيد وإنما على الأبواب الفقهية، وأن أصحابه اتجهوا به في هذه الفترة أي: في منتصف القرن الثاني إلى ميدانين اثنين هما التفسير والفقه، وكانت الطبقة الأولى من هؤلاء كالربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة، ربما تصنف كل باب على حِدَة، بينما اتجهت الطبقة التي بعدها إلى جمع أبواب متعددة في الكتاب الواحد، إلا أن القاسم المشترك بينهم هو تدوين أقوال الصحابة والتابعين وفتاواهم، أي: الموقوف والمقطوع إلى جانب المرفوع، وكان منهم من يضمن الكتاب اختياراته وآراءه كالإمام مالك رحمه الله.
وكانت هذه المصنفات تعنون إمَّا بـ”المصنف” أو “الموطأ” أو “الجامع” أو “السنن” وكانت السنن هي الغالبة؛ إذ قَلَّ إمام من الأئمة ليس له سنن، فابن جريج وابن أبي عروبة والأوزاعي وحماد بن سلمة وابن المبارك وابن أبي زائدة ووكيع، كل هؤلاء كانت لهم سنن.
وإذا كانت كتب السنن تعرّف كما ورد في “الرسالة المستطرفة ” للكتاني بأنها الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة إلى آخرها وليس فيها شيء من الموقوف، وقال: “لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة ويسمى حديثا”(44)، فإن هذه الصورة لم تتحقق إلا في الطور الأخير وذلك في القرن الثالث كما سيأتي، أما في هذه الفترة فكانت السنن تجمع الموقوف والمقطوع مع المرفوع كما تقدم.
فلماذا كانت البداية على هذا النحو، وكانت هذه الخصائص بالذات؟
الجواب أن العوامل التي تحكمت في هذه المرحلة واتجاهاتها كانت مغايرة للعوامل التي سادت زمن الزهري، وظهرت على منهج التدوين وأبعاده لديه، حيث كان من أهمها: التأسيس الفقهي والأصولي وما اقتضاه ذلك من تركيز الجهود لمزيد من الجمع لما تفرق من السنة النبوية وترتيبه على أبواب الفقه والتعقيب عليه بالرأي الفقهي أحيانا.
وكان منها أيضا ما تعرضت له السنة من هجوم أريد به النيل من حجيتها والطعن في مدى قبولها بذريعة ما لابسها من الدخيل والمكذوب. وقد وضح أستاذنا الدكتور فاروق حمادة في هذا الصدد أن مصنفات القرن الثاني الهجري – بالنظر إلى هذه العوامل – إنما نشأت لتردَّ على أهل الزيغ والبدع والانحرافات والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة وأمثالهم، وخاض علماء الحديث في هذه المرحلة معركة إثبات السنة وحجيتها وبيان موقعها في حياة المسلمين(45).
وكما لم يكن من شرط هذه الكتب الاقتصار على المرفوع وحده حيث أوردت إلى جانبه الموقوف والمقطوع – كما تقدم – فإنها لم تقتصر كذلك على الصحيح المتصل، فاستطردت إلى المراسيل والمنقطعات والبلاغات، ولعل السبب في ذلك في الغالب خوفهم من الوقوع في الموضوع من الحديث المرفوع وتوقيهم من أن يتسرب إلى كتبهم منه شيء ولاسيما أن المرحلة مرحلة تمحيص وغربلة ونقد وتثبت من الأسانيد فكان أن استبدلوا الموقوفات والمقطوعات بالمسندات المرفوعات لعدم اقتضاء الأولى من التحري والتشدد ما تقتضيه هذه، وقد جاء النص على هذا صريحا لدى الخطيب البغدادي في ثنايا حديثه عن طرائق تصنيف الحديث في جامعه حيث قال: “وهذان النوعان – أي الموقوف والمرسل – أكثر ما في كتب المتقدمين إذ كانوا لكثير من المسندات مستنكرين“(46).
ثم أورد بإسناده عن محمد بن يحيى بن كثير قال: قال أبو نعيم: سلني ولا تسلني عن الطويل، ولا المسند، أما الطويل فكنَّا لا نحفظه، وأما المسند فكان الرجل إذا والى بين حديثين مسندين رفعنا إليه رؤوسنا استنكارا لما جاء به“(47).
وفي هذا ما يدل على أن الإسناد لم يعرف في هذه المرحلة اكتماله ونضجه واستقراره بعد.
3- تدوين السنة النبوية في القرن الثالث الهجري:
يعدُّ هذا القرن أهم فترة في تاريخ السنة النبوية على الإطلاق سواء من حيث تدوين المتون أو من حيث نضج القواعد النقدية واكتمالها ونضج ما يرتبط بها من الدراسات والأبحاث في علم الرجال وعلم العلل وفقه الحديث والعلوم المتعلقة بذلك وقضية الإسناد، ولذلك استحق أن يسمى عند الدارسين بالعصر الذهبي للسنة.
وقد اتجه المصنفون فيه إلى تطوير ما فتقه شيوخهم في هذا الميدان وبلورته وترسيخه على أسس متينة وقوية، وهكذا توالت المصنفات وعمت كل البلاد الإسلامية، وبلغت في الكثرة والتنوع مدى بعيدا، ويمكن أن نذكر من هؤلاء المصنفين: أسد بن موسى الأموي (ت212هـ)، وعبيد الله بن موسى العبسي (ت213هـ)، وعبدالله بن الزبير الحميدي (ت219هـ) وأحمد بن منيع البغوي (ت224هـ)، وسعيد بن منصور (ت227هـ)، ونعيم بن حماد الخزاعي (ت228هـ)، ومسدد بن مسرهد البصري (ت228هـ)، وعلي بن الجعد الجوهري (ت230هـ)، وعبدالله بن محمد الجعفي المسندي (ت229هـ)، ويحيى بن معين (ت233هـ)، وعلي بن المديني (ت234هـ)، وأبا خثيمة زهير بن حرب (ت234هـ)، وأبا بكر بن أبي شيبة (ت235هـ)، وإسحاق بن راهويه (ت238هـ)، وخليفة بن خياط (ت240هـ)، وأحمد بن حنبل (ت241هـ)، وإسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي (ت242هـ)، والحسن الحلواني (ت242هـ)، وأحمد بن منيع (ت 244هـ)، وعبد بن حميد (ت249هـ)، وإسحاق بن منصور (ت251هـ)، ومحمد بن هشام السدوسي (ت251هـ)، وعبدالله بن عبدالرحمن الدارمي (ت255هـ) ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)، ومسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ) ومحمد بن يزيد ابن ماجه (ت273هـ)، وأبا داود سليمان بن الأشعث (ت275هـ)، وأبا عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت279هـ)، وأبا عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ).
وقد اتجه المصنفون في مطلع هذا القرن إلى تأليف “المسانيد” وهي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفا مرتبين على حروف الهجاء في أسماء الصحابة أو على القبائل أو السابقة في الإسلام أو الشرافة النسبية أو غير ذلك(48)، وقد صارت هي الطاغية لدرجة أنه قل إمام من الأئمة إلا وألَّف مسندا، الأمر الذي يشبه إلى حد بعيد ظاهرة تأليف السنن في منتصف القرن الثاني كما تقدم.
ويُعَدُّ تصنيف “المسانيد” توجها من المحدثين نحو إفراد الأحاديث المرفوعة بالجمع والتدوين دون غيرها من الموقوف والمقطوع كما هو الحال في السابق لأن الحجة تقوم به بعد كلام الله تعالى كما نبه على ذلك أستاذنا الدكتور فاروق حمادة حفظه الله(49).
قال الحافظ ابن حجر: “وصنف أبو محمد عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبدالله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم. إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنف أسد بن موسى الأموي مسنداً وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم من النبلاء. ومنهم من صَنَّفَ على الأبواب وعلى المسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة”(50).
ومع أن المسانيد تعد تطوراً في التأليف الحديثي ونضجاً على المستوى المنهجي والنقدي معا، فإنها لم تكن – على رغم من ذلك- تقتصر على الصحيح فقط، وإنما تورد بعضا من الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحة، كما سبق في كلام الكتاني رحمه الله، وملحظهم في ذلك أمور منها:
أولاً: ما ذكره الحافظ ابن حجر وهو أن الغرض الأساس عند من يصنف على المسانيد هو جمع حديث كل صحابي على حدة، سواء أكان يصلح للاحتجاج به أم لا، ثم ذكر الحافظ أنَّ مَنْ عرف من أصحاب المسانيد بانتقاء الأحاديث الصحيحة قليل كإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، ومع ذلك فقد وقع في كتبهم ما لا يبلغ درجة الصحة من الضعيف والمنكر(51).
ومنها أيضا ملحظ آخر نبه له الشيخ أبو زهو وهو الإشارة – من خلال كثرة الطرق التي يوردونها – إلى أن طرق الحديث قد تتعدَّد، فيبلغ مبلغ الصحيح أو أنه يصلح للاعتبار، ومنها ما تتبين صحته فيما بعد لأهل الحديث ونقاده، إلا أن هذه الطريقة هي – في نظره – ذات عيوب، لأن المطالع لها
-إذا لم يكن من أهل الفن المتضلعين فيه الواقفين على أحوال المتون والأسانيد- تعذَّر عليه الوقوف على درجة الحديث من الصحة والضعف والاحتجاج به أو عدمه(52).
وبالإضافة إلى هذا النقص، هناك جانب آخر يعد من سلبياتها وهو عدم ترتيبها على أبواب الفقه، وذلك ما يجعل الوقوف على الأحكام الشرعية منها شاقا على غير الحفاظ المتقنين لعدم التناسب في جمع الحديث بين موضوعاتها.
هكذا إذن يتبين أن السنة النبوية عرفت على مستوى التدوين تطوراً مستمراً وسيراً يوما بعد يوم نحو الكمال، فقد كان المصنفون في البداية يخلطون الصحيح والمتصل بالمرسل والبلاغ والمنقطع، والسنن بالموقوفات ثم لا يبين معظمهم ذلك ولا يوضحه.
وخير دليل على ذلك أن موطأ الإمام مالك الذي يعد أصح الكتب في هذه الفترة، أو هو بحسب عبارة الشافعي أكثر الكتب صوابا، لا يخلو من المراسيل وما شاكلها، وإن تحرى فيها الصحة والثبوت وهي لأجل ذلك حجة عنده وعند من يقلده.
فحينما اتجه المحدثون بعد ذلك إلى تأليف المسانيد كان الغرض لديهم هو العناية بوصل الأسانيد أولاً مع الاقتصار على المرفوع منها إلى رسول الله لأنه المراد عند الاحتجاج، وقد نستطرد هنا إلى القول بأن هذا الاتجاه تطور في النهاية، مُسْفرا عن اختيار مصطلح “السنن” عنوانا جديدا للكتب التي ليس فيها شيء من الموقوف()، وهي ما سنرجئ الكلام عليه إلى حين.
هذا الوضع الذي كانت عليه المصنفات الحديثية كان يوازيه في الناحية الفكرية للمجتمع الإسلامي وضع مضطرب جدا، حسبما وضَّح الدكتور فاروق حمادة، فقال: “أطلت الأفكار من كل جانب، وأرادت كلُّ فكرة فرض نفسها بقوة متذرعة بكل الحجج، ولم تبق فكرة من الأفكار التي راجت آنئذ إلا وحاولت النيل من الحركة الحديثية (المعتزلة – الباطنية – إخوان الصفا – التشيع – التصوف – القدرية – الجهمية القائلون بخلق القرآن – المجسمة – الراوندية… وغيرهم)(53).
لقد كان المبتدعة من المعتزلة وغيرهم يشوشون على أهل الحديث بالقول بعدم حجية خبر الآحاد بدعوى اختلاط السنة بالمكذوب والمختلق، وكان المحدثون خصوما لهم، يحاجونهم ويعملون على دحض مزاعمهم، كما كانوا في الوقت نفسه خصوماً لبعض أهل الفقه الذين اشترطوا للعمل بخبر الآحاد شروطا زائدة عما تطلبه علماء الحديث، وذلك كأن يكون المتن سالما من المعارضة للقرآن أو للسنة المشهورة، وألا يكون مما تعم به البلوى، وألا يكون مما أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول، وألا يخالفه راويه من الصحابة قولا أو عملا(54).
وكان من نتائج شرطهم هذا أن وافقوا المتبدعة من المتكلمين في جزء من موقفهم تجاه السنة النبوية، وضيقوا دائرة المقبول منها موسعين من ساحة القياس.
من هنا رأى المحدثون مجابهة هؤلاء أيضا كما جابهوا الآخرين وقد تمت هذه المجابهة على نحو عملي وتطبيقي وليست بالقول فقط، حيث بين أهل الحديث لهؤلاء أن ما يصح من الحديث مع التشديد في الشروط كثير فاتجهوا إلى تجريد الصحيح وإفراده بالتأليف، إلا أن ذلك لم يكن منهم تجاوبا مع هذا المعطى وحده وإنما مع حاجة الأمة إلى كتاب خاص بالصحيح المسند من الحديث، وكان أول من فتح الباب في هذا المجال هو الإمام البخاري الذي أخبر عن هذا المعطى الأخير بقوله: “كنت عند إسحاق بن راهويه فقال لنا بعض أصحابنا: “لو جمعتم كتابا مختصراً لسنن النبي ، فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب“(55)، وقد جعل اسمه: “الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه” وأفرده لأصح الصحيح خاصة لا مطلق الصحيح، قاصداً فيه الاختصار فقط، وليس الاستقصاء. وفي هذا الإطار يجب أن يفهم قوله المشهور: “أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح“(56) وقوله: “ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح لحال الطول“(57) وقوله: “صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله“(58).
وتكرر من البخاري الردُّ على كثير من آراء هذا الاتجاه الفقهي، دون تعيين لأي اسم من ممثليه؛ لأنه عني بنقض أسس الاتجاه لا انتقاد الأشخاص، فناقش آراءه الفقهية وتأصيلاته المنهجية، ومن ذلك أنه جعل ضمن كتب جامعه كتاب أخبار الآحاد، وعقد تحته ستة أبواب هي:
1 – باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام.
2 – باب بعث النبي الزبير طليعة وحده.
3 – باب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53] فإذا أذن له واحد جاز.
4 – باب ما كان يبعث النبي من الأمراء والرسل واحداً بعد واحد.
5 – باب وصاة النبي وفود العرب أن يبلغوا مَنْ وراءهم.
6 – باب خبر المرأة الواحدة.
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نستوعب كل مارد به البخاري رحمه الله عملياً على هذا الاتجاه، وهو يدل بكل تأكيد على أنه كان ينطلق من رؤية واضحة ومتكاملة نتيجة إدراكه لهذا الوضع، واستيعابه لحاجات العصر الراهن ومتطلبات المستقبل، وجعل رحمه الله كتابه الجامع الصحيح الذي يمثل أرقى مرحلة في التطور النقدي والفكري للأمة الإسلامية خلاصة للمسانيد التي سادت قبله ومعظمها من تأليف شيوخه، تنكَّب فيه القصور والنقص الحاصل في كل المصنفات السابقة فتحرى الصحيح المتصل من المرفوع، وتوسع في ذلك ليكون الكتاب جامعا لفنون متنوعة وأبواب من الدين متعددة، كان بعضها يفرد في مصنفات خاصة قبل زمانه، ورتب ذلك على أبواب الفقه إمعانا منه في التجاوب مع الواقع ومتطلباته وإسعاف أهله في الحال والاستقبال بحاجاتهم من السنن في سهولة ويسر.
وتعود مزايا جامع الإمام البخاري إلى ثلاثة جوانب: أولها نقدي وقد امتاز بخصوصه بأمرين، أحدهما: السبق إلى التصنيف في الصحيح المجرد من المرفوع إلى النبي ، والآخر دقة شرطه في التصحيح، وثانيها جانب القيمة الفقهية والتشريعية للكتاب، إذ كانت للإمام البخاري مقاصد فقهية استنباطية لا تقل درجة حرصه على تحقيقها عما كان له نحو المقاصد النقدية، وهو أمر اختص به البخاري وتميز به أكثر من كثير غيره، ولأجل ذلك ضمَّن كتابه أصول أحاديث الكتب المتقدمة وخلاصة محتوياتها وصحيح مادتها، مضافاً إليها آي القرآن المناسبة لموضوع كل ترجمة وأقوال الصحابة والتابعين وفتاواهم متى كانت الحاجة إلى ذلك قائمة إلا أنها خارجة عن دائرة شرطه في الصحيح، الأمر الذي جعل كتابه في النهاية كتاب فقه للأحكام الشرعية بأدلتها من القرآن والحديث الصحيح، على أسس منهجية خاصة في الاستنباط والترتيب. وهذا هو ثالث الجوانب أي: جانب العرض والتبويب والترتيب الذي كان مجالا لتفنن البخاري وإبداعه، إذ استطاع أن يُسَخِّر ذلك لغرض إبلاغ القارئ آراءه في مجال النقد واختياراته في ميدان الفقه والاستنباط مستبدلا اللمحة السريعة والإشارة الخفية بالعبارات والتعليقات الطويلة والمتكررة.
وبناء على ذلك احتلَّ الجامع الصحيح للإمام البخاري مكانة عالية ودرجة رفيعة لم ينافسه فيها أي كتاب، واشتهر بعلو مرتبة أحاديثه وكثرة مزاياه وخصائصه، وكان محله عند الأمة هو “التلقي بالقبول” بصورة مجمع عليها وملزمة لكل المسلمين في جميع العصور.
ويعني التلقي بالقبول من بين ما يعني التسليم التام للإمام البخاري فيما قَرَّره من صحة أحاديث كتابه، ويقتضي ذلك عدم جواز الاشتغال بالبحث أو حتى الكلام على أسانيده ورجاله من حيث الصحة والضعف أو التجريح والتوثيق وما شابه ذلك، لأن كل ذلك عبث لا داعي له، ولا فائدة من ورائه بعد أن انتهى النقاد من المحدثين من درسه وتقرير صحته، ولذلك كان سلوكهم تجاه ما خرج فيه من الأحاديث الاكتفاء بالعزو له، وعدّ ذلك حكما على الحديث بالصحة أو بالأحرى بأعلى درجاتها على الإطلاق.
ثم حذا حذوه في دقة الشرط في التصحيح تلميذه وخريجه الإمام مسلم ابن الحجاج (ت261هـ) في كتابه: “المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل عن رسول الله “.
كما حذا حَذْوَه في نخل الكتب المتداولة إلى وقته وانتقاء الأحاديث الصحيحة حسب شرطه الذي كان يقارب شرط الإمام البخاري في الضيق والدقة ويأتي في المرتبة بعده مباشرة، وقد ثبت عنه أنه قال: “صنفت هذا الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث”، وهو مُتَلَقَّى بالقبول ككتاب الإمام البخاري، وهما معاً أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
ومع أن شرط الإمام البخاري كان أدقَّ وأعلى من شرط الإمام مسلم إلا أن كتاب الإمام مسلم حظي بتفضيل بعض العلماء لميزات تعود إلى جانب الترتيب والعرض وطريقة إيراد الحديث، يقول الحافظ ابن حجر: “حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله بحيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى”(59).
ويظهر أن الإمام مسلما أراد بكتابه تحقيق جملة من الأهداف المتجاوبة مع حاجة الأمة إلى كتاب حديثي يتحرى الصحيح ويسعف أهل الفقه بالمادة الحديثية الصالحة للاحتجاج والعمل ولأجل ذلك مَيَّزه بما يأتي:
أ – سرد الأحاديث سرد المحدث المعني بالمتون والمخصوص بمعرفة الأسانيد، وحرص على أن لا يشوش على ذلك بشيء إلى درجة أنه لم يضع أسماء الكتب والأبواب والتراجم.
ب – أخلى الكتاب من اجتهاداته الشخصية بالمرة حتى يترك المجال واسعا للقارئ لاختيار ما يراه راجحا أو موافقا لمذهبه.
ج – اهتم كثيرا بصناعة الإسناد وبسائر النواحي الفنية للأحاديث في الكتاب، فكان في ترتيبه لها مرتبطا بهذا المحور، ولا تكاد تجد للجانب الفقهي أثراً إلا في التبويب العام، أما داخل الأبواب فإن ترتيب الأحاديث يتم عنده حسب المعطيات الإسنادية والخصائص النقدية، إذ يراعي الشهرة والعلو والخلو من العلة وأمثال ذلك(60).
د – وفي هذا الإطار جعل لكتابه بخلاف البخاري مقدمة في منهج النقد الحديثي تعدُّ من أقدم ما كتب في الجانب النظري والتقعيدي لعلم مصطلح الحديث، فكان هذا وذاك مما أعطى لكتابه تميزاً حظي على أساسه بتفضيل عدد لا يستهان به من العلماء كما تقدم.
وفي هذا القرن أيضا ألَّف الأئمة الأربعة سننهم المشهورة وهم: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ) وأبو عيسى محمد بن عيسى ابن سورة الترمذي (ت279هـ) وأبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) ومحمد بن يزيد المشهور بابن ماجه (ت273هـ)، الذين تعد كتبهم مظهراً من مظاهر اكتمال قواعد النقد الحديثي ونضج الرؤية المستوعبة لحاجات الأمة ورغباتها واستمرارا لسير المحدثين نحو تطوير تآليفهم على مستوى النقد ونوع المادة المدونة وعلى نحوٍ عال من الإخراج والترتيب والتبويب وحتى التراجم، وهكذا اشتركت السنن الأربعة في الأمور الآتية:
1 – العمل على استيعاب مضامين الكتب السابقة وتضمين مادتها في ثنايا ما ألفوه، والسعي إلى جعل تآليفهم تغني عن كل ما سبقها.
2 – توجيه العناية لأحاديث الأحكام على نحوٍ يلبي حاجة الفقهاء والمجتهدين على شتى المستويات شمولا واستقصاء وترتيبا.
3 – الحرص على تجاوز كل النقائص التي وجدت في المصنفات السابقة من حيث المنهج أو النقد أو العرض والترتيب.
ثم كان لكل واحد منها خصائص لا يشاركه غيره فيها جعلت لبعضها من القيمة ما لا يوجد إلا لها. ويصدق هذا بشكل خاص على سنن أبي داود رحمه الله التي اعتبرت مؤلفا أساسيا في السنة النبوية لا يمكن الاستغناء عنه بحال، قال الإمام الخطابي مبينا مرتبة هذا الكتاب وأهميته وموقف الأئمة منه: “واعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين مثله، وقد رُزِقَ القبول من الناس كافة، فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فلكل فيه ورد ومنه شرب وعليه مُعَوَّلُ أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن وأقطار الأرض“(61).
وقد انبنى إقبال العلماء على الكتاب على المرتكزات الآتية:
1 – سَبْقُ أبي داود إلى تأليف السنن، أو بعبارة أصح: سَبْقُه إلى جمع السنن على سبيل الاستقصاء، وليس مجرد التأليف في حد ذاته، لأنه سبق أبا داود إليه غيره بمدة طويلة سواء في هذا القرن أو الذي مضى كابن جريج عبدالملك بن عبدالعزيز (ت150هـ) وأبي مرة موسى بن طارق اليماني الزبيدي القاضي، والإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) وأبي عثمان سعيد بن منصور (ت227هـ) وأبي عمرو سهل بن أبي سهل زنجلة (ت240هـ) وأبي علي الحسن بن علي الخلال (ت242هـ) وأبي جعفر الدولابي (ت227هـ) والدارمي عبدالله بن عبدالرحمن (ت255هـ) وأبي بكر الأثرم (ت273هـ).
وعلى هذا بنى العلامة الكتاني قوله: “قيل وهو (أي أبو داود) أول من صنف في السنن وفيه نظر يتبين مما يأتي”(62).
ويشرح الخطابي هذا المرتكز فيقول: “وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً سبقه إليه ولا متأخراً لحقه فيه”(63).
وهو بهذا الكلام لا يبين قضية الاستقصاء فقط بل نوعيته كذلك، فأبو داود رحمه الله وُفِّق حسب تحليل النقاد في جمع الأحاديث الأصول في مجال الأحكام الشرعية، ومارس في كتابه بحق جهدا عظيما: هو استيعاب مادة المصادر المتقدمة وتوفير محتواها للأجيال اللاحقة، ولذلك استحق كتابه أن يسمى “أم الأحكام ” من لدن الحافظ ابن حجر رحمه الله(64).
2 – حرص الإمام أبي داود في الكتاب على تلافي الطول والتكرار في المصادر التي اعتمدها عند جمعه لمادة الأحكام الشرعية، مما جعله يضمن الإقبال الذي حرمته تلك المصادر، وإلى هذا المعنى يشير الخطابي بقوله: “وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخباراً وقصصاً ومواعظ وآدابا فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها، ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة، ومن أدلة سياقها، على حسب ما اتفق لأبي داود”(65).
3 – عنايته بالجانب النقدي وسعيه نحو تطوير قضية الإسناد والعمل على إنضاجه في الكتاب من خلال الأحاديث التي يسوقها فيه وذلك بسوقها مسندة أي متصلة مرفوعة فكان ذلك هو الضامن لقبول الكتاب. ونحن من خلال دراستنا لرسالة أبي داود إلى أهل مكة يتجلى لنا أن الهاجس لدى الأئمة والنقاد في تلك الفترة ومنهم أبو داود هو الإسناد، والذي ينظر في مسيرة التأليف في السنة النبوية، يجد أن ما حصل فيه التطور فعلا هو قضية “الأسانيد” بالدرجة الأولى، وأن الكتب الستة بصفة خاصة إنما حازت ما حازته من القبول بفضل عنايتها بوصل الأسانيد بشكل خاص وما يرتبط بها من التصحيح والقبول، ثم جودة التبويب كذلك كما سيأتي بيانه.
والدليل على ذلك ما قاله ابن حزم في سياق تحديده لمراتب الكتب الحديثية حيث قال: “أَوْلى الكتب الصحيحان، ثم صحيح ابن السكن، والمنتقى لابن الجارود، والمنتقى لقاسم بن أصبغ، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود …”(66) ثم جعل بعد ذلك بدرجات كثيرة موطأ مالك.. وهو إنما بنى ذلك على أساس الإسناد لا غير كما نص على ذلك الذهبي في سياق لومه له على جعله موطأ مالك في المراتب المتأخرة فقال: “ما أنصف ابن حزم بل رتبة الموطأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود والنسائي ولكنه تأدب وقدم المسندات النبوية الصرفة وإن للموطأ لوقعا في النفوس ومهابة في القلوب لا يوازنها شيء”(67).
وبهذا يظهر أن موطأ مالك إنما تأخرت رتبته عن الصحيحين بسبب قضية الإسناد وكان يمكن أن تتخلف رتبته حتى عن غيرهما من الكتب كالسنن الأربعة لولا أصحية الأحاديث التي اشتمل عليها في ذاتها، ومهما يكن من أمر فإن الذهبي هنا وإن ناقش ابن حزم في قضية الترتيب فإنه أقره في عدّ مسألة “الإسناد” في الترتيب وهو ما يدل على أن ذلك هو مذهب الجمهور عامة، وأنه معولهم في قبول كتاب سنن أبي داود.
4 – ولكن لا يجوز أن نتصور أن الإسناد واتصاله كان هو المقياس الأوحد للتعامل مع كتب السنة ومنها سنن أبي داود بذلك الشكل وإلا لكانت كل الكتب المسندة محل قبول من الأئمة حتى تلك التي تضم الضعيف والموضوع وما بهذا يقول أحد. فالإسناد إذن نعني به إيراد ما توافرت فيه شروط الصحة من الأحاديث مسندة موصولة فهذا هو الذي يضمن للكتاب القبول وهذا بالضبط هو ما توافر لسنن أبي داود، أي بعبارة أخرى اتصال الأسانيد مع نظافتها.
5 – تَوَخِّي أبي داود لشهرة الأحاديث التي أخرجها، وهو قيد إضافي مرتبط بمدى تدقيقه وتشديده وضيق شروطه ليس إلا، ولكنه على كل حال من السمات التي عملت على توفير القبول للكتاب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه القضية كانت ملحظا أساسيا تمت مراعاته بجد من لدن أصحاب الكتب الستة جميعهم وليس أبا داود وحده، وكانت بالتالي من المرتكزات الأساسية لقبولها، ومعنى ذلك أن التلقي بالقبول للكتب الستة يعود في جزء كبير منه إلى كونها ركزت على الحديث المشهور المتداول والمعمول به وليس الغريب أو الشاذ أو المهجور، وقد دأب العلماء على اعتبار الاعتماد على الكتب الستة عملا منهجيا صائبا يلزم به طلبة العلم بكل صرامة؛ لكيلا تزل أقدامهم باعتماد غيرها من المصادر التي لم يراع فيها هذا الملحظ.
6 – استهدافه من الكتاب تأصيل مذاهب فقهاء الأمصار حتى صار كالدليل للفقه المتداول إلى وقته يقول العلامة ولي الله الدهلوي: “… وثالثهم أبو داود السجستاني وكان همته جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار فصنف سننه وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل، قال أبو داود: “ما ذكرت في كتابي حديثا أجمع الناس على تركه “، وما كان فيها ضعيفا صرح بضعفه وما كان فيه علة بينها بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب ولذلك صرح الغزالي وغيره بأن كتابه كاف للمجتهد”(68). ولم يكن هذا موقفا معزولا للغزالي وحده، بل كان موقف جمهور العلماء فقد جاء عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي (ت340هـ) وهو أحد الرواة لسنن أبي داود قوله: “لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله عز وجل ثم هذا الكتاب (أي السنن) لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة.”(69)، وقال أبو يحيى الساجي (ت307هـ): “كتاب الله عز وجل أصل الإسلام وكتاب السنن عهد الإسلام”(70).
7- إبداع أبي داود في كيفية إخراجه وتفننه في وضعه ورصفه وإجادته في تبويبه وترتيبه وتوخي الدقة وكثير من التفصيل في تراجمه، فغدا كأنه كتاب فقه بالشكل الذي عليه كتب الفقهاء.حتى قال الإمام الخطابي: “فأما أهل خراسان، فقد أولع أكثرهم بكتابي محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفا وأكثر فقها”(71).
وكان لكتاب الترمذي ميزة أخرى هي سبقه إلى بيان درجة كل حديث من أحاديثه في إطار ترتيبه لها على الأبواب مع عرض المذاهب الفقهية وقد بين بنفسه أنه أعدَّ كتابه لهذا الغرض استجابة لمن سأله ذلك فقال: “وجدنا غير واحد من الأئمة تكلَّفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه منهم هشام بن حسان وعبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج وسعيد بن أبي عروبة ومالك بن أنس وحماد بن سلمة وعبدالله بن المبارك ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ووكيع ابن الجراح وعبدالرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل العلم والفضل، صنفوا فجعل الله تبارك وتعالى في ذلك منفعة كثيرة، فنرجو لهم بذلك الثواب الجزيل من عند الله لما نفع الله المسلمين به فهم القدوة فيما صنفوا”(72).
قال الحافظ ابن رجب في شرحه: “… ومنهم من لم يشترط الصحة وجمع الصحيح وما قاربه وما فيه بعض لين وضعف، أكثرهم لم يثبتوا ذلك، ولم يتكلموا على التصحيح والتضعيف، وأول من علمناه بين ذلك أبو عيسى الترمذي رحمه الله، وقد بين في كلامه هذا أنه لم يسبق إلى ذلك، واعتذر بأن هؤلاء الأئمة الذين سماهم صنفوا ما لم يسبقوا إليه فإذا زيد في التصنيف بيان العلل ونحوها كان فيه تأس بهم في تصنيف ما لم يسبق إليه، وقد صنف ابن المديني ويعقوب بن شيبة مسانيد معللة، وأما الأبواب المعللة فلا نعلم أحدا سبق الترمذي إليها، وزاد الترمذي أيضا ذكر كلام الفقهاء وهذا كان قد سبق إليه مالك في الموطأ وسفيان في الجامع”(73).
لكن بيَّن الدكتور نور الدين عتر وجوها من التميز لدى الترمذي في هذا المجال أغلبها يعود إلى جانب الشكل وطريقة العرض والإخراج، وجعل من أهمها عقده بابا لكل مذهب فقهي فقال: “وتفرد الترمذي بتعديد الأبواب للمسألة في كتابه، وذلك أنه يعقد بابا للدليل الناسخ وبابا آخر للمنسوخ من الحديث، وكذلك يترجم للمذاهب الخلافية لكل طائفة ترجمة مستقلة ويذكر في الباب أدلتها من السنة وذلك كثير في كتابه”(74).
وأما سنن الإمام النسائي المسماة بالمجتبى لكونها مختصرة من الكبرى فقد ظهر رسوخ صاحبها وتمكنه وضيق شرطه في قيمتها ومنـزلتها عند العلماء الذين ذهب بعضهم إلى جعلها في المرتبة بعد الصحيحين مباشرة، كما هو اختيار العلامة ابن رشيد السبتي حيث قال: “كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفا وأحسنها ترصيفا، وكان كتابه جامعا بين طريقي البخاري ومسلم مع حظ كثير من بيان العلل. وفي الجملة فهو أقل الكتب بعد الصحيحين حديثا ضعيفا ورجلا مجروحا”(75)، ولذلك أطلق عليه اسم الصحة كل من أبي علي النيسابوري وأبي أحمد بن عدي وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبدالله الحاكم وابن منده وعبدالغني بن سعيد الأزدي وأبي يعلى الخليلي وأبي علي بن السكن وأبي بكر الخطيب وغيرهم(). وقال الحافظ ابن حجر مبينا مذهب النسائي في التخريج عن الرواة: “فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين، فحكى أبو الفضل بن طاهر قال: سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه، فقلت له: إن النسائي لم يحتج به؟ فقال: يا بني إن لأبي عبدالرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم”(76).
وهكذا كانت ميزة سنن النسائي في ضيق شرطه في التصحيح ودقة مقاييسه في القبول لدرجة أن أبا الحسن المعافري (ت484هـ) تلميذ ابن عبدالبر عدّهُ سلك أغمض وأجل ما سلكه الأئمة الستة من مسالك(77).
وميزة الكتب الستة أو بالأحرى الخمسة باستثناء سنن ابن ماجه هي استيعابها للصحيح من أصول أحاديث الأحكام، قال الإمام النووي: “لم يَفُتْ الأصول الخمسة إلا اليسير، أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي”(78)، على أنه تبين مما تقدم أن سنن أبي داود وحدها يصدق عليها هذا فكيف بالخمسة جميعاً؟ فقد ذكر ابن القيم أن أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث(79)، وعدد ما في سنن أبي داود أربعة آلاف وثمانمائة، كما نص على ذلك بنفسه.
وقد كان في هذا القرن مصنفون آخرون ومصنفات غير هذه وتلك لا يسمح المقام بسردها فضلا عن حصرها واستقصائها، ولكن المهم هو أن هذا النوع من المصنفات هو ما جعل القرن الثالث الهجري عصر النضج والرسوخ في نظر كل الدارسين والقرن الذهبي للسنة النبوية بامتياز تقديرا لما تفرد به من خصائص لخصها الدكتور فاروق حمادة في أربع، هي:
1 – نضج القواعد التأصيلية والتزامها وكتابتها وتدوينها
2 – جمع النصوص النبوية مفردة عن غيرها
3 – ضبط الرجال وتراجمهم ومعرفة الأسانيد وعللها
4 – العناية بالجانب اللغوي في الحديث(80).
4- تدوين السنة النبوية في القرن الرابع الهجري:
لا ينبغي تصور أن الحديث عن تدوين السنة النبوية في هذا القرن سيكون حديثا عن قرن جديد بخصائص وحاجات لا تمت إلى المرحلة السابقة بأية صلة، ومن ثم ستكون بينه وبين القرن السابق قطيعة وانفصال، وإنما كان بين هذه القرون كلها اتصال، وكان كل قرن امتداداً للذي قبله، إلا أنه كان من الطبيعي أن تمتاز كل فترة بعناصر جديدة تنضاف إلى القديمة في جانب الأهداف أو الحاجات أو الخصائص؛ لأن المحدثين يبدو وكأنهم كانوا يتوارثون تصورا واضحا بكافة عناصره وغاياته، وما كان يتم تحقيقه في عصر يطوى لإنجاز ما تبقى، ولهذا كانت المصنفات الحديثية مترابطة فيما بينها ترابطا تاما بحيث لا يوجد في المحدثين البتة مَنْ تجاهل أو تجاوز جهود من سبقه، وقد لا نكون هنا في حاجة إلى التذكير بما فعله أصحاب الكتب الستة من تلخيص للكتب السابقة ونقد مادتها بالموازنة مع آلاف الأحاديث المسموعة.
وبناء على ذلك نقول: إن القرن الرابع الهجري يعد من حيث الأهمية امتدادا للقرن الثالث، والمصنفات التي ألفت خلاله تعد مصادر أصيلة للرواية لا مندوحة عنها لطالب مادة الحديث النبوي؛ وذلك لأن تدوين السنة لم يكتمل في القرن الثالث، كما أنه لم يكن الصحيح مقصورا على ما صنف أثناءه.
وإذا كان الحافظ الذهبي قد جعل رأس سنة ثلاثمائة هو الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين، فقد أبان الشيخ أبو زهو أن أساسه في ذلك قضية واحدة لا غير، هي الرواية الشفهية فالمتقدمون هم مَنْ عَوَّلوا على هذه الصورة في النقل والرواية تعويلا تاما، في حين قطع المتأخرون صلتهم بها وأحلُّوا بدلها الرواية من الكتب. ونص كلامه في ذلك: “هذا وكان العلماء في الأدوار السابقة لا يعتمدون إلا الرواية الشفاهية في نقل الأحاديث، ولا يعولون على مجرد الكتب حتى ينقلوا أحاديثها بطريق السماع من مؤلفيها، ولو كلفهم ذلك أن يرحلوا الشهور الطوال. أما في هذا الدور السادس فقد لفظت فيه الرواية الشفهية أنفاسها، وذهب من بين الرواة ريحها، وطغى عليها التدوين الذي بلغ أشده في ذلك الوقت؛ لهذا جعل العلماء الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من رواة الحديث وحملته هو رأس سنة ثلاثمائة، كما قرَّره الحافظ الذهبي في خطبة ميزانه”(81).
والجدير بالذكر أن الرواية في هذا العهد ازدادت انتشارا وعرفت توسعاً كبيراً، ووجدت فنون أخرى واهتمامات جديدة عند المحدثين لم تكن من قبل، وطبيعي أن يكون في هذا القرن من جراء ذلك عدد هائل من المصنفين من المشرق والمغرب يفوق بكثير ما كان في القرن السابق، ويمكننا أن نذكر منهم: أبا جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) وأبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت311هـ) وأبا عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ابن يزيد الإسفراييني (ت316هـ) وأبا القاسم عبدالله بن محمد البغوي (ت317هـ) وأبا جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (ت321 هـ) وأبا عمران موسى بن العباس بن محمد الجويني (ت323هـ) وأبا حامد أحمد بن محمد بن الحسن النيسابوري المعروف بابن الشَّرْقي (ت325هـ) ومحمد بن عبدالملك بن أيمن القرطبي (ت330هـ) وأبا محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم الطوسي البلاذري (ت339هـ) وأبا محمد قاسم بن أصبغ البياني الأندلسي (ت340هـ) وأبا الحسين خيثمة بن سليمان (ت343هـ) وأبا النصر محمد ابن محمد بن يوسف الطوسي (ت344هـ) وأبا عبدالله محمد بن يعقوب الشيباني المعروف بابن الأخرم (ت344هـ) وأبا الوليد حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القزويني (ت344هـ) وأبا بكر أحمد بن سليمان النجاد (ت348هـ) وأبا علي سعيد بن عثمان بن سعيد ابن السكن (ت353هـ) وأبا سعيد أحمد بن أبي بكر الحيري (ت353هـ) وأبا حاتم محمد بن حبان البستي (ت354هـ) وأبا حامد أحمد بن محمد بن شارك الهروي (ت355هـ) وأبا القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ) وأبا بكر محمد بن الحسين الآجري (ت360هـ) وأبا علي الحسين بن محمد الماسرجسي (ت365هـ) وأبا بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي (ت371هـ) وأبا أحمد محمد بن أبي حامد بن الغطريف الجرجاني (ت377هـ) وأبا عبدالله محمد بن العباس بن أحمد المعروف بابن أبي ذهل الضبي (ت378هـ) وأبا الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني (ت385هـ) وأبا حفص عمر بن أحمد بن شاهين (ت385هـ) وأبا سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت388هـ) وأبا بكر محمد بن عبدالله الجوزقي (ت388هـ) وأبا عبدالله محمد بن إسحاق بن منده (ت395هـ) وإبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي (ت400هـ) وخلف بن محمد الواسطي (ت401هـ) وأبا عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم الضبي المعروف بابن البيع (ت405هـ).
وقد عمل هؤلاء المصنفون في الغالب الأعم على إتمام الصرح الذي شيده أئمة القرن الثالث وإكماله، فجاءت كتب هؤلاء مرتبطة بمؤلفات ذلك القرن جزئيا أو كليا، ووجدت في ذلك اتجاهات متعددة كان منها اتجاه ارتبط بنفس الفكرة والهدف اللذين كانا لدى بعض أعلام القرن الثالث فألف على منوالهم بقصد إكمال المشروع الذي بدؤوه؛ ومن أشهر المصنفين في إطار هذا الاتجاه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت311هـ)، وأبو علي سعيد ابن عثمان بن سعيد بن السكن (ت353هـ) وأبو حاتم محمد بن حبان البستي (ت354هـ)، فهؤلاء جميعا صنفوا في الصحيح المجرد كالبخاري ومسلم وهم وإن كانوا لم يشترطوا في الصحة درجة الشيخين، ولوحظ لدى بعضهم تساهل فقد قيل: إن أصح مَنْ صَنَّفَ في الصحيح بعد الشيخين ابن خزيمة فابن حبان.
وقد بيَّن ابن خزيمة مقصده من الكتاب وشرطه فيه بعبارة جد مقتضبة فقال في أول كتاب الوضوء: “مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي بنقل العدل عن العدل موصولا إليه من غير قطع في أثناء الإسناد ولا جرح في ناقلي الأخبار”()، بينما سمَّى ابن حبان كتابه التقاسيم والأنواع ونص فيما يخص الشرط على نفس ما نص عليه ابن خزيمة تقريبا، فقال في المقدمة: “ثم نملي الأخبار بألفاظ الخطاب بأشهرها إسناداً وأوثقها عماداً من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها..”.
وقد أبان عن الدافع الذي دفعه إلى وضع هذا الكتاب بقوله: “وإني لما رأيت الأخبار طرقها كثرت ومعرفة الناس بالصحيح منها قلت: لاشتغالهم بكتبة الموضوعات وحفظ الخطأ والمقلوبات، حتى صار الخبر الصحيح مهجوراً لا يكتب، والمنكر المقلوب عزيزا يستغرب، وأن من جمع السنن من الأئمة المرضيين، وتكلم عليها من أهل الفقه والدين، أمعنوا في ذكر الطرق للأخبار، وأكثروا من تكرار المعاد للآثار؛ قصداً منهم لتحصيل الألفاظ على من رام حفظها من الحفاظ، فكان ذلك سبب اعتماد المتعلم على ما في الكتاب وترك المقتبس التحصيل للخطاب فتدبرت الصحاح لأسهل حفظها على المتعلمين وأمعنت الفكر فيها؛ لئلا يصعب وعيها على المقتبسين”.
وإنما سماه التقاسيم والأنواع لأنه رتبه بطريقة مخترعة لم يسبق إليها، فلا هي على الأبواب ولا هي على المسانيد بل هي تقسيم أصولي فريد جاء على صورة بَيَّنها بقوله: “فرأيتها تنقسم خمسة أقسام متساوية متفقة التقسيم غير متنافية. فأولها: الأوامر التي أمر الله عباده بها والثاني: النواهي التي نهى الله عباده عنها والثالث: إخباره عمَّا احتيج إلى معرفتها، والرابع: الإباحات التي أبيح ارتكابها والخامس أفعال النبي التي انفرد بفعلها، ثم رأيت كل قسم منها يتنوع أنواعا كثيرة، ومن كل نوع تتنوع علوم خطيرة ليس يعقلها إلا العالمون الذين هم في العلم، راسخون دون مَنْ اشتغل في الأصول بالقياس المنكوس، وأمعن في الفروع بالرأي المنحوس، وإنا نملي كل قسم بما فيه من الأنواع وكل نوع بما فيه من الاختراع الذي لا يخفى تحضيره على ذوي الحجا، ولا تتعذَّر كيفيته على أولي النهى، ونبدأ منه بأنواع تراجم الكتاب..”(82).
ومن أمثلة الأنواع المذكورة في الكتاب، والتي قسم بموجبها الأخبار ما ذكره في قسم الأوامر فقال: “تدبرت خطاب الأوامر عن المصطفى لاستكشاف ما طواه في جوامع كلمه، فرأيتها تدور على مائة نوع وعشرة أنواع يجب على كل منتحل للسنن أن يعرف فصولها وكل منسوب إلى العلم أن يقف على جوامعها لئلا يضع السنن إلا في مواضعها ولا يزيلها عن موضع القصد في سننها فأما النوع الأول من أنواع الأوامر فهو لفظ الأمر الذي هو فرض على المخاطبين كافة في جميع الأحوال، وفي كل الأوقات، حتى لا يسع أحداً منهم الخروج منه بحال. النوع الثاني: ألفاظ الوعد التي مرادها الأوامر باستعمال تلك الأشياء. النوع الثالث: لفظ الأمر الذي أمر به المخاطبون في بعض الأحوال لا الكل. النوع الرابع: لفظ الأمر الذي أمر به بعض المخاطبين في بعض الأحوال لا الكل. النوع الخامس: الأمر بالشيء الذي قامت الدلالة من خبر ثان على فرضيته وعارضه بعض فعله ووافقه البعض..”(83).
وهذا ما يمثل تطورا مهماً ومنعطفا كبيرا في مسيرة التصنيف في السنة النبوية لاشك أن له علاقة وطيدة بهاجس الاستنباط الذي بات في نظر العلماء يحتاج إلى استكمال قواعده، ومزيد بيان، وتوضيح ضوابطه؛ حماية للنص النبوي من عبث العابثين، وتأويل الجاهلين والمبتدعين، كما أن له علاقة كذلك وبلا شك بظاهرة انتقال المذاهب الفقهية إلى طور جديد أصبحت بموجبه بارزة أكثر وراسخة ومحددة لطبيعة صلة الأمة بالكتاب والسنة، وانتسب الناس من حيث عملهم بفروع الشريعة إلى إحدى المذاهب السائدة، بعد أن لم يكن الأمر على هذه الصورة في القرن السابق.
وفي هذا الإطار أيضا ألَّف أبو جعفر الطحاوي (ت321هـ) كتابه “شرح معاني الآثار” رتبه على الكتب والأبواب وذكر فيه ما يتعلق بالأحكام الشرعية من الآثار مبينا الناسخ من المنسوخ، والمطلق من المقيد، وواجب العمل منها من غيره، وَبيَّنَ أن قصده الرد على أهل الإلحاد والزندقة.
وأما الاتجاه الآخر فقد جعل الكتب المتقدمة مركز دراسته ومحور اهتمامه فاشتغل عليها بالاستخراج أو بالاستدراك أو بالفهرسة، ويُظْهِرُ هذا الاتجاه هاجسا آخر لا يقل عن الآخر أهمية، وهو رغبة المحدثين في الجمع الشامل والموسوعي لمتون السنة النبوية التي يعتقدون أنه لم يضع منها شيء.
وقد كان للصحيحين الحظ الأوفر من عناية أصحاب هذا الاتجاه؛ فالمستخرجات ارتبطت بهما بالدرجة الأولى والاستدراكات كذلك وكتب الأطراف والفهارس اتجهت في البداية إليهما.
وهكذا استخرج كل من أبي بكر الإسماعيلي (ت371هـ) وأبي أحمد ابن الغطريف الغطريفي (ت377هـ) وابن أبي ذهل الضبي (ت378هـ) على صحيح البخاري، واستخرج أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (ت316هـ)، وكذا أبو بكر الجوزقي (ت388هـ) على صحيح مسلم، واستخرج عليهما معا أبو علي الماسرجسي (ت365هـ)، وكذا أبو بكر الجوزقي (ت388هـ).
والمستخرج عند المحدثين هو كما عرفه الكتاني رحمه الله أن يأتي المصنف إلى الكتاب فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه في شيخه أو في من فوقه ولو في الصحابي مع رعاية ترتيبه ومتونه وطرق أسانيده. وشرطه ألا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد سنداً يوصله إلى الأقرب إلا لعذر مِنْ علو أو زيادة مهمة. وربما أسقط المستخرج أحاديث لم يجد له بها سنداً يرتضيه، وربما ذكرها من طريق صاحب الكتاب(84).
وللمستخرجات فوائد كثيرة من أهمها علو الإسناد وزيادة الصحيح الذي هو غاية في حد ذاته، فإن تلك الزيادات صحيحة لكونها بإسنادهما(85).
واختار أبو الحسن الدارقطني (ت385هـ) وأبو عبدالله الحاكم (ت405هـ) استدراك ما فاتهما من الحديث الذي على شرطهما، وقد سمى الدارقطني كتابه “الإلزامات” وهو صغير الحجم؛ لكونه أول محاولة في هذا المجال، في حين كان مصنف الحاكم المسمى بالمستدرك كبيرا، ودالاًّ على ضخامة الجهد المبذول فيه.
ويتبين من المقدمة التي وضعها له أن تشويش الزنادقة والمبتدعة على السنة النبوية لم يعرف التوقف، وأن انشغال المحدثين بالرد عليهم عمليا كان قويا جدا، فهو رحمه الله قد ربط مقصده من تأليف الكتاب بقضية واحدة هي إبطال مقالة من يدعي قلة الأحاديث الصحيحة وانحصارها فيما ألفه الشيخان رحمهما الله، وهي مقالةٌ يُراد بها تضييق شروط الصحيح وتقليص دائرة المقبول، وركوبها إلى الطعن في منهج أهل السنة عامة وإبطال العمل بالحديث، بناء على التحسيس بالعجز عن التمييز بين المقبول والمردود في أغلب النصوص، ومما قاله الحاكم بصدد ذلك: “فمن هؤلاء الأئمة أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج رضي الله عنهما، صنفا في صحيح الأخبار كتابين مهذبين، انتشر ذكرهما في الأقطار، ولم يحكم واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجاه، وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المتبدعة يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث، لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء أو أقل أو أكثر منه كلها سقيمة غير صحيحة..”(86)، ثم ربط تأليفه للكتاب بهذا.
ونلمس في غير المستدرك من كتاباته، ولا سيما في المدخل إلى الصحيح على وجه الخصوص حضوراً قوياً لهذا الانشغال، فكأنه أراد بالمستدرك الرد العملي على مقولات هؤلاء المشككين وإثبات أن ما يصح من الحديث حتى حسب أضيق الشروط كثير يصعب حصره.
ولقد كان من أثر هذه الأعمال بالإضافة إلى ما سبق أن أكدت للأمة المكانة العالية للصحيحين، ودفعت إلى مزيد التشبث بهما، وسَعَتْ من ناحية ثانية إلى فتح الباب لمحاولات أخرى جديدة على هذا النحو، نظراً لكون عمل الشيخين تم على سبيل الاختصار وليس الاستقصاء.
وأما في مجال الفهرسة فقد صنف إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي (ت400هـ) أطراف الصحيحين وعمل مثله خلف بن محمد الواسطي.
من ناحية أخرى تابع العلماء تصنيف السنن، فألف فيها أبو الحسين أحمد ابن عبيد الصفار البصري (ت بعد 341هـ) وهي التي أكثر البيهقي من التخريج منها في سننه الكبرى، وأبو بكر محمد بن يحيى الهمداني (ت347هـ) وقيل عنه: “لم يسبق إلى مثلها”، وأبو بكر أحمد بن سليمان النجاد البغدادي (ت348هـ) وأبو الحسن الدارقطني (ت385هـ).
وَعَرَف هذا القرن نوعاً جديداً من المصنفات هي المعاجم، وهي الكتب التي تذكر فيها الأحاديث على ترتيب الصحابة أو الشيوخ أو البلدان أو غير ذلك، والغالب أن يكونوا مرتبين على حروف الهجاء(87).
وأشهرها معاجم الطبراني الثلاثة: الكبير وهو أكبر معاجم الدنيا على ما قال ابن دحية، والأوسط وكان يقول فيه: هذا الكتاب روحي لأنه تعب فيه، ثم الصغير.
ومن المعاجم غيرها معجم أبي القاسم البغوي (ت317هـ)، ومعجم أبي العباس الدغولي (ت325هـ)، ومعجم أبي بكر الإسماعيلي (ت371هـ)، ومعجم أبي سعيد بن الأعرابي (ت340هـ) أحد أشهر رواة سنن أبي داود، ومعجم أبي عبدالله الحاكم (ت405هـ).
ولقد كان تصنيف متون السنة النبوية يسير جنبا إلى جنب مع التأليف في قواعد علم المصطلح الحديثي والجرح والتعديل، فلابن حبان كتاب “المجروحين من المحدثين” ويحتوي على مقدمة نفيسة في علم المصطلح، وله أيضا “كتاب الثقات”، ولابن عدي أبي أحمد الجرجاني (ت365هـ) كتاب “الكامل في ضعفاء الرجال”، وهو من أهم الكتب في هذا المجال وعليه مُعَوَّل المحدثين، وللحاكم كتاب معرفة علوم الحديث وقبله وضع الرامهرمزي الحسن بن خلاد (ت360هـ)كتابه “المحدث الفاصل بين الراوي والواعي” الذي يعد أول كتاب وضع في علم أصول الحديث.
كما كان يوازيه من ناحية أخرى التأليف في فقه الحديث وشرح المصنفات الحديثية السابقة، ووضع الأسس لهذا المجال.
ثم كان التأليف في علل الحديث ومن أشهرها في هذا العصر “علل الأحاديث النبوية” لأبي الحسن الدارقطني (ت385هـ)، وهو فن عرف في القرن السابق، إلا أن الحاجة كانت تدعو إلى مواصلة التأليف فيه لاستيعاب كل الأحاديث بالنقد والتمحيص من ناحية، ثم لاستيعاب كافة الميادين التي تتوقف عليها صحة النص النبوي أو فهمه بالدراسة والتأصيل.
وبالنظر إلى هذا العدد الهائل من المصنفات في شتى الفروع والتخصصات والميادين، يتبين أن السنة النبوية لم تعد بعد هذا القرن في حاجة إلى خدمات ضرورية أو أساسية وإنما إلى تتمات وتكملات فقط.
الخاتمة
كانت للدارسين على مر العصور عناية خاصة بقضية التدوين وازدادت درجة هذه العناية في العصر الحاضر بشكل كبير، وذلك في غمرة الرد على المستشرقين الذين توقفوا عندها مليا يزرعون من خلال ما يطرحون من شبهات حولها الشك في وثوقية السنة النبوية وصحة أحاديثها مستنفدين كل طاقاتهم في ذلك ومركزين بشكل خاص على المرحلة الأولى مرحلة التدوين.
ومن المهم جداً بناء القضية ومعالجتها بتقدير هذه الإشكالات، وبعد استيعاب كل الاعتراضات واستحضارها، لأن ذلك مما يكسب الدراسة القوة والمتانة، لكن بشرط أن لا يؤثر ذلك سلبا في مستوى البحث والتناول، إذ من شأن الانشغال بالردود أن يرجع بالبحث إلى الوراء، وربما أوقفه بالمرة بعد أن يكون قد قطع مراحل تقترب به من النهاية وتحقيق النتائج.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن حركة تدوين السنة النبوية سارت على وتيرة تميزت بالسرعة والتطور والمرونة والعبقرية، الأمر الذي جعلها تتفاعل مع الواقع بكامل الوعي واليقظة في الوقت الذي تتجه فيه إلى تحقيق ما تبقى من الأهداف، ومن ثم كان ذلك الثراء والتنوع الرائع في المصنفات على مختلف الأصعدة سواء منها المتعلق بالنقد أو الترتيب أو التبويب أو التراجم أو غير ذلك.
والله ولي التوفيق.
فهرس المراجع والمصادر :
(1) – الأصول، للسرخسي محمد بن أحمد بن سهل، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، بيروت، دار المعرفة، 1370هـ.
(2) – أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني، مخطوط، ابن طاهر المقدسي.
(3) – أعلام الموقعين عن رب العالمين، القاهرة، شركة الطباعة الفنية 1388ﻫ/1968م، ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر.
(4) – الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2، 1408ﻫ/1988م عتر، نور الدين.
(5) – الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، مالك والشافعي وأبي حنيفة، بيروت، دار الكتب العلمية ابن عبدالبر، يوسف بن عبدالله النمري القرطبي.
(6) – تاريخ أبي زرعة، تحقيق شكر الله بن نعمة الله قوجاني، دمشق، مطبعة المفيد الجديدة، 1400ﻫ/1980م أبو زرعة، عبدالرحمن بن عمرو.
(7) – تاريخ التراث العربي، نقله إلى العربية فهمي أبو الفضل، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1971م سيزكين، فؤاد.
(8) – تدريب الراوي في شرح تقريب النووي. تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف. بيروت دار إحياء السنة النبوية ط 2: 1399ﻫ-1979م السيوطي، عبدالرحمن بن أبي بكر.
(9) – تذكرة الحفاظ، مراجعة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي، بيروت، دار الكتب العلمية 1374هـ الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان.
(10) – تطور دراسات السنة النبوية ونهضتها المعاصرة وآفاقها، بيروت دار إحياء العلوم، ط1، 1413ﻫ/1993م حمادة، فاروق.
(11) – تقييد العلم، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، ط2، 1974م الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي.
(12) – التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1399ﻫ/1979م ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي.
(13) – التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ابن عبدالبر، يوسف بن عبدالله النمري القرطبي.
(14) – تهذيب الأسماء واللغات، مصر، إدارة الطباعة المنيرية النووي، أبو زكريا محي الدين بن شرف.
(15) – تهذيب التهذيب، بيروت، دار الفكر، ط1، 1404ﻫ/1984م، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي.
(16) – الجامع الصحيح، النسخة المطبوعة مع فتح الباري، المطبعة السلفية البخاري، محمد بن إسماعيل.
(17) – جامع بيان العلم وفضله، لبنان، دار الفكر، ابن عبدالبر، يوسف ابن عبدالله النمري القرطبي.
(18) – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق محمود الطحان، الرياض مكتبة المعارف، 1403ﻫ/1983م الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي.
(19) – الجرح والتعديل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1371ﻫ/1952م ابن أبي حاتم، أبو محمد عبدالرحمن الرازي.
(20) – الحديث والمحدثون أو عناية الأمة الإسلامية بالسنة النبوية، بيروت، دار الكتاب العربي، 1404ﻫ/1984م محمد محمد أبو زهو.
(21) – حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، بيروت، دار الكتاب العربي، ط4، 1405ﻫ/1985م الأصفهاني، أبو نعيم.
(22) – الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، بيروت دار الكتب العلمية، ط 2: 1400ﻫ/1980م الكتاني، محمد بن جعفر.
(23) – رسالة وصل البلاغات الأربع في الموطإ، تحقيق سيدي عبدالله بن الصديق، دون ناشر، 1400ﻫ/1979م ابن الصلاح.
(24) – السنن، مراجعة محمد محيي الدين عبدالحميد. دار إحياء السنة النبوية. ط دار الفكر أبو داود، سليمان بن الأشعت.
(25) – سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1405ﻫ/1985م الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان.
(26) – شرح السيوطي على سنن النسائي، حلب، مكتب المطبوعات الإسلامية ط 2: 1406ﻫ-1986م السيوطي، عبدالرحمن بن أبي بكر.
(27) – شرح علل الترمذي، تحقيق صبحي السامرائي، بيروت، عالم الكتب، ط2، 1405ﻫ/1985م ابن رجب، عبدالرحمن بن أحمد الحنبلي.
(28) – الصحيح بترتيب ابن بلبان، بيروت، دار الكتب العلمية ابن حبان، محمد بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي.
(29) – صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، الرياض، رئاسة إدارة البحوث العلمية، 1400ﻫ/1980م مسلم بن الحجاج.
(30) – طبقات الحنابلة، تحقيق محمد حامد الفقي، بيروت، دار المعرفة ابن أبي يعلى، أبو الحسين محمد.
(31) – الطبقات الكبرى، القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم، تحقيق زياد محمد منصور، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط1، 1403ﻫ/1983م ابن سعد.
(32) – عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح: دراسة تحليلية، بيروت، دار ابن حزم، ط1، 1418ﻫ/1997م حمزة المليباري.
(33) – العلل، تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف. بيروت، دار الفكر، 1400ﻫ/1980م الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة.
(34) – الفقيه والمتفقه، بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ، الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي.
(35) – قواعد التحديث، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1399ﻫ/1979م القاسمي، جمال الدين.
(36) – قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1381ﻫ/1961م أبو طالب المكي، محمد بن علي بن عطية الحارثي.
(37) – الكامل في ضعفاء الرجال، بعناية مختار غزاوي، بيروت، دار الفكر، ط3، 1409ﻫ/1988م ابن عدي، أحمد بن عبدالله الجرجاني.
(38) – المسند، بيروت، دار الفكر، دون تاريخ ابن حنبل، أحمد.
(39) – المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي، ط1، 1390ﻫ/1971م عبدالرزاق بن همام الصنعاني.
(40) – معالم السنن، مطبوع بهامش مختصر سنن أبي داود للمنذري، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة، مكتبة السنة المحمدية الخطابي، حمد بن محمد البستي أبو سليمان.
(41) – معرفة السنن والآثار، تحقيق أحمد صقر، مصر، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1389ﻫ/1969م البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين.
(42) – المعرفة والتاريخ، تحقيق أكرم ضياء العمري، بغداد، مطبعة الإرشاد، 1394ﻫ/1974م الفسوي، يعقوب بن سفيان.
(43) – النكت على كتاب ابن الصلاح، تحقيق ربيع بن هادي عمير، المدينة المنورة، منشورات الجامعة الإسلامية، ط 1، 1404ﻫ/1984م ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي.
(44) – هدي الساري مقدمة فتح الباري، ط. السلفية ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي.
فهرس المحتويات :
مدخــل: 1
(1)- تحديد المصطلحات: 1
(أ)- معنى الكتابة لغة: 3
(ب)- معنى التدوين لغة: 4
(ج)- معنى التصنيف لغة: 4
(2)- تدوين السنة النبوية في القرن الثاني الهجري: 6
– التصنيف وبدايته في القرن الثاني: 17
(3)- تدوين السنة النبوية في القرن الثالث الهجري: 21
(4)- تدوين السنة النبوية في القرن الرابع الهجري: 41
الخاتمة 52
فهرس المراجع والمصادر 52
فهرس المحتويات 52